لا ثم لا ….لمؤتمر جنيف

تحولنا نحن العرب، منذ داست سنابك خيل هولاكو كتب بغداد، إلى مطية يمتطيها أي راكب يمر بهذي الأرض…فقد كان الصليبيون قد استوطنوا سواحل المتوسط… ثم جاءنا العثمانيون بغطاء الإسلام المزيف “فتركونا” وتركونا في زاوية التخلف والجهل..ثم جاء البرتغاليون والهولنديون ونزلوا سواحل جزيرة العرب. وبعدهم جاء الفرنسيون والإنكليز ونزلوا حيث شاؤوا من أرض العرب وجاء الفرس وتنافسوا على العراق مع العثمانيين… وأخيراً جاءنا الصهاينة في ردائين أحدهما في شكل استيطان مغتصب في دولة إسرائيل والآخر على شكل نظام سياسي منافق فاسد ومفسد تحت غطاء حقوق الإنسان التي لايقيم لها وزناً في دولة الولايات المتحدة عدوة الشعوب..

وكنا وما زلنا في كل تلك القرون لا دور لنا في تقرير مصيرنا أو نوع الحياة التي يمكن لنا أن نحياها… فقد كنا متفرجين حين كانت مصائرنا ومصائر الإجيال الآتية من بعدنا تقرر بالنياية عنا من قبل هؤلاء الغرباء والتي كانت جميعها تتم لمصلحة هذا الغريب أو ذاك….ولا أعتقد أن أية منطقة في العالم عاشت مثل هذا الذل لمثل هذه الفترة الطويلة من عمرها!

ولم يكتفوا بهذا بل ذهبوا ابعد من ذلك فأسسوا منظمات أسموها “دولية” وألزمونا أن ندخلها ونلتزم بها في الوقت الذي جعلوا أنفسهم فوقها… فكان لهم أن يتسلحوا بما يشاؤون ويستعملوا ذلك السلاح المدمر متى شاؤوا وأن يهدموا بيوتنا على رؤوسنا إذا فكرنا بتسليح أنفسنا بأبسط الأسلحة وأخبرونا أنهم فعلوا ذلك لأننا لم نتبع “القانون الدولي”…

وكنا وما زلنا سبباً اساساً في كل ما يجري لنا. فلم تكن الأمور كلها من صنع الغريب فلو كان الأمر كذلك لوقع ببقية الشعوب ما وقع بنا لكنها جميعاً، حتى شعوب أفريقيا التي خرجت للدنيا حديثاً، تجاوزت مصيراً كمصيرنا في فترة قصيرة. فجعلنا من دين الهداية سبباً للفساد والطغيان واتخذنا من وعاظ الحكام أئمة يمجدون الإستكبار والتجبر بحجة وجوب طاعة ولي الأمر كل ذلك خلافاً لما أمر الله به….

وهكذا انطبق علينا قول أبي الطيب:

من يهن يسهل الهوان عليه        ما لجرح بميت إيلام

وفصول هذا الذل والهوان طويلة لو بدأنا بسردها قد لا ننتهي. فنكتفي بفصلي العراق وسورية. وسبب الإستدلال بما حدث في العراق وسورية أنها تجمع قصة الهوان كاملة ولأن الدولتين كانتا قاعدتي إحتمال تغيير وضع الذل والهوان وهو التغيير الذي لم يرد له الأعداء أن يتحقق.

فحين ولدت حركة البعث في سورية في مطلع القرن العشرين على يد عدد من المسلمين والنصارى في بلاد الشام فإنها مثلت تطلع الأمة للتخلص من التخلف الذي أوصلتهم اليه الخلافة الإسلامية العثمانية والتطلع للوحدة العربية التي فيها قوة وصلاح الأمة. وقد تمكنت الصهيونية خلال العقود الثلاثة الماضية، بمساعدة الحركات الإسلامية بسنتها وشيعتها، وبتقصير من البعث نفسه، في تشوية صورة وتأريخ حركة البعث حتى أصبح بعض “اللطامة” في العراق يتندرون في الإشارة للبعثيين على أنهم “قومجية” وكأن القومية سبة واللطم سنة!

