قل ولا تقل / الحلقة الثانية والعشرون


إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

قل: إجتمع رئيس الجمهورية وضيفه

ولا تقل: إجتمع رئيس الجمهورية مع ضيفه

كتب الحريري في درة الغواص في أوهام الخواص “ويقولون: اجتمع فلان مع فلان، فيوهمون فيه، والصواب أن يقال: اجتمع فلان وفلان لأن لفظة اجتمع على وزن افتعل، وهذا النوع من وجوه افتعل مثل اختصم واقتتل، وما كان أيضا على وزن تفاعل مثل تخاصم وتجادل يقتضي وقوع الفعل من أكثر من واحد، فمتى أسند الفعل منه إلى أحد الفاعلين لزم أن يعطف عليه الآخر بالواو لا غير وإنما اختصت الواو بالدخول في هذا الموطن لأن صيغة هذا الفعل تقتضي وقوع الفعل من اثنين فصاعدا، ومعنى الواو يدل على الاشتراك في الفعل أيضا، فلما تجانسا من هذا الوجه، وتناسب معناهما فيه، استعملت الواو خاصة في هذا الموضع، ولم يجز استعمال لفظة مع فيه، لأن معناها المصاحبة وخاصيتها أن تقع في المواطن التي يجوز أن يقع الفعل فيها من واحد، والمراد بذكرها الإبانة عن المصاحبة التي لو لم تذكر لما عرفت، وقد مثل النحويون في الفرق بينها وبين الواو، فقالوا: إذا قال القائل: جاء زيد وعمرو كان إخبارا عن اشتراكهما في المجيء على احتمال أن يكونا جاءا في وقت واحد، أو سبق أحدهما. فإن قال: جاء زيد مع عمرو كان إخبارا عن مجيئهما متصاحبين، وبطل تجويز الاحتمالين الآخرين، فذكر لفظة مع هاهنا أفاد إعلام المصاحبة، وقد استعملت حيث يجوز أن يقع الفعل فيه من واحد.

فأما في الموطن الذي يقتضي أن يكون الفعل فيه لأكثر من واحد، فذكرها فيه خلف من القول، وضرب من اللغو ولذلك لم يجز أن يقال: اجتمع زيد مع عمرو، كما لم يجز أن يقال: اصطحب زيد وعمرو معا للاستغناء عن لفظة مع بما دلت عليه صيغة الفعل. ونظيره امتناعهم أن يقولوا: اختصم الرجلان كلاهما للاستغناء بلفظة اختصم التي تقتضي الاشتراك في الخصومة عن التوكيد لأن وضع كلا وكلتا، أن تؤكد المثنى في الموضع الذي يجوز فيه انفراد أحدهما بالفعل ليتحقق معنى المشاركة، وذلك في مثل قولك: جاء الرجلان كلاهما لجواز أن يقال: جاء الرجل، فأما فيما لا يكون فيه الفعل لواحد فتوكيد المثنى بهما لغو.

 ومثل ذلك أنهم لا يؤكدون بلفظة كل إلا ما يمكن فيه التبعيض، فلهذا أجازوا أن يقال: ذهب المال كله لكون المال مما يتبعض، ومنعوا أن يقال: ذهب زيد كله لأنه مما لا يتجزأ، وفي مع لغتان أفصحهما فتح العين منها، وقد نطق بإسكانها، كما قال جرير:

فريشي منكم وهواي مَعْكُمْ ** وإن كانت زيارتكم لماما”.

قل: ذهبا معاً وجاءا معاً

ولا تقل: ذهبا سوية ولا جاءا سوية

وقل: ذهبوا معاً وجاؤوا معا

ولا تقل: ذهبوا سوية ولا جاؤوا سوية

وذلك لأن السوية تأتي على وجهين، أحدهما كونها مؤنث السويّ وهو الخالي من العيب والميل، والآخر كونها مصدر كالبلية والرزية والقضية والنقيصة، وهي بمعنى المساواة والإستواء والتساوي.

قال الجوهري في الصحاح: “وقسم الشيء بينهما بالسوية” إنتهى. يعني بالمساواة بينهما في القسمة.

وقال الزمخشري في أساس البلاغة: “وهما علة سوية من الأمر وسواء وفيه النّصفّة والسوية”.

وقال ابن فارس في كتابه المقاييس: “والسين والواو والياء، أصل يدل على استقامة واعتدال بين شيئين، يقال: هذا الأمر سواء”.

