قل ولا تقل / الحلقة السبعون

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)

 

قل: نَقَهْتُ من المرض

ولا تقل: نَقِهْتُ من المرض

ونأخذ مما كتب ثعلب في باب “فَعِلْتُ” و “فَعَلْتُ” باختلاف المعنى ما يلي: “تقول نَقِهْتُ الحديث مثل فَهِمْتُ، ونَقِهْتُ من المرض أنقه، وقَرِرْتُ به عيناً وقَرَرْتُ في المكان أقرُّ، وقد قَنِعَ الرجل إذا رضي قناعة وهو قنِعٌ، وقَنَعَ قُنُوعاً إذا سأل. ولَبِسْتُ الثوبَ ألبسه لُبْسَاً، ولَبَسْتُ عليهم الأمر ألبسه لَبْسَاً. وأسَيْتُ على الشيء أسى أسَىً إذا حَزَنْتُ، وأسَوتُ الجرح وغيره آسوه أسواً إذا أصلحته. وحَلَا الشيء في فمي يحلو حلاوة، وحَلِيَ الشيء بعيني يحلى حلاوة. وعَرِجَ الرجل يعرج إذا صار أعرجاً، فإذا صعَدَ في درج أو سُلَّمٍ قلت: عَرَجَ يعرج. ونَذِرْتُ النٌّذرَ أنذُرُهُ وأنذِره نذرَاً، ونَذَرْتُ بالقوم نَذْرّاً إذا علمت بهم فاستعددت لهم. وعَمِرَ الرجل إذا طال عمْرُه، وعَمَرَ الرجل بمكان كذا وكذا إذا أقام فيه. ومَلِلْتُ من الشيء أمل مَلالَة ومَلالاً، ومَلَلْتُ الشيء في النار أمله مَلاًّ.”

قل: يربح فلان مادام صادق المعاملة

ولا تقل: يربح طالما هو صادق

وكتب مصطفى جواد: “وذلك لأن دوام الربح مشروط بدوام الصدق فالدوام يستعمل له الفعل “دام”. قال تعالى في عذاب المعذبين بالنار “خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد”. وقال في ذكر المسعودين “وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاءاً غير مجذوذ”.

أما “طالما” فلا تستعمل هذا الإستعمال، وإنما تستعمل للدوام غير المشروط، وهي تقابل “قلما” كقولنا “طالما زارنا فلان وطالما تحدث إلينا وقلما أسقط في كلمة أي قلما أخطأ فيها”. وأحسن الأقوال عندي في تأويل قولهم طالما فعل فلان هو طال فعله للشيء المفعول وفي تأويل قلما فعل فلان هو قل فعله للشيء المفعول.”انتهى

وتوسع خالد العبري في طالما فكتب: “مما شاع من خطأ في لغتنا كذلك استعمال “طالما” في معنى “ما دام” فمن العبارات التي تحمل هذا الخطأ قولهم: “طالما انتهى الأمر الى ما هو عليه الآن فالأولى أن تتركه”.

والصواب أن “طالما” لا تحمل المعنى الذي يريدونه في العبارة، فـ “طالما” مركبة من الفعل الماضي “طال” و “ما” الزائدة الكافة التي كفت الفعل عن الرفع (ويقصد بالرفع هنا طلب الفاعل). يقول ابن هشام الأنصاري في مغني اللبيب عند حديثه عن أنواع ما الزائدة الكافة: “أحدها الكافة عن عمل الرفع ولا تتصل إلا بثلاثة أفعال: قل، وكثر، وطال، وعلة ذلك شبههن برُبَّ. ولا يدخلن حينئذ إلا على جملة فعلية صُرّح بفعلها، كقوله:

قلما يبرح اللبيب إلى ما         يورث المجد داعياً أو مجيبا

وطال بعد دخول “ما” عليها صارت تعني: امتد وكثر.

يقول عنترة بن شداد (من الكامل):

لا يكتسي إلا الحديد إذا اكتسى         وكذاك كل مغاور مستبسل

قد طالما لبس الحديد فإنما              صدأ الحديد بجلده لم يغسل

أي أمتد وكثر لبسه الحديد.

ويقول جرير (من الطويل):

ألا ربما بات الفرزدق قائماً            على حر نار تترك الوجه أسفعا

وكان المخازي طالما نزلت به         فيصبح منها قاصر الطرف أخضعا

أي امتد نزولها وكثر.

فالصواب في العبارة السابقة أن يقال: “مادام الأمر قد انتهى الى ما هو عليه الآن، فالأولى لك أن تتركه”

قل: فَرَّغ الوعاء

ولا تقل: أفرغ الوعاء

كتب اليازجي: “ويقولون أفرغ المكان والوعاء بصيغة أفعل اي أخلاه والصواب في هذا المعنى فَرَّغه بالتشديد وأما أفرغ فمعناها صب. يقال صب الماء ونحوه وأفرغ المعدن أي سكبه”. إنتهى

وخالف أصحاب المعاجم اليازجي في ما ذهب اليه. فكتب ابن منظور في اللسان: “يقال: أَفْرَغْتُ الإِناءَ إِفرْاغاً وفَرَّغْتُه تَفْرِيغاً إِذا قَلَبْتَ ما فيه.” ووافقه في استعمال أفرغ بمعنى صب فكتب: “وأَفْرَغَ الذهبَ والفِضَّةَ وغيرهما من الجواهر الذائبة: صَبَّها في قالَبٍ.” وجاء هذا الإستعمال في القرآن الكريم في قوله تعالى: “ربنا أفرغ علينا صبراً” وقيل أن معناه اصبب. وكتب الجوهري في الصحاح ما وافق ابن منظور فقال: “وأفْرَغْتُ الدلاءَ: أرقْتُها. وفَرَّغْتُهُ تفريغاً، أي صببته.”