ولكي نذكر الناس بما قام البعث عليه، إن لم يكن لشيء فأمانة للتأريخ، نقول إن من مبادئ الحركة عدم الإعتراف بالتقسيم والحدود التي رسمها الإستعمار الصهيوني للمنطقة إثر سقوط الخلافة العثمانية البالية…. فمن ذلك عدم الإعتراف بأن بلاد الشام أربع دول وأن العراق دون المحمرة ودون منفذه على البحر في الكويت وأن فلسطين للصهاينة الغرباء وأن الخليج العربي محطات نفط يديرها أنصاف رجال لا يملكون من الدنيا سوى الغرائز البهيمية التي قد تعف عن بعضها حتى جمالهم! هكذا كان بعث زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وفؤاد الركابي ونور الدين الأتاسي وهكذا هو البعث اليوم في مبادئه… فلا يظنن أحد انه بسبب موقف ذاتي عاجز عن فهم المعركة وحجمها إتخذ موقفاً معادياً في العراق أو سورية أنه سينزع عن البعث هذه الحقيقة، ولا يظنن أحد أنه يمكن له أن يميز بين بعث العراق وبعث سورية دون ان يفقد الموضوعية في الفهم والتحليل ويطلق للعواطف الذاتية الساذجة أن تستحوذ عليه فيكتب “كمـا إنَ محـاولات  الاصطيـاد بـالمـاء العـكـر وخـلط الاوراق  التي يعتقـد البعض انـه قـادرا عـلـى تمـريرهـا  مـن خـلال المقـاربـة بيـن المـبدئيـة العقـائـديـة التـي جسـدهـا البعـث فـي ســوريـة , وبيـن السـلطـويـة العبثيـة التي حكـم بهـا سـلطـوي بغـداد العـراق , وعـاثـوا بــه خـرابـا  الـى أنْ اغـرقـوة فـي مســتنقعـات الحـروب والحصـار والفقـر والتخـلف وتغييب الـوعـي الجمعـي فـي الشــارع , ومـن ثـم سـلـمـوة عـلـى طـبق مـن ذهـب الـى امـريكـا وكـل مـن لـه ثـأرا معهـم  بسـبب غبـائيتهـم ، فإذا كان سبب تسليم العراق لأمريكا هي دخوله مستنقع الحروب فما هي علة تخريب سورية إذن وهي لم تدخل اي من مستنقعات الحروب تلك؟

فكل ما قاله أعداء البعث في العراق يقوله اليوم أعداء البعث في سورية….

كيف ولماذا خرب العراق؟

حين نجح البعث في حكم العراق فإنه سار على خط اعتقد أنه سيمكنه من تحقيق أهداف الحركة في توحيد الأمة وحريتها وتحقيق حد من العدالة الإجتماعية… ولا يمكن إلا لأعمى ومتعصب أن ينكر أن البعث سعى صدقاً في ذلك الطريق…. وتكفي موازنة واحدة بين ما حققه البعث في العراق في السنوات العشر بين عامي 1970 و1980 وما حققته حكومات الإحتلال الأمريكي في السنوات العشر بين 2003 و2013 للإجابة على هذا.

فهل أخطأ البعث في العراق؟ نعم وألف نعم… هل أخطأ في حربه مع إيران؟ نعم..

هل أخطأ في موقفه من كل قضايا العرب المركزية وأولها فلسطين؟ كلا وألف كلا…

هل أخطأ في دخوله الكويت؟ لا ونعم.. فهو لم يخطئ من حيث المبدأ لأن البعث قام على هذا المبدأ تماماً كما لو أن الجيش السوري دخل الإسكندرونة في أي يوم، ونعم.. لأنه اختار أسوء مرحلة في تأريخ القرن العشرين للقيام بعمل بهذه الجسامة لم يكن قد أعد له..

إن من يقرأ تأريخ وتفاصيل مشاريع الصهيونية يدرك ذلك….وحبذا لو كلف بعض المحللين والكتاب العرب من الذين يطلعون علينا كل ساعة بتحاليل ما أنزل بها من سلطان، حبذا لو كلف هؤلاء أنفسهم أن يقرؤوا شيئاً مما كتبه الصهاينة عما خططوا للمنطقة… فلو قرأ كاتبنا المفوه جزءاُ من “مشروع العراق” الذي أعدته الولايات المتحدة عام 2001 لعراق ما بعد صدام لتوقف قليلاً قبل أن يكتب ما كتبه ….

