قل ولا تقل / الحلقة الثانية والسبعون

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)

 

قل: أنا في رَفَاهِيَةٍ من العيشِ

ولا تقل: أنا في رَفَاهِيَّةٍ من العيش

ونأخذ مما كتبه ثعلب في “باب المخفف” ما يلي: “تقول: فلانٌ من عِلْيَةِ القوم (وليس من عِلِيَّة)، وأنا في رَفَاهِيِة من العيش (وليس رَفَاهِيَّة)، وعرفت الكَرَاهِيَة في وجهه (وليس الكَرَاهِيَّة)، وهو حسن الطَّواعِيَة لك (وليس الطَّواعِيَّة)، وهي الربَّاعِيِة للسن (وليس الربَّاعِيَّة)، وأرض نَدِيَة (وليس نَدِيَّة)، وهو الدَّمُ (وليس الدَّمُّ)، وهي الَّلثَةُ (وليس الَّلثَّة)، وهو الدُّخَانُ (وليس الدَّخَّانُ).”

وكتب الحنفي في هذا: “وكذلك تشديدهم ياء “رفاهية” فإنّها مُخَفَّفَةٌ. ومثلها الصلاحِيَة والكراهِيَة. وأمّا “العارِية” فقد جُوِّز فيه التخفيف والتشديد، وجُعِلَ التشديد أعلى.”

وأضاف المقدسي: “ويقولون: العارِيَةُ، بتخفيفِ الياءِ. وصوابُهُ العارِيَّة، بتشديدِ الياءِ.”

قل: فلان غضبانٌ الآن

ولا قل: فلان غاضبٌ الآن

ونأخذ مما جاء في كتاب فائت صحيح ثعلب: “فلان مريضٌ في الحال، ومارضٌ بعد. وغضبانٌ في الحال وغَاضِبٌ بعدُ. وقبيحٌ في الحال، وما هو بقابحٍ فوق ما قبح. وطَمِعٌ أذا وصفته بالطمع للحال، وطامعٌ أي يطمَعُ أن يصيب منك خيراً. وهو كريم في الحال، وكارِمٌ إذا نويت أن يكون منك كرم. مَرَضٌ مُخِيِفٌ لأن الخوف من قبله، وطريقٌ مَخُوفٌ: يخافُ فيه. ويقال: بَرَك البعير وتَنَوَّخَ ولا يقال: نَاخَ. والبعير بمنزلة الإنسان يقع على الذكر والأنثى، والجمل بمنزلة الرجل والناقة بمنزلة المرأة، والسَّقْبُ بمنزلة الغلام، والحائل بمنزلة الجارية. وذكر الحمام: ساق، والأنثى: حمامة.”إنتهى

وقال تعالى: “فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا” وقال في سورة الأعراف: “وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا”.

قل: أخذت شُيَيْئاً منه

ولا تقل: أخذت شُوَيئاً منه

وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “ويقولون في تصغير: شيء وعينٍ ونابٍ وبيتٍ وزيتٍ وضيعةٍ: شُييئٌ وعُيينةٌ ونُييبٌ وزُييتٌ وضُييعَةٌ، وكذلك ما أشبهه مما هو من ذوات الياء لا تجوز الواو في شيء منه.”

قل: يفك عَنِيّه ويرث ماله

ولا تقل: يفك عَيْنه ويرث ماله

كتب البستي: “قولُهُ، صلّى الله عليه وسلّم: “الخالُ وارِثُ مَنْ لا وارِثَ له، يَفُكُّ عَنِيّهُ ويَرِثُ مالَهُ”. رواه بَعْضُهم: يفكُّ عَيْنَهُ، الياء قبلَ النونِ، وإنّما هو عَنِيّهُ، والعَنِيُّ: العانِي، وهو الأسيرُ. وقد يُروى أيضاً: عُنِيّه، مَصْدَرُ عَنَا الأسيرُ يَعْنُو عُنُوّاً وعُنِيّاً.” إنتهى

وكتب ابن فارس في المقاييس: “العين والنون والحرف المعتل أصولٌ ثلاثة: الأوّل القَصْد للشيء بانكماشٍ فيه وحِرْصٍ عليه، والثاني دالٌّ على خُضوع وذُلّ، والثالث ظهورُ شيء وبروزُه”. ثم كتب في عرضه للأصل الثاني “وتقول العرب: عَنَوْتُ عند فلانٍ عُنُوّاً، إذا كنتَ أسيراً عنده.
ويقولون في الدعاء على الأسير: لا فَكَّ الله عُنْوَته! بالضم، أي إساره.”