قل: ما ألوت جهدا في حاجتك

ولا تقل: ما آليت جهدا في حاجتك

كتب الحريري:ويقولون: ما آليت جهدا في حاجتك، فيخطئون فيه، لأن معنى ما آليت، ما حلفت، وتصحيح الكلام فيه أن يقال: ما ألوت، أي ما قصرت لأن العرب تقول: ألأ الرجل يألو، إذا قصر وفتر.

وحكى الأصمعي قال: إذا قيل لك: ما ألوت في حاجتك. فقل، بلى أشد الألو.
وقد أجاز بعضهم أن يقال: ما ألّيت في حاجتك بتشديد اللام، واستشهد عليه بقول زهير بن جناب:

 وإن كنائني لمكرمات ** وما ألَّى بَنيَّ ولا أساءوا

ولفظة ألوت لا تستعمل في الواجب البتة مثل لفظة أحد وقط وصافر وديار وكمثل لا جرم ولا بد ونظائره، وكذلك لفظة الرجاء الذي بمعنى الخوف، كما جاء في القرآن: “ما لكم لا ترجون لله وقارا”، أي لا تخافون وكما قال أبو ذؤيب:

 إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ** وحالفها في بيت نوب عوامل

يعني لم يخف لسعها، وأراد بالنوب التي قد شابهت بسوادها النوبة.

وقيل بل أراد به جمع نائب.

ومما لا يستعمل أيضا إلا في الجحد قولهم: ما زال وما برح وما فتئ وما انفك، وما دام، بمعنى ما برح في أكثر الأحوال وعليه قول الأعشى:

أيا أبتا لا ترم عندنا ** فإنا بخير إذا لم ترم

وبهذا البيت استعطف أبو عثمان المازني الواثق بالله حين أشخصه من البصرة إلى حضرته حتى اهتز لإحسان صلته، وعجل تسريحه إلى ابنته.
وخبره يشهد بفضيلة الأدب ومزيته، ويرغب الراغب عنه في اقتباسه ودراسته. ومساقة الخبر ما رواه أبو العباس المبرد، قال: قصد بعض أهل الذمة أبا عثمان المازني ليقرأ عليه كتاب سيبويه، وبذل له مائة دينارعن تدريسه إياه، فامتنع أبو عثمان من قبول بذله وأصر على رده، قال: فقلت له: جعلت فداك أترد هذه النفقة مع فاقتك وشدة إضاقتك فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا آية من كتاب الله عز وجل، ولست أرى أن أمكن منها ذميا، غيرة على كتاب الله تعالى وحمية له، قال: فاتفق أن غنت جارية بحضرة الواثق بقول العرجي:

 أظلوم إن مصابكم رجلا ** أهدى السلام إليكم ظلم

فاختلف من بالحضرة في إعراب رجل فمنهم من نصبه، وجعله اسم إن، ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بالله بإشخاصه.

قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممن الرجل قلت: من بني مازن، قال: أي الموازن أمازن تميم أم مازن قيس، أم مازن ربيعة قلت: من مازن ربيعة، فكلمني بكلام قومي، وقال لي: با اسمك لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميما إذا كانت في أول الأسماء، قال: فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجهه بالمكر، فقلت: بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لما قصدته وأعجب به، ثم قال ما تقول في قول الشاعر:

أظلوم إن مصابكم رجلا **

أترفع رجلا أم تنصبه فقلت: بل الوجه النصب يا أمير المؤمنين، فقال: ولم ذلك فقلت: إن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم، فأخذ اليزيدي في معارضتي، فقلت: هو بمنزلة قولك: إن ضربك زيدا ظلم، فرجلا مفعول مصابكم، ومنصوب به، والدليل عليه أن الكلام معلق إلى أن تقول: ظلم، فيتم الكلام.

 فاستحسنه الواثق وقال: هل لك من ولد قلت: نعم، بنية يا أمير المؤمنين، قال: ما قالت لك عند مسيرك قلت: أنشدت قول الأعشى:

أيا أبتا لا ترم عندنا **        فإنا بخير إذا لم ترم

أرانا إذا أضمرتك البلاد ** نجفى وتقطع منا الرحم

قال: فما قلت لها قلت قول جرير:

ثقي بالله ليس له شريك ** ومن عند الخليفة بالنجاح

قال: أنت على النجاح إن شاء الله، ثم أمر لي بألف دينار، وردني مكرما.
قال أبو العباس: فلما عاد إلى البصرة قال لي: كيف رأيت يا أبا العباس رددنا لله مائة فعوضنا ألفا.”

