قل ولا تقل / الحلقة الثامنة والثلاثون

 

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)


قل: سلام على الأنفس التي حلت بفنائك

ولا تقل: سلام على الأرواح التي حلت بفنائك

استوقفني قول السيد حسن نصر الله في عاشوراء الأخير عند قراءته لزيارة الحسين بن علي (ع) في ترديده لما شاع من خطأ على لسان المسلمين لأكثر من ألف عام في استعمال الروح وهم يريدون النفس. ولن أخوض هنا في الفرق بين النفس والروح في القرآن ذلك لأن لي بحثاً مستقلاً في هذا سوف يرد في كتابي “رسائل من القرآن” لمن أراد البحث الديني. لكني أكتب هنا في الخطأ اللغوي الذي يمنع استعمال لفظة “الأرواح”.

فما سبب شيوع الخطأ في اللغة إذن؟

فقد كتب الحريري: “ويقولون: هبت الأرياح، مقايسة على قولهم: رياح وهو خطأ بين ووهم مستهجن، والصواب أن يقال: هبت الأرواح، كما قال ذو الرمة:

إذا هبت الأرواح من نحو جانب     به أهل مي هاج قلبي هبوبها

هوى تذرف العينان منه وإنما         هوى كل نفس حيث كان حبيبها

والعلة في ذلك أن أصل ريح روح لاشتقاقها من الروح، وإنما أبدلت الواو ياء في ريح للكسرة التي قبلها، فإذا جمعت على أرواح فقد سكن ما قبل الواو، وزالت العلة التي توجب قلبها ياء فلهذا وجب أن تعاد إلى أصلها، كما أعيدت لهذا السبب في التصغير فقيل: رويحة.

ونظير قولهم: ريح وأرواح قولهم في جمع ثوب وحوض: ثياب وحياض، فإذا جمعوها على أفعال قالوا: أثواب وأحواض.

فإن قيل: فلم جمع عيد على أعياد وأصله الواو بدلالة اشتقاقه من عاد يعود فالجواب عنه أن يقال: إنهم فعلوا ذلك لئلا يلتبس جمع عيد بجمع عود، كما قالوا: هو أليط بقلبي منك، وأصله من الواو ليفرقوا بينه وبين قولهم: هو ألوط من فلان. وكما قالوا أيضا: هو نشيان للخبر ليفرقوا بينه وبين نشوان من السكر.

ومما يعضد أن جمع ريح على أرواح ما روي أن ميسون بنت بحدل لما اتصلت بمعاوية، ونقلها من البدو إلى الشام كانت تكثر الحنين إلى أناسها والتذكر لمسقط رأسها، فاستمع إليها ذات يوم وهي تنشد:

لبيت تخفق الأرواح فيه     أحب إلي من قصر منيف

ولبس عباءة وتقر عيني     أحب إلي من لبس الشفوف

وأكل كسيرة في كسر بيتي   أحب إلي من أكل الرغيف

وأصوات الرياح بكل فج       أحب إلي من نقر الدفوف

وكلب ينبح الطراق دوني     أحب إلي من قط ألوف

وبكر يتبع الأظعان صعب    أحب ألي من بغل زفوف

وخرق من بني عمي نجيف   أحب إلي من علج عليف

فلما سمع معاوية الأبيات قال لها: ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عليفاً.”

ويبدو واضحاً مما كتبه الحريري أن “أرواح” هي جمع “ريح” وليست جمع “روح”. وأيد ذلك ابن منظور حين كتب في باب “روح”:

“وأَنكر أَبو حاتم على عُمارة بن عقيل جمعَه الرِّيحَ على أَرْياح، قال فقلت له فيه: إِنما هو أَرْواح، فقال: قد قال الله تبارك وتعالى: وأَرسلنا الرِّياحَ؛ وإِنما الأَرْواحُ جمعُ رُوح، قال: فعلمت بذلك أَنه ليس ممن يؤْخذ عنه.”