فالعراق لم يخرب لأنه هاجم إيران (فقد كان الصهاينة يحبون ذلك) ولم يخرب لأنه منع حرية الكلمة ولم يخرب لأنه منع بعض الناس من مواكب العزاء واللطم ولم يخرب لأنه منع بعضاً أخر من مجالس الذكر … بل خرب العراق لأنه حقق نجاحاً في التعليم لم يحققه بلد آخر مجاور، وخرب لأنه أوصل الخدمة الصحية لكل قرية، وخرب لأنه أزال الأمية، وخرب لأنه أمد الناس بالماء والكهرباء والهاتف والوقود بثمن بخس، وخرب لأنه تسامح مع الأقليات، وخرب لأنه أحسن معاملة النساء…. وخرب حقاً لأن كل ما حققه كان بسبب مبدئيته القومية والتي كانت مناقضة للمشروع الصهيوني للمنطقة والتي عمل عليها الصهاينة منذ أسسوا حلف آل سعود وآل عبد الوهاب في نهاية القرن الثامن عشر…. أي بمعنى أخر ان سياسات البعث وخططه كانت تطبيقه للمشروع القومي العربي لبناء الأمة…. فزوال البعث في العراق كان جزءاً من هدم هذا المشروع وكل ما يترتب عليه.

لماذا تخرب سورية اليوم؟

إن ما يجري في سورية اليوم هو إستكمال لعملية خراب العراق وهدم المشروع القومي الذي تبناه البعث في المشرق العربي ذلك الخراب الذي بوشر به عمليا يوم الغزو الأول للعراق في 1991 والذي شاركت سورية بجهالة فيه، واستكمل في غزو العراق عام 2003. أي بمعنى آخر إن خراب سورية بدأ في عام 1991 فلو لم يغز العراق لأستحال أن يحدث في سورية ما يحدث اليوم.

ولعل من الضروري الإستدراك هنا والقول أن المتابع للحدث لا يمكنه أن يراقب أن المحللين السورين حين يعدون جرائم الأعراب بحق الأمة لا يدخلون فيها جريمة خراب العراق عام 1991 لأنهم إن فعلوا ذلك واجهوا السؤال المؤرق: أين كنتم يومها؟

فحين استتب الأمر للصهيونية في العراق فنزعت سلاحه وأخرجته من المشروع القومي كلياً وحولته الى مزرعة تتقاسمها المذاهب والأعراق حسب مقدرتها على فرض إرادتها كما مكنها الصهيوني من ذلك بعد أن حل جميع قوى الجيش والأمن والشرطة في العراق، حين ذلك باشر الصهيوني بتسوية الحسابات مع سورية لأنهائها كما أنهى العراق حتى يسود الأمر للصهاينة بشكل تام ولأول مرة منذ الحرب العالمية الأولى.

وأول ما فعله الصهاينة هو الإخراج المذل لسورية من لبنان. وحبذا لو كتب لنا أحد خبراء “الإستراتيجية” العرب، وما أكثرهم، كتاباً موضوعياً عن سبب دخول سورية للبنان بشكل غير مدروس وخروجها بشكل مذل؟

ثم نجح خدام الصهاينة في سورية باقناع بشار الأسد، وليته لم يفعل، بما أسموه الإنفتاح الإقتصادي والخروج من سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج إلى نظام هجين سموه “إقتصاد السوق” وهو في الحقيقة “إقتصاد سوق السرقة والفساد” فخلق طبقة من الأثرياء الفاسدين والمفسدين وترك جموعاً من العاطلين عن العمل ممن تحولوا لاحقاً الى وقود الحركة الشعبية ضد البعث. وإلا فهل يستطيع أحد من خبراء الإقتصاد والمال في سورية، بمن فيهم محافظ مصرف سورية المركزي، أن يشرح لنا سبب حاجة الليرة السورية أن تكون عملة حرة في مقابل الدولار ولماذا يحتاج المواطن السوري الذي يعيش في سورية أن يبدل عملته بالدولار؟ أليس من قبيل جمع النقائض أن يعتقد العاقل أن بإمكانه أن يربط مصير عملته واقتصاده بعملة واقتصاد عدوه؟؟؟