قل: مات فلانٌ فُجَأةً

ولا تقل: مات فُلانٌ فُجْأةً

كتب الحنفي: “أقول: يقولون: مات فلان فُجْأةً، بضم الفاء وسكون الجيم وبهمزة مفتوحة. والصواب ضم الفاء وفتح الجيم وبعدها ألف بعدها همزة مفتوحة. وهو المذكور في كتب اللغة.”

لكن ابن منظور نقل عن العرب استعمال “فَجْأة” فذكرها في اللسان في أكثر من موضع نأخذ منها المثال التالي لفائدته في شرح معنى “فلتة” كذلك، فكتب: “وفي حديث عمر: أَنَّ بيعة أَبي بكر كانت فَلْتةً، وَقى اللهُ شَرَّها. قال ابن سيده: قال أَبو عبيد: أَراد فَجْأَة، وكانت كذلك لأَنها لم يُنْتَظَرْ بها العوامُّ، إِنما ابْتَدَرَها أَكابرُ أَصحاب سيدنا محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين وعامّة الأَنصار، إِلا تلك الطِّيرةَ التي كانت من بعضهم……. وقال ابن الأَثير في تفسير حديث عمر، رضي الله عنه، قال: أَراد بالفَلْتةِ الفَجْأَة، ومثلُ هذه البَيْعةِ جَديرةٌ بأَن تكونَ مُهَيِّجةً للشرِّ والفِتنة، فعَصَم اللهُ تعالى من ذلك ووَقى. قال: والفَلْتةُ كل شيءٍ فُعِلَ من غير رَوِيَّةٍ.”

قل: أصابه بضربة خَصْرِه

ولا تقل: أصابه بضَربَةٍ خِصْرِه

وكتب الزبيدي: “يقولون “خِصْر” الإنسان وغيره وبالكسر والصواب “خَصْرُ” بالفتح ويجمعونه على “خُصُور” قال ذو الرمة:

خَبَرْنَجَةٌ خَوذٌ كَأنَّ نِطاقَها        على رَمْلَةٍ بين المُقَيَّدٍ والخَصْرِ”

(وكتب ابن منظور: “الخَبَرْنَجُ: الناعِمُ البَدَنِ البَضُّ، والأُنثى بالهاء. الأَصمعي: الخَبَرْنَجُ الخَلُقُ الحسن.”)

 

قل: هو رجلٌ عَزَبٌ

ولا تقل: هو رجلٌ أعْزَبُ

كتب الضبي: “ورجل عَزَبٌ، وامرأة عَزَبَة. ولا تقل: أعزب.”

وكتب الجوهري في الصحاح: “وعَزَبَ عني فلان يعزُب ويَعْزِب: أي بَعُد وغاب، وعَزَب عن فلانٍ حِلمُه، وأعزبه الله…….. العُزَّابُ: الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء. قال الكسائي: العزب: الذي لا أهل له، والعَزَبَة: التي لا زوج لها.”

قل: استبدل الكتابَ بالجريدة (إذا أردت جعل الكتاب عوضاَ عن الجريدة)

ولا تقل: استبدل الجريدة بالكتاب

وكتب عبد الهادي بوطالب: “تفيد الباء -أحياناً – التعويض عن الشيء. وحينئذ يوضع المعوَّض عنها إِثْرها فنقول استبدل الكتاب بالجريدة. أي جعَل الكتاب عوضا عن الجريدة، ولو عكسنا وقلنا “استبدل الجريدة بالكتاب” لكان المعنى جعل الجريدة عوضاً عن الكتاب. والكثيرون لا يميزون في ذلك فيضعون الباء في غير مكانها.
وقد جاء في القرآن: “أتستَبْدِلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟” أي “هل تأخذون الأدنى عوضا عما ما هو خير منه؟”. ونقول: “استبدل الخمر بالماء” نعني به من يُدْمِنُ على تناول الخمر حتى تصبح عنده عوضاً عن الماء. ونقول المريض يستبدل التيمم بالوضوء، ولو عكسنا وقلنا: “يستبدل الوضوء بالتيمم لكان المفهوم هو أنه يتوضأ بدلا عن التيمم. وهذا غير ما يفعله المريض.”

قل: زار مَعرِضَاً فنياً

ولا تقل: زار مَعْرَضَاً فنياً

وجاء في ملحق مفردات أوهام الخواص: “ومن أوهامهم أنهم يطلقون على مكان عرض الأشياء، معرض ( بفتح الراء )، وعلى مكان اللقاء ، موعد ( بفتح العين )، والصواب أن يقال : معرض وموعد ( بخفض الراء والعين )، والعلة في ذلك أن اسم الزمان والمكان يؤتى بهما من الفعل الثلاثي على وزن مِفْعِل ، إذا كان الفعل صحيحا مكسور العين في المضارع ، نحو : عَرَضَ يَعرِضُ مَعْرِض ، أو إن كان الفعل مثالا واويا ، نحو : وَعَدَ يَعِدُ مَوْعِد.”

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

31 آذار  2016

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image