وقد أخطأ ابن الأنباري ثلاث مرات في ما نسبه له ابن منظور حين كتب:

” والرُّوحُ النَّفْسُ، يذكر ويؤنث، والجمع الأَرواح. التهذيب: قال أَبو بكر بنُ الأَنْباريِّ: الرُّوحُ والنَّفْسُ واحد، غير أَن الروح مذكر والنفس مؤنثة عند العرب.”

فقد كتب صاحب القاموس:

” الرُّوحُ، بالضم: ما به حَياةُ الأَنْفُسِ، ويُؤَنَّثُ”.

أما الخطأ الثاني فهو جمعه “روح” على “أرواح” وهو ما لم تعرفه العرب، أما الخطأ الثالث الفاحش والذي ما كان على ابن الأنباري أن يخوض فيه فهو قوله “الروح والنفس واحد” ولو عرف ابن الأنباري سر الخلق لأدرك أن ما بين الروح والنفس هو ما بين السماء والأرض…..

فقد ذكر تعالى خلق النفس وابتلاءها وثوابها وعقابها وقبضها ثم أفردها وجمعها….. لكنه تعالى لم يذكر الروح في القرآن إلا مفردة ولم يخبر عن خلقها ثم قطع الطريق في الحديث عنها حين أخبر عز من قائل “ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”….. فكيف يكونان واحداً ومن اين جاء ابن الأنباري بهذا الفحش من القول بالتقول على رب العزة؟

أما ما جاء من أحاديث مختلقة مما نسب لنبي الرحمة (ص) من إستعماله لفظة “أرواح” فلا يختلف كثيراً عن مثيله مما نسجه بعض الجهلة الذين سموا فقهاء وسار على نهجهم اللاحقون. فشاع بين الناس الحديث عن “القبض على الأرواح” أو “الترحم على الأرواح” وكله عبث ذلك لأنه ليس في الكون إلا روح واحدة وهي التي أخبر عنها تعالى “فإذا نفخت فيه من روحي” وهذه لا تقبض ولا تعذب ولا تبتلى لأنها ليست مخلوقة وهي سر الحياة في الكون.

وقد أصاب النصارى العرب حين عجز المسلمون العرب ذلك لأن النصارى يقولون “الصلاة عن راحة نفس فلان” ولا يقولون “روح فلان”…وربما قادهم لذلك، حتى دون وعي، أنهم يؤمنون بروح القدس الأوحد.

فقل: الله يقبض الأنفس

ولا تقل: الله يقبض الأرواح

لأن الأرواح جمع “ريح” والله تعالى لا شأن له بقبض الريح.

قل: كان ثوبه أدكن وكانت جبته دكناء

ولا تقل: كان ثوبه داكناً ولا كانت جبته داكنة

وذلك لأن الوصف من الألوان يأتي للمذكر على وزن “أفعل” كأبيض وأحمر وللمؤنث على وزن “فعلاء” كبيضاء وحمراء، والأدكن والدكناء لونهما الدّكنة وهي الغبرة والميل الى السواد. جاء في لسان العرب: ” دَكِن يَدْكَن دَكَناً وأَدْكَن وهو أَدْكَنُ”. ومؤنث الأدكن دكناء كما هو معلوم وسمى لبيد بن ربيعة زق الخمر “الأدكن” لسواد لونه في معلقته:

أغلى السباء بكل أدكن عاتم            أو جونة قدحت وفُضّ خِتامها

وإذا اتسخ الثوب، او اصابه الدخان كثيراً واغبر لونه صار أدكناً، وإذا اشتدت السمرة ضاربة الى السواد فهي دُكنة، وكما لا يقال للأبيض بائض ولا للأحمر حامر ولا للأصفر صافر ولا للأسود ساود كذلك لا يقال للأدكن داكن ولا للدكناء داكنة، فقل: أدكن ودكناء. (م ج)

وقل: وجدت الباب مُغْلَقاً

ولا تقل: وجدت الباب مَغلُوقاً

وكتب الكسائي: “وتقول أغلقت الباب فهو مُغلَق ولا يقال: مَغلُوق. قال أبو الأسود الدؤلي:

ولا أقول لقدر القوم قد غليت           ولا أقول لباب الدار مغلوق

لكن أقول غلت للقوم قدرهم            والباب مغلق أو فالباب مصفوق

وكتب إبن السكيت في الباب نفسه: “وقد أَغْلَقْت الباب فهو مُغْلق، ولا يقال: مَغْلُوق، وقد أَقْفَلْتُهُ فهو مقفل.”