وورد في لسان العرب: “يقال: هما على سوية من الأمر أي على سواء أو إستواء”.

ومن الشواهد على السوية التي تمثل الواقع اللغوي للكلمة، وتظهر قيمتها الإستعمالية بعد قيمتها المعجمية قول أبي جعفر الإسكافي في نقض بعض كتب الجاحظ “كرهوا إعطاء علي (ع) وقسمه بالسوية” أي بالمساواة.

وجاء في كتاب الأغاني قول ابراهمي الموصلي: “أو شيء أعطيته بالغناء أني كنت بالري أنادم أهلها بالسوية لا أرزؤهم شيئاً”، يعني منادمته أياهم بالمساواة بينهم، وعدم تفضيل بعضهم على بعض.

وجاء في بعض أحاديث الزكاة “فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية: يعني العدل. قال مجد الدين بن الأثير في كتابه النهاية في غريب الحديث والأثر: “وفي قوله بالسوية دليل على أن الساعي على الزكاة إذا ظلم أحدهما فأخذ منه زيادة على فرضه فإنه لا يرجع بها على شريكه، وإنما يغرم له قيمة ما يخصه من الواجب عليه دون الزيادة”. والظاهر أن قولهم: ذهبوا سوية هو من اللغة العامية فكثير من الناس يقولون “رحنا سوية وجينا سوية”.

أما قولنا “ذهبنا معاً وذهبوا معاً” فمعناه ذهبنا مصطحبين وذهبوا مصطحبين”. قال الجوهري في الصحاح: “مع: كلمة تدل على المصاحبة والدليل على أنه اسم حركة آخره مع تحرك ما قبله وقد يسكن وينون، تقول: جاؤوا معاً” (م ج) إنتهى.

ولعل سبب إستعمال لفظة “سوية” وشيوعها هو الإعلام المتغرب والذي عرضنا أكثر من مرة دوره في هدم اللغة، حيث يفكر الإعلامي بلغة أعجمية فيكتب بالحرف العربي ولكن بتفكير وترجمة خبر أعجمية. فكلمة “سوية” هي ترجمة للكلمة الإنكليزية “together” والتي تستعمل بشكل طبيعي في التعبير عن الصحبة في تلك اللغة بينما هي تعني شيئاً آخر في العربية كما بين العارفون بلغة العرب.

قل: كل خائن سارق

ولا تقل: كل سارق خائن

وكتب إبن قتيبة في أدب الكاتب: “ومن ذلك: “الخائن، والسارق” لا يكاد الناس يفرُقُون بينهما، والخائن: الذي اؤتمن فأخذ فخان، قال النّمر بن تولبٍ:

وإنَّ بَنِي رَبيعةَ بَعْدَ وَهْبٍ … كَرَاعِي البيتِ يحفظهُ فَخَانَا

والسارق: مَن سرق سراً بأي وجه كان. ويقال: كل خائن سارق، وليس كل سارق خائناً”. إنتهى.

وكتب إبن فارس في مقاييس اللغة في التمييز بين الإثنين ما يلي. ففي باب “سرق”:

” السين والراء والقاف أصلٌ يدلُّ على أخْذ شيء في خفاء وسِتر. يقال سَرَقَ يَسْرق سَرِقَةً.” … ومنه ” استَرَقَ السَّمع، إذا تسمَّع مختفياً”.

أما في باب “خون” فقد كتب إبن فارس:

” الخاء والواو والنون أصلٌ واحد، وهو التنقص. يقال خانَه يخُونه خَوْناً.

وذلك نُقصانُ الوَفاء.” ثم قال بعد ذلك…”وسمعت عليَّ بنَ إبراهيمَ القَطَّان يقول: سُئِل ثعلبٌ وأنا أسمَعُ، فقِيل يجُوز أنْ يُقال إن الخُوان يسمَّى خِوانا لأنّه يُتخوَّن ما عليه، أي يُنْتَقَص. فقال: ما يَبْعُد ذلك.”

قل: كل لئيم بخيل

ولا تقل: كل بخيل لئيم

كتب إبن قتيبة في أدب الكاتب: ” ومن ذلك: ” البخيل، واللئيم ” يذهب الناس إلى أنهما سواء، وليس كذلك، إنما البخيل الشحيح الضَّنين، واللئيم: الذي جمع الشحَّ ومَهَانة النفس ودناءة الآباء، يقال: كل لئيم بخيل، وليس كل بخيل لئيماً.” إنتهى.