ثم نجح خدام الصهاينة في اقناع بشار الأسد في مواصلة سياسة والده الخاطئة في استرضاء أعراب الجزيرة والخليج…وهو يعلم جيداً ما يريدون فعله لأنه شهد بعينيه، وهو يدرس في بريطانيا، ما فعلوه في العراق عام 1991 وشهد ما فعلوه في غزو العراق عام 2003 وهو في الحكم.. هذا إذا لم نرد أن نذكره بمبادئ البعث التي ربيناه عليها والتي كانت وما زالت ترفض كل دويلات الذل والهوان في جزيرة العرب والخليج والتي نصبها الصهاينة من أجل مشروعهم لتقسيم الأمة وإذلالها… فلا يقولن قائل ان للسياسة ضرورات، لأن الضرورة لها حدود وهي، أي الضرورة، تقف عندما تتجاوز السياسة المبادئ. فالمبادرة العربية المتممة  لكامب ديفيد وأوسلو والتي جاءت بعد خراب العراق كانت جزءاً من ذلك الإستسلام وما كان لبشار أن يوافق عليها!

ولعل من أشد ما يحير المراقب أن عددا من الكتاب والمسؤولين السوريين يطلع علينا اليوم ليقول أنه تفاجأ بالتغير الذي حدث في مواقف تركيا وحكام الخليج من سورية… فهل يعتقد هذا أن تركيا وهي عضوة في المشروع الصهيوني المتمثل في حلف بغداد سابقاً وحلف شمال الأطلسي والتي لها اتفاقات أمنية مع الصهيونية بأشكال متعددة، يمكن أن تكون صديقة لدولة قومية مثل سورية؟ وهل يعتقد هذا المتفاجئ أن أياً من محطات النفط والغاز المحتلة بالكامل من قبل الصهيونية يمكن أن يكون لها موقف غير معاد للمشروع القومي في سورية؟ فأين المفاجأة في هذا؟ إن المفاجأة الوحيدة للمتابع هي أن أغبياء مثل حمد وأردوغان تمكنوا من خداع القيادة السورية بهذه السهولة….

لماذ يجب أن نرفض مؤتمر جنيف؟

يبدو لي من هذا العرض الموجز لطبيعة المعركة وما جرى خلال العقود التسعة منذ سايكس بيكو أن المشروع القومي العربي عانى وذبح ويكاد اليوم يعيش سكرات الموت بسبب أن أبناءه ودعاته سمحوا لأنفسهم أن يخدعوا بموضوع الإشراف الغربي على مصائرهم والذي اتخذ صوراً متعددة لكنه أياً كانت الصورة هو لا يعدو أن يكون تأكيداً وتثبيتاً لقناعة غربية أن لهم الحق في حكمنا وتقرير طريقة عيشنا وفكرنا حتى إذا كان في ذلك مسخ لهويتنا وإلغاء لشخصيتنا وتدمير للغتنا وتأريخنا وتراثنا….إن الإستعمار الذي إعتقد البعض أنه خرج على شكل جيوش غازية من مصر وسورية والعراق دخل بشكل أخبث وأقوى حين سمحنا له أن يتحكم بنا تحت غطاء ما اصطلح الجهلاء من العرب على توصيفه بـ “الشرعية الدولية”، ولا بد من الإشارة إلى أني بذلت الجهد الجهيد وأنا أبحث عن مصدر هذه المصطلح في اللغة الإنكليزية فلم أجد له ما يقابله في القانون أوالسياسة الأنكلو سكسونية، فلربما هو ورقة التوت التي أوجدها الحكام العرب لستر سوءاتهم!

فقد رسموا تحت غطاء الشرعية الدولية حدود المنطقة وقسموها بشكل يسمح لهم بالتلاعب بها واحتكارها والضغط عليها…. وسكتنا عن ذلك!

و نصبوا تحت غطاء الشرعية الدولية حكومات وهمية مقابل أن تسلمها تلك الحكومات مصائرنا ونفوطنا…

وتحت غطاء الشرعية الدولية أخذوا فلسطين وأعطوها للغرباء..ووضعونا في مخيمات الذل والإستجداء…

و غزوا قناة السويس تحت غطاء الشرعية الدولية..

