إن مشكلة العراق هي في الدستور وليس في الإستفتاء!

لم أكتبْ مقالاً عن الوضعِ السياسيِّ في العراقِ لأشهرٍ، ذلك لأني لا أعتقدُ بوجودِ أيّةِ جَدوى من ذلك، فالعراقُ لا مستقبلَ لَهُ في المَدى القريبِ أو حتى المتوسطْ، ما لم تقمْ حربٌ واسعةٌ في المِنطقةِ قدْ تُغيرُ من ذلك. وسببُ هذا الاستنتاجِ القاسي، والذي لا أقولهُ تشفياً، هو ليس لأنَّ العراقَ قد غُزيَ فحسبُ، مما يقتضي أن يحتاجَ لفترةٍ حتى يتعافى من الغزوِ، كما حَدثَ في غزوِ ألمانيا واليابان بعد الحربِ العالميةِ الثانيةِ مثلاً. ذلك لأن هناك فرقاً كبيراً بين غزوِ هاتينِ الدولتينِ وغزوِ العراق. فقد كانَ غزوُ اليابانِ وألمانيا لحسمِ الحربِ والانتصارِ العسكريِّ، فانتهتْ الحربُ بانتصارِ الصهيونيةِ العالميةِ، وإخضاعِ الدولتينِ لها دونَ تغييرٍ كبيرٍ في النظامِ السياسيِّ لأيٍّ منهما. أما غَزوُ العراقِ فلمْ يكن لحسمِ حربٍ والانتصارِ العسكريِّ على العراق، والذي لم يكن عام 2003 ليشكلَ خطراً على أضعفِ جيرانهِ فكيفَ كان خطراً عسكرياً على الصهيونيةِ العالميةِ. لقد غُزيَ العراقُ للهدفِ المعلنِ، وهو “تغييرُ النظام”، وهذا يعني المجيءُ بنظامٍ سياسيٍّ جديدٍ يلائمُ مصلحةَ الصهيونيةِ العالمية.

ولن اتحدثَ عما فعلتهُ الصهيونيةُ العالميةُ التي غزتْ العراقَ عام 2003 ، بهدفِ تحويلِ العراقِ من بلدٍ عربيٍّ شبهِ اشتراكي، إلى بلدٍ صهيونيٍّ شبهِ رأسمالي، ذلك لأن هذا موضوعٌ ساهمتُ فيه بكتابينِ، ولن يكفيَهُ مقالٌ أو عدةُ مقالاتٍ. لكن ما أنا بصددهِ هنا أمران، أولُهُما: من هُمْ أدواتُ هذا الغزوِ من العراقيين، وثانيهما: ما الذي أسسَ له الغزوُ مما سيصعُبُ تغييرُه؟

إنَّ جميعَ الذين دَعوا للغزوِ أو شاركوا فيهِ، أو شاركوا بالمشروعِ السياسيِّ الذي أسسهُ المحتلُّ، هُمْ إمّا أجراءُ للصهيونيةِ أو حلفاءُ معَها أو مهادنونَ لها في أضعفِ حالٍ. وأشيرُ لهم هنا لمنعِ التوصيفِ والإطالةِ “أصحاب الغزو”. وهذا هو سببُ عدمِ اهتمامي بالكتابةِ عنهمْ، أو عن ما يبدو من مشاكلَ أو خلافاتٍ بينهم، حيث إن أغلبَها في واقعِ الحالِ تدورُ حولَ المصالحِ الشخصيةِ في الإستئثارِ بالحكمِ والمالِ، اذ ليسَ بينهم خلافاتٌ عقائديةٌ أو حتى سياسية.