قل: هو مصرح ومن ذوي التصريح وأهل التصريح وهو صارح أو صريح القول (في الأقل)

ولا تقل: هو صريح (فقط بهذا المعنى)

كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن “الصريح” هو المتصف بالصراحة وهي الخلوص والصفاء في النسب وما أشبه. وهي تختص بمادة الصريح، كما أن الخلوص يخص الشيء الخالص والصفاء يخص الشيء الصافي. قال ابن فارس في المقاييس: “الصاد والراء والحاء أصلٌ منقاسٌ، يدلُّ على ظهور الشَّيء وبُروزه. من ذلك الشَّيء الصريح. والصَّريح المحض الحسَب، وجمعه صُرَحاء. قال الخليل: ويجمع الخيلُ على الصرائح.
وقال: وكلُّ خالصٍ صريح. يقال هو بَيِّنُ الصَّراحة والصُّروحة.”

وقال أبو العباس المبرد في كتابه الكامل في شرح قول نضلة السلمي:

ولم يخشوا مصالته عليهم        وتحت الرغوة اللبن الصريح

قال: “وقوله (وتحت الرغوة اللبن الصريح) يقول إذا رأيت الرغوة لم تدر ما تحتها، فربما صادفت اللبن الصريح إذا كشفتها…. والصريح المحض الخالص من قولهم عربي صريح أي خالص ومولى صريح” أ. هـ

فقولنا “فلان صريح” إذن يعني أنه خالص النسب، ليس هذا المعنى هو مراد القائلين اليوم: فلان صريح. بل المراد أنه مبين حقيقة ما يعني لا يعرض ولا يكنى ولا يرمز. فهو إذن مصرح أو من ذوي التصريح. وأما قولنا “هو صارح” فهو من قول العرب: “صرح فلان الأمر صرحاً أي بينه وأوضحه فهو صارح”. جاء في لسان العرب: “قال الأَزهري: وصَرَحَ الشيءَ وصَرَّحه وأَصْرَحه إِذا بَيَّنه وأَظهره؛ ويقال: صَرَّحَ فلانٌ ما في نَفْسِه تصريحاً إِذا أَبداه. والتصريحُ: خلافُ التعريض”.

وقال الفيروزأبادي في القاموس: “والتَّصْريحُ: خِلافُ التَّعْريضِ، وتَبْيينُ الأَمْرِ، كالصَّرْحِ والإِصْراحِ، وانْكِشافُ الأَمْرِ، لازِمٌ مُتَعَدٍّ”.

ومنه نعلم أن مصدر قولهم: “صرح فلان مراده يصرحه” وهو صَرْح على وزن “منْع” وأن صَرّحه وأصرَحَه مع فرق ضئيل فهو صارح مثل “مانِع” وعلى هذا ينبغي أن يقال: “فلان صارح أو مُصَرّح أو مصْرح أو صريح القول أو المراد (في الأقل)” فقد قالت العرب: “تكلم فلان بذلك صُراحاً وصِراحاً أي خالصاً” كما جاء في لسان العرب. فالصُراح أو الصِّراح وصف للكلام في حال التكلم به لا وصف للمتكلم.”

قل: أذن له أن يفعل كذا

ولا تقل: صرح له أن يفعل كذا

وكتب اليازجي: “ويقولون صرح له أن يفعل كذا بمعنى أذن له وأطلق له أن يفعل ولم يأت صرح في شيء من هذا المعنى”. إنتهى

وجاء في مقاييس اللغة ” الصاد والراء والحاء أصلٌ منقاسٌ، يدلُّ على ظهور الشَّيء وبُروزه. من ذلك الشَّيء الصريح.” وكتب الجوهري في الصحاح ” وصَرَّح فلانٌ بما في نفسه، أي اَظْهَرَهُ.” ولم يرد عن العرب استعمال آخر للفعل “صرح” كما شاع في العامية ودخل الإستعمال في غير معناه.