قل: اسْتَخْفَيْتُ من فُلانٍ

ولا تقل: اخْتَفَيْتُ من فُلانٍ

وكتب إبن قتيبة: اسْتَخْفَيْتُ من فُلانٍ ” ولا يقال ” اخْتَفَيْتُ ” إنما الاختفاء الاستخراج، ومنه قيل للنَّبَّاش: مُخْتَفٍ، قال الله عزّ وجلّ: “يَسْتَخْفونَ منَ النَّاسِ”. إنتهى

وعارض الأزهري ابن قتيبة في هذا كما أورد ابن منظور في اللسان فكتب:

“وخَفِيَ عليه الأَمرُ يَخْفَى خَفاءً، ممدود. الليث: أَخفَيْتُ الصوتَ وأَنا أُخْفِيه إخفاءً وفعله اللازمُ اخْتَفى. قال الأَزهري: الأَكثر اسْتَخْفَى لا اخْتَفى، واخْتَفى لغةٌ ليست بالعالية، وقال في موضع آخر: أَمّا اخْتَفى بمعنى خَفِيَ فلغةٌ وليست بالعالية ولا بالمُنْكَرة.”

ولعل من المفيد أن نورد هنا ما كتبه ابن فارس في باب “خفي” في قاموسه الجامع “مقاييس اللغة” حيث أوجز المعنى فكتب:

“الخاء والفاء والياء أصلان متباينان متضادّان. فالأوّل السَّتْر، والثاني الإظهار.فالأوّل خَفِيَ الشَّيءُ يخفَى؛ وأخفيته، وهو في خِفْيَة وخَفاءٍ، إذا ستَرْتَه، ويقولون: بَرِحَ الخَفَاء، أي وَضَحَ السِّرُّ وبدا…… ويقال للرّجُل المستترِ مستخْفٍ. والأصل الآخر خفا البرقُ خَفْواً، إذا لمع، ويكون ذلك في أدنى ضعف……

ويقال خَفَيْتُ [الشَّيءَ] بغَيْر ألِفٍ، إذا أظهرتَه…..قال امرؤ القيس:

خَفاهُنّ من أَنْفَاقِهنّ كأنَّما    خَفاهُنَّ وَدْقٌ من سَحابٍ مُركبِ

ويقرأ على هذا التأويل: إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أَخْفِيها [طه 15] أي أُظهِرُها.”

قل: أَيَّتكُنَّ تنبحُها كلابُ الحَوْأب

ولا تقل: أَيَّتكُنَّ تنبحُها كلابُ الحُوَّب

كتب البستي: “وفي حديثهِ، صلّى الله عليه وسلّم، حينَ قالَ لنسائِهِ: “أَيَّتكُنَّ تنبحُها كلابُ الحَوْأبِ. أصحابُ الحديثِ يقولون: الحُوَّب، مضمومة الحاء مُثَقّلَة الواو. وإنّما هو الحَوْأبُ، مفتوحة الحاء مهموزة اسْمُ بعضِ المياهِ. أنشدني الغَنَوي قال: أنشدني ثَعْلبٌ: ما هو إلاّ شَرْبَةٌ بالحَوْأبِ فَصَعِّدِي مِن بَعْدِها أو صَوِّبي. الحوأبُ: الوادي الواسعُ: قالَ بعضُ رُجّاز الهُذَليِّين يصفُ حافِرَ فَرَسٍ: يلتهمُ الأرضَ بوَأْبٍ حوأبِ كالقُمْعُلِ المنكَبِّ فوقَ الأَثْلَبِ. الوأْبُ: الخفيفُ. والقُمْعُلُ: القَدَحُ الضّخْم بُلُغَةِ هُذَيْلٍ.”