فليس سِرّاً أن القيادةَ السياسيةَ الكرديةَ في “أصحابِ الغزو”، ليستْ فقطْ متعاطفةً مع إسرائيلَ بل كانتْ متحالفةً معها سِراً منذُ زمنٍ، وعلناً منذُ معركةِ “هندرين” على الأقلْ، وهي المعركةُ التي سحقَ فيها الأكرادُ عام   1966 اللواءَ الرابعَ في الجيشِ العرقيِّ في جبل هندرين، وبدعمٍ إسرائيليٍّ وإيرانيٍّ  ومساهمةِ شائنةٍ من  حركةِ الأنصارِ الشيوعينَ العراقيين، والتي احتفلَ البارزانيُّ بذكراها الخمسين عام 2016 قائلاً: لم يكنْ مصيرُ الأعداءِ إلا الخضوعَ والفشلَ أمام البيشمركة. أما العربُ من “أصحابِ الغزوِ”، فقد كانَ مشروعهُمْ السياسيُّ لما بعد الغزوِ يمتدُ بينَ من يطمحُ بدولةٍ إسلاميةٍ سنيةٍ، ومنْ يطمحُ بدولةٍ إسلاميةٍ شيعيةٍ، وبرغمِ أنَّ كليهما وَهمٌ لا يمكن أن يتحققَ إلا انهما اتفقا على ألا هُوَيَّةً عروبيةً لعراقِ الغد! وكان الى جانبِ هؤلاءِ من بينِ “أصحابِ الغزوِ” أفرادٌ، ليس لديهم هدفٌ سوى أن ينالوا حُصّةً في السلطة. لذا فان أياً من أعضاءِ مجلسِ الحُكم، والذي برغمِ تسميتهِ لم يحكمْ يوماً، لم يسألْ بول بريمر شيئاً عما سيفعلُه الإحتلالُ في العراقِ، بل سألوا جميعاً عن مستقبلهم الماليِّ فقط!

وحيثُ إن الهدفَ من الغزوِ كان تغييرَ النظامِ، فقد أصدرَ المحتلُّ مائةَ قانونٍ غَيّرَ بِمُوجَبِها العراقَ سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً لغيرِ رجعة. ولم يكن لأيٍّ من “أصحابِ الغزوِ” قولٌ أو دورٌ أو اعتراض.

وبعد أن تحققَ ذلك، وجدَ الغازيْ أن من الأفضلِ له قانونياً أن يعلنَ أنه انسحبَ من الأرضِ المحتلةِ وأسلمها لأهلها، وان كان هذا لم يحدثْ حقا فهو ما زالَ محتلاً للعراق، إلا أن هذا الإعلانَ كان سيرفعُ عنه المساءلةَ القانونيةَ أمامَ قضائِهِ، ليس بقدْرِ تعلقِ ذلك بأهلِ العراق وإنما بقَدْر تعلقهِ بمواطنيهِ هو، اذا ما اصابهم ضررٌ بسببٍ الإحتلال يستدعيْ التعويضَ. فكان عليه أن يضعَ نظاماً أساساً للدولةِ الجديدةِ التي أنشأها، لتحلَّ مَحلَّ الدولةِ القوميةِ في العراق.

فوُضِعَ دستورُ عامِ 2005 والذي ليسَ فقط لم يُشاركْ العراقيونَ في صياغتِهِ بلْ اني على يقينٍ أن أغلبِ العراقيينَ الذين صوتوا له لم يقرؤوهُ يومَهَا ولم يقرؤوهُ بعدها. أما الذين يفخرونَ اليومَ بعضويتهمْ في ما يسمى “لَجْنةَ كتابةِ الدُستور”ِ فهم يتحملونَ طوعاً المسؤوليةَ عن كلِّ مساوئِ الدستورِ وعيوبِه.

فمن أرادَ أن يعرفَ باطنَ المشروعِ الصهيونيِّ للعراقِ، عليهْ أن يقرأ الدُستورَ أولاً قبل أن يعظَ الناسَ بالصحيحِ والقانوني. كما انَّ قراءةَ الدُستورِ قد تضعُ حداً للنفاقِ والكَذِبِ، الذي مثله أحدُ المسؤولينَ الصهاينةِ من “أصحابِ الغزو” حين قالَ قبل أيامِ: بأن قيامَ دولةٍ في كردستانَ العراقِ سيكونُ “اسرائيلَ” ثانيةً، وكان أيّاً من الذين جاءَ بهم الإحتلالُ الصهيونيُّ للعراقِ، لديهِ مشكلةٌ مع اسرائيل! إذ لو كان الأمرُ كذلك فإن ذلك يعني أحدَ أمرين: إما أن الصهيونيةَ العالميةَ أصبحت جمعيةً خيريةً، وإما أنها غبيةٌ وجاهلة. وأشك في الإثنين. لكنَّ أحداً من أهلي العراقيين لم يقلْ لهذا الدعيِّ: لولا اسرائيلُ لما وصلتْ أنت ومن معكَ من “أصحابِ الغزو” للحكمِ في العراقِ، ولكنتَ ما زلتَ تتسكعُ في مقاهيْ مَحِلِّة السيدةِ زينبَ في دمشق!