وكتب إبن فارس في المقاييس: ” يقولون: إن اللَّئيم: الشَّحيح المَهينُ النَّفْس، الدَّنيُّ السِّنْخ. يقال: قد لَؤُم.”

أما البخيل فقد جاء في لسان العرب وصفه بانه غير الكريم في باب “بخل”: “والبَخْل والبُخول: ضد الكرم، وقد بَخِلَ يَبْخَل بُخْلاً وبَخَلاً، فهو باخل: ذو بُخْل، والجمع بُخَّال، وبخيل والجميع بُخَلاء.” وهكذا نرى أن من كان بخيلاً لا يقتضي أن يكون لئيماً.

قل: قد جاء نَعِيُّ فلان

ولا تقل: قد جاء نَعْيُ فلان

قال إبن قتيبة يقال ” جاء نَعِيّ فلانٌ ” بالتشديد. وكتب إبن السكيت في إصلاح المنطق: “ويقال: قد جاء نَعِيُّ فلان، ويقال: فلان يَنْعَى على فُلَان ذنوبه، أي يظهرها، ويشهره بها، قال الأصمعي: وكانت العرب إذا مات منها ميت له قدر، ركب رجل فرساً، وجعل يسير في النَّاس، ويقول: نعاءِ فلاناً.” إنتهى.

وكتب إبن فارس في المقاييس في باب “نعي”:

” النون والعين والحرف المعتلّ: أصلٌ صحيح يدلُّ على إشاعةِ شيء. منه النَّعِيُّ: خبَرُ الموت، وكذا الآتي بخَبرِ المَوْت يقال له نَعِيٌّ أيضاً.ويقال: نَعَاءِ فلاناً، أي انْعَه. قال:
نَعَاءِ جُذاماً غير موتٍ ولا قَتْلِ    ولكنْ فراقاً للدَّعائمِ والأصلِ”

إلا انه رغم ما أورده إبن قتيبة وأيده إبن فارس فإن الجوهري أجاز الإثنين فكتب في الصحاح في باب “نعا”:

“النَعْيُ: خبر الموت. يقال: نَعاهُ له نَعْياً ونُعْياناً.
وكذلك النَعِيُّ، يقال: جاء نَعِيُّ فلانٍ.” وفوق كل ذي علم عليم!

قل: استصحبت فلاناً كتابي

ولا تقل: أرسلت الكتاب برفقة فلان

وكتب إبراهيم اليازجي: “يقولون ارفقه بكذا وجاء مرفوقاً بفلان وارسلت الكتاب برفق فلان أي برفقته وكل ذلك بعيداً عن استعمال العرب لأن فعل الرفقة لا يتجاوز المفاعلة وما في معناها يقال رافقته وترافقنا وارتفقنا ولا يقال ارفقت فلاناً بفلان ولا رفقته به على أن المرافقة لا تكون إلا في المفاعلة فإن أريد مطلق الصحبة قيل اصحبته الشيء واستصحبته كتابي”.

 

قل: استصحب فلان زوجته في السفر (أي زوجه)

ولا تقل: اصطحب زوجته في السفر

وذلك لأن المراد بهذه الجملة هو جعله زوجته صاحبة ورفيقة له في السفر كما هي صاحبته وحليلته في الحضر، والفعل الذي يؤدي هذا المعنى هو “استصحب” مثل استبدل واستعمل واستحجب واستوزر أي اتخذ بدلاً وعاملاً وحاجباً ووزيراً. وأصل استصحب: دعا الى الصحبة ثم تُوسع في استعماله كاستخرج، فأصله دعا الى الخروج. قال مؤلف لسان العرب نقلاً: “واستصحب (فلان) الرجل: دعاه الى الصحبة وكل ما لازم شيئاً فقد استصحبه، وقال:

إن لك الفضل على صحبتي                     والمسك قد يستصحب الرامكا

… ويقال “استصحبته الكتاب وغيره”، انتهى المنقول من لسان العرب. وقال الزمخشري في أساس البلاغة (يقال) “استصحبت الكتاب وغيره: حملته صحبتي ومن هنا قيل: استصحبت الحال إذا تمسكت بما كان ثابتاً، كأنك جعلت تلك الحالة مصاحبة غير مفارقة. وجاء في نهج البلاغة “اللهم أنت الصاحب في السفر وأنت الخليفة في الأهل ولا يجمعهما غيرك لأن المستخلف لا يكون مُستصحباً والمستصحب لا يكون مستخلفاً”.