قل: مصح الله ما بك

ولا تقل: مسح الله ما بك

وكتب الحريري: “ويقولون للمريض: مسح الله ما بك، بالسين، والصواب فيه مصح كما قال الراجز:

قد كاد من طول البلى أن يمصحا

وكقول الشاعر وقد أحسن فيه:

يا بدر إنك قد كسيت مشابها            من وجه أم محمد ابنة صالح

وأراك تمصح في المحاق وحسنها     باق على الأيام ليس بما صح

ويحكى: أن النضر بن شميل المازني مرض، فدخل عليه قوم يعودونه، فقال لهرجل منهم يكنى أبا صالح: مسح الله تعالى ما بك، فقال له: لا تقل: مسح، بالسين ولكن قل: مصح بالصاد، أي أذهبه الله وفرقه، أما سمعت قول الشاعر:

وإذا ما الخمر فيها أزبدت         أفل الإزباد فيها ومصح

فقال له الرجل: إن السين قد تبدل من الصاد كما يقال: الصراط والسراط، وصقر وسقر، فقال له النضر: فأنت إذا أبو سالح.

ويشبه هذه النادرة ما حكي أيضا أن بعض الأدباء جوز بحضرة الوزير أبي الحسن بن الفرات أن تقام السين مقام الصاد في كل موضع، فقال له الوزير: أتقرأ: “جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ” أم ومن سلح فخجل الرجل وانقطع.”

قل: هنأ القادم بوصوله سالماً

ولا تقل: هنأ القادم بسلامة الوصول

وكتب اليازجي: “ويقولون هنأ القادم بسلامة الوصول يعنون بوصوله سالماً وهي من العبارات الشائعة التي لا تكاد تخلو منها جريدة ولا يخفى ما فيها من فساد التعبير لأن مفادها إثبات السلامة للوصول لا للقادم والوصول لا يوصف بكونه سالماً وغير سالم”.

قل: جاء هذا العام برد قارِسٌ

ولا تقل: جاء هذا العام برد قارِصٌ

وكتب عبد الهادي بوطالب: لا معنى لوصف البرد بالقارص (بالصاد): فالفعل من اسم الفاعل هذا هو قَرَصَ يقرُصُ قَرْصا: إذا لَوَى عليه بأُصْبُعه وآلمه. ويقال أيضا قَرَصَ العجينَ إذا ضغط عليه ليبسطه ويسْهُلَ جمعُه.

أما البرد فيكون قارسا (بالسين) عندما يشتدُّ حتى يعجز من يعمل بيديه عن استعمالهما ونقول: “قرسَ البردُ يديه”.وفعله الرباعي أقرَسَ يُقرِسُ يفيد نفس المعنى. ونقول: “أقرسَ البردُ أصابعَه” فالبرد مُقْرِس، كما نقول قارِس، ونقول: “يومٌ قارسٌ، أي شديد البرد”.

قل: دار في خَلَدِهِ

ولا تقل: دار في خُلْدِهِ

وكتب خالد العبري: “شاع استعمال كلمة “الخُلْد” (بضم الخاء وسكون اللام) في معنى الضمير والنفس والقلب، فيقال: مثلاً “دار في خُلْدِهِ”، والصواب “دار في خَلَدِهِ” (بفتح الخاء واللام معاً)، يقول ابن منظور في لسان العرب: “والخَلَدُ بالتحريك: البال والقلب والنفس، وجمعه أخلادٌ، يقال: وقع ذلك في خَلَدي، أي في روعي وقلبي”.

والخُلْدُ – بضم الخاء وسكون اللام – تعني دوام البقاء، وهي مصدر من الفعل “خَلَدَ”، تقول: خَلَدَ يَخْلُدُ خُلْداً وخُلوداً، فهي إذن غير الخَلَدِ (بفتح الخاء واللام معاً). يقول المولى عز وجل “وما جعلنا لبشر من قبلك الخُلدَ أفإن متَّ فهم الخالدون”، ويقول “قل أذلك خيرٌ أم جة الخُلد التي وُعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا”، والخُلْدُ – بضم الخاء وسكون اللام – كذلك نوعٌ من الحيوان أعمى.”

 

عبد الحق العاني

8 كانون الأول 2014

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image