فما الذي جاء به دُستورُ العراقِ المحتلِّ؟

وبرغمِ أنَّ لي عدداً كبيراً من الملاحظاتِ القانونيةِ والسياسيةِ حولَ الدُستورِ، إلا أني سوفَ أحصُرُها هنا في موضوعِ تقسيمِ العراقِ!

إن ما ساحاولُ أن أبينَهُ هو ان الدُستورَ وُضِعَ عَمداً لتثبيتِ “الفوضى الخلاقةِ”، والتي أراد الصهيونيُّ منها الإبقاءَ على المشرقِ العربيِّ مُقسماً وضعيفاً، كي تبقى سيدتُهُ إسرائيلُ قويةً ومتميزةً في عالمِ الطوائفِ الذي يُحيطُ بها.

فاولُّ ما يَصدِمُكَ هو اللغةُ البائسةُ للدُستور. وسببُ ذلك لا يخفى على الكثيرين. فالدستورُ كُتبَ بالإنكليزيةِ وهي لغةُ المحتلِّ، تماماً كما حدثَ في دُستور عامِ 1925 ، وكانتْ اللغةُ الإنكليزيةُ هي المُعولُ عليها إذا حدثَ خلافٌ كما نصت عليه التعليماتُ رقم (1)، التي نَصبَ فيها بول بريمر نفسهُ حاكماً مطلقا للعراقِ يوم السادسَ عشرَ من أيارَ 2003. وحينَ تُرجمَ الدستورُ فإن الأكرادَ ترجموا نسختهمْ بلغتهم وليس لي علمٌ بها. أما العربُ من “أصحابِ الغزو” فلم يكونوا معنيينَ بما يَتَضَمَّنُهُ الدستورُ، هذا إذا كلفَ أحدٌ نفسَهُ مَشقةَ قراءَتِه. وحتى إذا اهتموا به فماذا كانوا سيفعلونَ؟ فجماعةُ الحكيمِ التي جاءتْ من طهرانَ، كانتْ تُتقن الفارسيةَ أكثرَ من العربيةِ، وجماعةُ صولاغ التي جاءتْ من دمشقَ، كان قائِدُها يُتقن كتبَ أرسين لوبين ومونت كريستو. اما جماعةُ بحرِ العلومِ التي جاءتْ من لندن، فأعلمُ من فيها بالعربيةِ ذلك الثرثارُ الذي يُحسنُ استعمالَ كلماتٍ في جُمَلٍ غيرِ مُفيدة!

فنتوقفُ عندَ المادةِّ الأولى من الدستورِ لأهميتِها من ناحيتين: لغتِها ومضمونِها.

“المادة (الأولى)

جُمهوريةُ العراقِ دولةٌ اتحاديةٌ واحدةٌ مستقلةٌ ذاتُ سيادةٍ كاملة. نظامُ الحكمِ فيها جُمهوريٌّ نيابيٌّ (برلماني) ديموقراطي. وهذا الدستورُ ضامِنٌ لوِحدَةِ العراقِ”.

فاللغةُ البائسةُ هذه لو كتبَ بها طالبٌ في المرحلةِ الإبتدائيةِ لصفعهُ المعلمُ! فما هوَ البرلمانيُّ وما هو الديموقراطي؟ إنَّ دستورَ البلدِ، أيِّ بلدٍ، يُكتبُ بلسانِ القومِ، وكلُّ كلمةٍ فيه يجبْ أن تكونَ بلسانِهِم. وليسَ في العربيةِ “برلماني” وليس في العربيةِ “ديموقراطي”، فلا يمكنُ أن يضمَ دستورُ العراقِ العربيِّ كلماتٍ أعجميةً. فاذا لم يُوجد لتلكَ الكلماتِ الأعجميةِ بدائلُ في العربيةِ فربما لا يَصُحُّ أن يتضَمَّنها الدستورُ، حتى إذا كان ذلك الدستورُ من وضعِ السيدِ الصهيونيِّ المُحتل. اما إذا كان الأخوةُ الأكرادُ بحاجةٍ لتلك الكلماتِ، لمحدوديةِ المُفرداتِ في لُغتهم فليكنْ ذلكَ في النصِّ الكُرديِّ فقط.