قل: حَمَلَها على مَنْكِبِه

ولا تقل: حَمَلَها على مَنكَبِه

كتب الزبيدي: “ويقولون “مَنكَب: الإنسان وغيره (بفتح الكاف)، والصواب “مَنكِب” بالكسر، و “المَنكِب” أيضاً عَون العرَّافِ، يقال: نَكَبَ عليهم ينكبُ نِكابَةً.”

قل: صِحَاب لجماعة الصاحب

ولا تقل: صَحَاب لجماعة الصاحب

كتب الزبيدي: “يقولون لجماعة الصاحب “صَحَاب” والصواب “صِحاب” ولا يكون “فَعال” جمعاً مكَسَّراً إلا قولهم “شَباب” لجماعة “الشَّاب”. فأما “نَعام” و “حَمام” فمن الجمع الذي ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. وأنشدنا أبو علي قال أنشدنا أبو بكر الأنباري:

وقال صِحَابِي هُدهُدٌ فوق بانَةٍ          هُدىً وبَيانٌ بالنَّجاح يَلُوحُ

فإن أدخلت الهاء قلت: “صَحابَة” بالفتح لا غير.”

قل: عَيَّرته الكذب

ولا تقل: عَيّرته بالكذب

كتب الحريري: “ويقولون: عيرته بالكذب، والأفصح أن يقال: عيرته الكذب بحذف الباء، كما قال أبو ذؤيب:

وعيرني الواشون أني أحبها ** وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

وتمثل بعجز هذا البيت عبد الله بن الزبير حين ناداه أهل الشام لما حصر في المسجد الحرام: يا بن ذات النطاقين، فقال: إيه والله
(وتلك شكاة ظاهر عنك عارها). أي زائل عنك، والعرب تقول: اللؤم ظاهر عنك، والنعمة ظاهرة عليك، أي ملازمة لك.

وجاء في تفسير قوله تعالى: “أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول”. أي بباطل من القول، ولم يسمع في كلام بليغ ولا شعر فصيح تعدية عيرته بالباء، فأما من روى بيت المقنع الكندي:

 يعيرني بالدين قومي وإنما ** تدينت في أشياء تكسبهم حمدا

فهو تحريف من الراوي في الرواية، والرواية الصحيحة: يعاتبني في الدين قومي.”

قل: عايَرْتُ المكاييل والموازين

ولا تقل: عَيَّرت المكاييل والموازين

وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “وتقول عايَرت المكاييل والموازين وعاورتها، ولا تقل عَيَّرتها. وتقول عَيَّرته كذا ولا تقل بكذا.”

وكتب المقدسي: ويقولون: على المُحْتَسِبِ أنْ يُعَيِّرَ وصوابُهُ: أنْ يُعايِرَ، وقَدْ عايَرها.”

 

قل: حكمت عليه المحكمة بسنة سَجْنَاً

ولا تقل: حكمت عليه المحكمة بسنة سِجْنَاً

وكتب عبد الهادي بوطالب: “السَّجْن بفتح السِّين وتشديدها مصدر سَجَنَ يَسجُن سَجْنا إذا حَبَسَ في مكان. وعلى ذلك لا نقول: “حكمت عليه المحكمة بسنةٍ سِجْنا (بكسر السين) بل سَجْنا بفتحها ووُضع في السِّجْن (بالكسر) تنفيذا لهذا الحكم.

وجاء في القرآن الكريم في قصة يوسف: “ربِّ السِّجْنُ أحبُّ إليَّ مما يدعونَني إليه”. وجاء أيضاً: “فلبِثَ في السِّجْنِ بِضعَ سنين”.
وجمع السِّجن هو سُجون ونقول : “إدارة السُّجون”.”