وذكر ابن خلكان في أخبار بعض السلاطين السلجوقيين انه كان معه مارستان مستصحب أي مستشفى سيار.

أما “اصطحب” فهو فعل اشتراك. جاء في لسان العرب: “واصطحب الرجلان وتصاحبا واصطحب القوم: صحب بعضهم بعضاً واصلح اصتحبَ…” الى آخر كلام المؤلف. فاصطحب إذن يساوي تصاحب ولا يصدر إلا من جهتين أو أكثر منهما. مثل ذلك “اصطحب الرجلان وقال الزمخشري في أساس البلاغة: “واصطحبوا وتصاحبوا”. وقال ابن القفطي في أخبار الحكماء في ترجمة ثابت بن قرة الحراني الصابي: “كان صيرفياً بحران اصطحبه محمد بن موسى بن شاكر لما انصرف من بلد الروم” فقوله “اصطحبه” يُريد به استصحبه فأخطأ وجه الصواب والظاهر لنا أن هذا الخطأ قديم على حسب ما دل عليه هذا الكتاب أعني أخبار الحكماء للقفطي إن لم يكن تحريف في النسخ.

واصطحب الرجلان واصطحب الرجال من الأفعال اللازمة وقد ورد اصطحب متعدياً لغير الإشتراك. جاء في لسان العرب: “واصحب الرجل واصطحبه” حفظه”. فإذا قيل: اصطحب فلان أهله بمعنى ذلك حفظهم وصانهم وحماهم وليس هذا هو المراد بل المراد الإستصحاب. (م ج)

قل: كأنَّ الأمريكي بدأ يتراجع إلى حدود واقعيته

ولا تقل: كأنَّ الأميركي بدأ يتراجع إلى حدود براغماتيته

(جان عزيز – قناة المنار 24-10-2013)

كما شاع بين المتعلمين العرب، ونقله الإعلام العربي سواء أكان الناقل متعلماً أم غير متعلم، إستعمال كلمة “براغماتية” ومشتقاتها وذلك لتعني ما يعتقده الناقل معناها الصحيح. وهي كبقية ما يستعمل من لفظ أو مصطلح أعجمي تفهم من كل كاتب على وفق ثقافته. لكن إستعمال أي لفظ أعجمي يكشف عن علة في مقدرة الكاتب على التعبير. ذلك ان استعماله للأعجمي لا بد أن يكون لأحد سببين فإما هو يجهل حقيقة معنى الكلمة المستعارة أو يعجز عن ترجمتها، وفي كلا الحالتين لا يحق له أن يستعملها لأنه يخدع القارئ العربي في أنه يطلب من ذلك القارئ أن يفهم ما لا يقدر هو على توضيح معناه. وليس أمامه إذا توخى الأمانة إلا أن يترجم الكلمة الأعجمية أو يمتنع عن إستعمالها إذا تعذر عليه ذلك.

وكلمة “براغماتية” المستعملة في الإنكليزية والفرنسية، على سبيل المثال، مشتقة من اللاتينية والتي أخذتها عن الجذر الإغريقي والذي يعني “عَملَ” أو “أدَّى” أو “نَفَّذَ”. فإذا كان هذا ما يراد من إستعمالها في الإنكليزية أو الفرنسية فلماذا يعدل العربي عن الكلمة العربية السليمة المعبرة عن هذا المعنى ليستعير اللفظ الأعحمي؟ أليس من السليم والفصيح أن يستعمل الكاتب العربي “واقعية” أو “عملية” لتعطي المعنى المراد في سياق الجملة بدل إستعماله “براغماتية” والتي لا توقع في أذن السامع العربي ما يوقعه اي من الألفاظ المقترحة؟ أم أن الكاتب يعتقد أنه يصنع مجداً موهوماً إذا ما استعمل لفظاً أعجمياً يوحي به للقارئ العادي أنه ذو ثقافة عالية وافق حضاري واسع!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

20 كانون الثاني 2014

 

This Post Has One Comment

  1. جهدٌ مبارك يستحق الثناء والتقدير، بعد أن امتهنت كرامة اللغة، وحرمة قواعدها بعبث العابثين، وجهل الكثيرين، فجزاه الله عن العربية وأهلها خيـر الجزاء.

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image