ثم ما هي السيادةُ الكاملةُ؟ وكاملةٌ على ماذا؟ وهل وردتْ عبارةُ “سيادةٌ منقوصةٌ” في دُستورِ بلدٍ ما؟

لكن الهدفَ الحقيقيَّ للمحتلِ، يظهرُ واضحاً من الجُملة الأولى من المادةِ الأولى من الدُستورِ، والتي تصفُ العراق بانه “دولةٌ اتحاديةٌ واحدة”.

فالواحدُ لا يتحدُ مع نفسه، وانما يتحدُ ما جاوزَ الواحدَ! وهكذا تكون المادةُ الأولى قد ثبتتْ، أن العراقَ مؤلفٌ من أجزاءَ سابقةِ التكوينِ جُمعتْ في اتحادٍ. وإلا فما كان هناكَ من سببٍ لوصفه “اتحادياً”.

وقد يقولُ قائلٌ بان ذلك بسببِ ما حدثَ للأكرادِ في العهودِ السابقةِ! لكن الأمرَ ليس كذلك، اذ لو كنا نقبلُ أن ما فعلَهُ البعثيونَ من اضطهادٍ للأكرادِ بسببِ عِرقهمْ وللشيعةِ بسببِ مذهبهم، فان اجتثاثَ البعثِ أنهى ذلك، واصبحَ العقلُ يقضي أن العراقَ واحدٌ للجميعِ وليس من سببٍ له أن يكونَ اتحادياً!

لكن الحقيقةَ التي ليستْ سراً ولم تكن يوماً غائبةً عن أحدٍ، هي أن الأكرادَ يحملونَ رغبةً صادقةً وحقيقيةً في أن يكونَ لهم وطنٌ كُردي. ولستُ ضِدَّ هذا، بل ربما كنت من أوائلِ القوميينَ العربِ الذين نادَوا بذلك ودعموهُ، فليسَ من المعقولِ أن أناديَ بحقِّ الشعبِ الفلسطيني في أن يكونَ له وطنٌ، ولا أدعَمُ حقَّ الشعبِ الكرديِّ في ذلك، وليس من المعقولِ أن يكونَ لأهل “جيبوتي”، على سبيلِ المثالِ، وطنٌ ولا يكونَ للشعبِ الكرديِّ وطنٌ إذا شاءَ ذلك! إن تثبيتَ هذا الحقِّ قد يعني أني قد أختلفُ مع الدولةِ الكرديةِ، والتي لا مُحالةَ ستقوم. لكنه لا يعني بالضرورةِ اننا سنكونُ جارينِ متحابينِ أو صديقين. فالدولةُ الكرديةُ كما هو الحالُ اليومَ، ستكونُ حليفةً لإسرائيلَ مما يجعَلُها في صفٍ معادٍ لي. إلا أني برغمِ يقيني بهذا، لم ولن أقفَ ضِدَّ حَقِّ الشعبِ الكرديِّ في وطنٍ له، إذا أراد حقاً ذلك، أملاً في أن يُدركَ جيلٌ قادمٌ معنى الصداقةِ والودِ مع جيرانِهم العربِ، الذين تعايشوا معهم أفضلَ تعايشٍ لقرون!

لكن دعميَ لحقِّ الشعبِ الكرديِّ في وطنٍ قوميٍّ له لا يعني أني أدعمُ طلباً يتم على حسابِ الآخرين، ولا أدعمُ وطناً ترسمُ حدودَه الصهيونيةُ من أجل ديمويمةِ الفوضى في أرضنا لمعرفتها التامةِ بما يمكن أن يقودَ لتنازعٍ طويلِ الأمدِ اذا تم خلقُ حقائقَ على أرضٍ لم يتفقْ عليها العربُ والكردُ وكانتْ سببَ المادةِ المائةِ والأربعين من الدستورِ كما سأعرضُها لاحقاً.

إن العربَ من “أصحابِ الغزو”، على علمٍ تامٍ بهدفِ السياسيينَ الكرد في إقامةِ دولةٍ لهم. بل إن الأمرَ بُحثَ بين القوى المتآمرةِ على العراقِ قبل الغزوِ. فلماذا كلُّ هذا الضجيج؟ فلو أن العربَ من أصحاب الغزو لم يرضَوا بهذه الحقيقةِ، لكان عليهم أن يرفضوا أن يكونَ العراقُ اتحادياً، ولأصرّوا على كونِهِ دولة واحدةً موحدة.

لقد وجدتْ الصهيونيةُ العالميةُ، في طموحِ الأكرادِ في إقامةِ وطنٍ كرديٍّ لهم، سهماً جديداً في فَوضى المشرقِ العربيِّ فدعموه، لا حباً بالأكرادِ ولكن نِكايةً بالعرب!