 

قل: دخَلَ مِنطَقَةً واسعة

ولا تقل: دخَلَ مَنطِقَةً واسعة

وجاء في ملحق مفردات أوهام الخواص: “ومن أوهامهم في هذا الباب أيضا أنهم يطلقون على المكان المتسع من الأرض لفظة منطقة (بفتح الميم وخفض الطاء)، وعلى النطاق الذي تنتطق به المرأة لفظة منطقة (بخفض الميم وفتح الطاء)، فيوهمون، لأنه لا وجود للفظة الأولى في العربية، فالمنطقة هي المكان المتسع والنطاق معا، والجمع مناطق، وقد ورد في اللسان أن المنطقة هي شبه إزار فيه تكة تنتطق به المرأة.
وقيل: إن هاجر أم إسماعيل عليهما السلام هي أول من اتخذت النطاق.
ويقال لأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ذات النطاقين…..
ومنه قول جرير في هجاء بني تغلب:

والتغلبيون، بئس الفحل فحلهم ** قدما، وأمهم زلاء منطيق

تحت المناطق أشباه مصلبة ** مثل الدوي بها الأقلام والليق

قل: هذا حقك فإمّا أن تحفظه وإمّا أن تضيعه (بكسر همزة إما)

ولا تقل: فأمّا أن تحفظه وأمّا أن تضيعه (بفتح الهمزة)

وكتب مصطفى جواد: “وذلك لأن المراد تفصيل حال الحق والتفصيل يكون الحرف “إمّا” بكسر الهمزة لا بالحرف “أمّا” بفتح الهمزة فهو للشرط والإفتتاح. قال الجوهري: “إمّا بالكسر والتشديد حرف عطف بمنزلة “أو” في جميع أحكامها إلا في وجه واحد وهو أنك تبتدئ في “أو” متيقناً ثم يدرك الشك و “إمّا” تبتدئ بها شاكاً ولا بد من تكريرها تقول جاءني إمّا زيد وإمّا عمرو”. قال الله تعالى “إنا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفورا”. وقال عز من قائل: “وقالوا يا موسى إمّا أن تلقى وإمّا أن تكون نحن الملقين”. وقال عز وجل: “وآخرون مرجون لأمر الله إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم والله عليم حكيم”. وقول الجوهري: لا بدّ من تكريرها يوضح لك الضعف في قولهم “إمّا الظفر أو الموت” والفصيح “إمّا الظفر وإمّا الموت.”

قل: استعملت الشرطة الرصاص في تفريق المتظاهرين

ولا تقل: استعملت الشرطة الرصاص الحي في تفريق المتظاهرين

هذا مثال آخر لعدم مقدرة الإعلام العربي اليوم على صياغة أي خبر إلا ترجمة عن لغة أجنبية وكأن العربية عجزت عن كل شيء حتى أصبح لزاماً علينا أن نستعير ونترجم كل خبر.

فقد استعارت العربية في تطورها المستمر والسليم كلمة “الرصاص” لتعبر بها عن الطلق الذي ينطلق من عدد من الأسلحة النارية. وسبب هذه الإستعارة هو أن الطلقات تصنع من الرصاص فجاءت الإستعارة العربية سليمة بتسمية الجزء باسم الكل.

لكن الإعلامي العربي ما انفك يقول لنا إن الشرطة استعملت الرصاص الحي وكأن هناك رصاصاً غير حي. وهو يفعل ذلك لأنه يترجم العبارة الإنكليزية ‘Live ammunition’ والتي تعني الذخيرة الحية. وقد استعملت الإنكليزية هذه العبارة كي تميزها عن الذخيرة الأخرى مثل “الطلقات المطاطية” حيث لم تعد اللغة الإنكليزية تستعمل لفظة الرصاص لتعبر بها عن الطلقة. وقد يسأل السائل عن الضرر الذي يلحق بالعربية من استعمال “الرصاص الحي”. والجواب على ذلك هو منع الإستغراق في ترجمة كل مصطلح أو عبارة لأن هذا إذا انتشر فإنه سوف يؤثر على صياغة الجملة العربية مما يسيء لحقاً باللغة كلها. وقد انتشر شيء من هذا حيث أصبح الخبر الإعلامي يصاغ كما في الإنكليزية فيبتدأ بشبه الجملة قبل المعرفة أو الفعل كما تقتضي قواعد اللغة.

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

14 أيار  2016

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image