وتحت غطاء الشرعية الدولية غزوا مصر وسورية والأردن عام 1967 واستباحوا ما استباحوا ثم أصدروا لنا قرارات جديدة فتغيرت مطالبنا من حدود 1948 الى حدود 1967…

واستباحوا العراق عام 1991 تحت غطاء الشرعية الدولية بمشاركة كل العرب وحولوه إلى أنقاض دولة بعد أن دمروا كل مرفق حياة فيه…

و حاصروا العراق تحت غطاء الشرعية لثلاثة عشر عاماً حتى صدقت نبوءة “لا تقوم الساعة حتى لا يكاد يدخل إلى العراق قفيز ولا مدّ ولا درهم”  فقتلوا خلالها من قتلوا وأجهضوا الأجنة في الأرحام وخربوا مرافق الحياة وحولوا الإنسان في العراق الى هيكل مسلوب الكرامة يباع ويشترى….وساهمنا في ذلك حين سكتنا عن جريمة جاء رجل من أمريكا اللاتينية ليقول للعراق أنها جريمة ولم يمتلك عربي واحد جرأة أن يقولها لأننا نؤمن بالشرعية الدولية ولا شك…

وتحت غطاء الشرعية الدولية ومن أرض محمد بن عبد الله (ص) خرجت جيوش البغي لتغزو العراق وتحتله في 2003….

و أصدروا تحت غطاء الشرعية الدولية قرارات تجيز للغازي والمحتل أن يعبث بالعراق كما يشاء وفق “قانونهم” الدولي…ثم باركوا حكومات الجهالة التي نصبتها فتاوى المراجع الضالة بحجة أنها “ديموقراطية” ما دامت تهتدي بصاحب الزمان الذي يجلس في واشنطون…

و هاجموا ليبيا تحت غطاء الشرعية الدولية وقتلوا من قتلوا فيها وخربوا ما خربوا ثم تركوها للصوص والبهائم ليعبثوا فيها بعد أن عاشت أربعين عاماً في أمن وسلام…

و يريدون اليوم تحت غطاء الشرعية الدولية أن ينهوا سورية عن طريق التفاوض بعد أن عجزوا في الإجهاز عليها بالسلاح…

لكننا لا بد أن نقول كفى ونتوقف..

أي لا يمكن أن يعقد مؤتمر حول سورية يشارك فيه أي طرف غير سوري. فلماذا يكون لأمريكا وبريطانيا وفرنسا حق في أن تقرر مصير سورية؟ أليست هذه هي الدول التي شردت شعب فلسطين ومزقته؟ أليست هذه هي الدول التي قتلت ألف ألف عراقي خلال العشرين سنة المنصرمة دون جريرة؟ أتوافق بريطاينا، على سبيل المثال، على عقد مؤتمر عالمي لبحث مشلكة أيرلندة الشمالية والتي مضى عليه أكثر من قرنين دون حل؟

فما الذي يراد بحثه في جنيف حول سورية؟

إن مؤتمراً يديره الصهاينة لا يمكن أن يحقق خيراً لنا أيا كان برنامجه. ذلك أنه ليس سراً أن الصهاينة يريدون إسقاط البعث وجعل سورية كما جعلوا من العراق دويلة وهمية ليس لها حظ في أي تطور فيعيش أهلها على هامش التأريخ منشغلين بأكل وشرب ونكاح كما يعيش أعراب الجزيرة والخليج … وهم بهذا سيقنعون العقل العربي أنه لا حيلة له إلا القبول بسيادتهم وتفوقهم عليه..

وحيث إن هؤلاء الذين يصرحون ولا يسترون مشروعهم هم الذين سيحضرون مؤتمراً يقرر مصير سورية فإن أي قرار مهما حسنت صورته سوف يكون انتقاصاً لسيادة وكرامة سورية. أي بمعنى أدق إنهم يردون أن يحققوا عن طريق التفاوض ما عجزوا عن تحقيقه بالقوة والتخريب والقتل!