 

وهكذا كان الدُستورُ اتحادياً. إذ لو أرادَ الصهاينةُ أن يُغلقوا هذا البابَ لفعلوا، وكان يكفي لهم، أ يُشيروا على خَدمِهِم من العراقيينَ من “أصحابِ الغزو” بعربِهِم وأكرادهم، أن ولايةَ كاليفورنيا الأمريكيةِ بعددِ سكانِ العراقِ، وفيها من التنوعِ العرقيِّ والدينيِّ أكثرُ مما في العراقِ، لكنها ولايةٌ واحدةٌ موحدةٌ وليست اتحادية. ولو فعلتْ ذلك ما كان بمقدورِ العرب أو الكردِ أن يفعلوا شيئاً.

أما المادةُ السابعةُ، فقد كشفتْ الموقفَ الحقيقيَّ من المشروعِ القوميِّ العربيِّ في العراقِ، والذي وافقَ عليه جميعُ “أصحابِ الغزو”، حيث نصتْ المادةُ على ما يلي:

“المادةُ (السابعةُ)

اولاً: يُحظرُ كلُّ كيانٍ أو نهجٍ، يتبنى العنصريةَ أو الارهابَ أو التكفيرَ أو التطهيرَ الطائفيِّ، أو يُحرضُ أو يُمهدُ أو يُمجدُ أو يُروجُ أو يُبررُ له، وبخاصةٍ البعثُ الصداميُّ في العراقِ ورموزُهُ، وتحتَ أيِّ مُسمىً كان، ولا يجوزُ ان يكون ذلك ضمنَ التعدديةِ السياسيةِ في العراقِ….”

وهذه المادةُ التي حاولتْ الصاقَ تُهمِ العنصريةِ أو الإرهابِ أو التكفيرِ أو التطهيرِ الطائفيِّ بالبعثِ، وهي تُهمٌ يصعبُ اثباتُها بحقِّ البعثِ، ليسَ الهدفُ منها تحقيقَ عدالةٍ لمظلومٍ، وانما الهدفُ منها منعُ قيامِ أيةِ حركةٍ مستقبليةٍ تتبنى مشروعاً قومياً في العراقِ، خصوصاً في اشارتها الى رفضِ قيامِ حركةٍ تحملُ مبادئَ البعثِ “تحت أي مسمى كان”. وهكذا تحققَ الهدفُ الأولُ في مشروعِ غزوِ العراقِ، في إخراجِهِ من المشروعِ القوميِّ العربيِّ، وهو ما يُلائم مشروعَ القيادةِ السياسيةِ الكرديةِ وقياداتِ الإسلامِ السياسيِّ السني والشيعي على حَدٍ سَواء.

ألا ترونَ أن أحداً لم يتحدثْ عن عروبةِ العراقِ منذ عامِ 2003؟ ففي الوقتِ الذي يتحدثُ فيه الأكرادُ عن هُوَيَّتِهم القوميةِ بفخرٍ واعتزازٍ، أصبحَ الحديثُ عن عروبةِ العراقِ سُبَّةً!

وقد أغفلَ المشرعُ ومن قرأ الدستورَ، أن المادةَ السابعةَ تتعارضُ مع المادة (الرابعةَ عشرةَ) التي تَضمَنُ للعراقيِّ حريةَ المعتقدِ والرأي. كما انها تتعارضُ مع المادة (التاسعةِ والثلاثين)، والتي تَضمَنُ حريةَ تأسيسِ الجمعياتِ والأحزابِ السياسية، وتتعارضُ مع المادة (الثانيةِ والأربعين)، التي تضَمنُ حريةَ الفكرِ والضميرِ والعقيدة.

ثم متى كانت دساتيرُ الدولِ تتضَمَّنُ اشاراتٍ لأحزابٍ أو منظمات؟ ان الدساتيرَ وثائقُ تثبتَ المبادئَ، وتُوضعُ كي تَصلُحَ لكل وقتٍ ومكانٍ!

أما المادةُ (الرابعةُ والعشرون) فأكدتْ هدفَ تقسيمِ العراقِ الظاهرِ وليس الباطنَ. فقد نصت على:

“تَكفلُ الدولةُ حريةَ الانتقالِ للأيديْ العاملةِ والبضائعِ ورؤوسِ الأموالِ العراقيةِ، بين الاقاليمِ والمحافظاتِ، وينظم ذلك بقانون.”