فإذا قال قائل أن سورية لن تعطي التنازلات، فسوف يكون السؤال الطبيعي: إذن لماذا تحضر مؤتمراً يديره أعداؤها إذا لم تكن تريد أن تعطي التنازلات؟

لكن الأهم من كل ذلك لماذا نرتضي أن يكون لأمريكا وبريطانيا وفرنسا رأي في مستقبل سورية السياسي؟ إن مجرد قبول سورية بحضورهم هو اعتراف من قبل سورية أنها ترضى أن يكون لهؤلاء دور في تحديد مستقبل سورية السياسي… وهم حتى إذا كانوا متفرجين فهم غير معنيين حقاً بما يريده الشعب السوري فقد نشرت المخابرات المركزية الأمريكية تقريراً لها يشير إلى ان تقديراتها هي انه لو جرى استفتاء على مستقبل الرئيس بشار الأسد اليوم لصوت له حوالي 75% من الشعب السوري، لكننا نجد أنهم رغم هذا يصرون على وجوب رحيل الرئيس الأسد ذلك لأن “الديموقراطية” عندهم هي فقط ما يتطابق مع مصالحهم..

ثم من سيمثل المعارضة وكيف يجري إختيارهم… فلست أدعي أني أعرف من يمثل المعارضة السورية حقاً لكني أشك كثيرا أن الصهاينة معنيين بمن يمثل معارضة البعث في سورية أكثر من اهتمامهم بمن يمثل مصالحهم والتي ليست بالضرورة متفقة مع المعارضة الوطنية السورية.. وهم بهذا سيأتون بأناس للمؤتمر بحجة أنهم يمثلون المعارضة ويطلبون لهم حصة في الحكم بغض النظر عما إذا كان الشعب السوري يعرف من هم أو إن كانوا حقاً يمثلون تطلعاته… وهكذا يرسم الصهاينة مستقل سورية من جديد كما فعلوا في سايكس بيكو ولوزان قبل حوالي مائة عام…

ثم هناك قضية مركزية تفوق كل هذا وتتجاوز “الديموقراطية” وحقوق الإنسان وهي: ما مستقبل سورية في قضية الصراع مع الصهيونية؟ فهذه القضية ليست موضوع تصويت شعبي ولا قضية “ديموقراطية” فحتى لو صوت أغلب الشعب السوري على الإستسلام للصهيونة فإنه يحق للأقلية أن ترفض ذلك وتفرض رأيها بقوة السلاح…. إن قضية الحرية وإلإستقلال الوطني ليست قضية تصويت كما أقنعوا السذج من أهل العراق بالفتاوى البائسة… إن الثورة والإستقلال والتحرر لم تكن يوماً في التأريخ قضية تصويت.. ومن يقرأ تأريخ الحرب الأهلية الأمريكية وحرب توحيد ألمانيا وحرب توحيد إيطاليا وحرب توحيد فيتنام يفهم ما أقول!

إن الخط الفاصل في السيادة هو أن كل دولة ترضى أن يتدخل غريب من الخارج لتقرير مصيرها ومستقبلها السياسي هي دولة منقوصة السيادة إن لم تكن منزوعتها…وقد بينت سابقاً أن هذا هو ما حدث لنا منذ مائة عام تحت غطاء ما أسماه المتخلفون من العرب “الشرعية الدولية”… وقد آن الآوان أن نقول كفي..لإن قبول سورية بحضور مؤتمر صهيوني يبحث مستقبلها السياسي هو قبول بنزع السيادة وتضييع لكل التراث القومي والنضالي منذ سبعين عاماً… ثم ماذا ستقول القيادة السورية للجيش البطل الذي يدافع عن تلك السيادة، أتقول له كما قال أنور السادات للجيش المصري البطل في منتصف حرب تشرين أنه يريد السلام الصهيوني فسلبه نشوة وعزة النصر الذي سفك الدم وضحى الغالي من أجله؟؟؟

لا ثم ألف لا  لمؤتمر الذل والإستعباد في جنيف… إذا أراد السوريون أن يبحثوا مستقبلهم فليجلسوا ويناقشوه فإن لم يفعلوه فليقاتلوا حتى النهاية… إن أية أمة لا تفعل هذا لا تستحق حتى أن تكون.

والسلام

عبد الحق العاني

28 أيار 2013

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image