فهل الدولةُ الواحدةُ الموحدةُ، تحتاج أن تضعَ في دُستورها الأمرَ البديهيَّ في حقِ انتقالِ الناسِ ورؤوسِ الأموالِ داخلها؟ فحتى الاتحادُ الأوربيُّ وهو، اتحادٌ ضعيفُ الأواصرِ يسمحُ بتلك الحريةِ، دونَ أن يكونَ ذلك في تَشريعِ الدولِ الأعضاء.

لكن حقيقةَ النيةِ في تقسيمِ العراقِ، التي ثبتها الدستورُ تظهرُ بوضوحٍ في البابِ الثالثِ منه، وهو بابُ السلطاتِ الإتحادية. فبرغمِ ان الموادَ من (التاسعةِ والأربعين) وحتى (الرابعةِ والستين) تعاملتْ مع مجلسِ النوابِ، إلا أن المادةَ (الخامسةَ والستين) نصت على:

“اولاً ـ يتمُ انشاءُ مجلسٍ تشريعيٍّ يُدعى بـ “مجلسِ الاتحاد” يضمُ ممثلينَ عن الاقاليمِ والمحافظاتِ غيرِ المنتظمةِ في إقليم…”

فما الحاجةُ لمجلسٍ تشريعيٍّ للاتحادِ وقد تكفلَ مجلسُ النوابِ بالمُهمةِ التشريعية؟ ثم لماذا يكونُ في بلدٍ موحدٍ ممثلونَ تشريعيونَ عن المحافظات؟ أليست هذه أبوابُ فتنةٍ، لمن أرادَ أن يفتنَ الناسَ أن يحتجَّ بها متى شاء؟

وحتى يتمَّ تثبيتُ حقيقةِ العراقِ المقسمِ، كان لا بد من تشكيلِ المحكمةِ الإتحادية العليا، والتي جعلتها المادةُ (الثالثةُ والتسعون) محكمةً دُستوريةً. لكن تشكيلَ تلك المحكمةِ وطريقةَ اختيارِ أعضائِها، أنيطَ بقانونٍ يشرعهُ مجلسُ النواب. فاذا كان مجلسُ النوابِ موضعَ شكٍّ في تركيبهِ، فان المحكمةَ الإتحاديةَ وتشكيلَها وسلطتَها في تفسيرِ الدستورِ، تصبحُ جميعُها موضعَ شك!

ثم تذكرنا المادةُ (المائة وخمسة) بهدفِ التقسيمِ في نصها على:

“تؤسسُ هيئةٌ عامةٌ، لضمانِ حقوقِ الأقاليمِ والمحافظاتِ غيرِ المنتظمةِ في إقليمٍ، في المشاركةِ العادلةِ في إدارةِ مؤسساتِ الدولةِ الاتحاديةِ المختلفةِ، والبعثاتِ والزمالاتِ الدراسيةِ والوفودِ والمؤتمراتِ الاقليميةِ والدُوليةِ، وتتكون من ممثلي الحكومةِ الاتحاديةِ والاقاليمِ والمحافظاتِ غيرِ المنتظمةِ في إقليم وتنظم بقانون.”

فما هي مكوناتُ الدولةِ العراقيةِ حتى تحتاجَ المحافظاتُ والأقاليمُ فيها، لضمانِ حقوقِهِا في تلك الدولةِ؟ هل تلكَ الدولةُ المزعومةُ الوحدةِ خارجَ المحافظاتِ والأقاليمِ، حتى تحتاجَ هذه لحمايةِ مصالحِها فيها؟ أليس هذا إقرارٌ صريحٌ بأن الدولةَ العراقيةَ، هي اتحادٌ ليس فقط بين بغدادَ وإقليمِ كردستانَ بل بين بغدادَ وكلِّ محافظةٍ في العراق؟ فأيةُ دولةٍ موحدةٍ هذه؟

ثم ما تلبثُ المادة (المائة وستةَ عشرةَ) أن تريحَنا من هذا العناءِ فقد نصتْ على:

“يتكونُ النظامُ الاتحاديُّ في جُمهوريةِ العراقِ من عاصمةٍ وأقاليمَ ومحافظاتٍ لامركزيةٍ وإداراتِ محلية.”

والمادةُ لا تحتاجُ الى تعليقٍ في تثبيتها لإتحادٍ بين مكونات. وليسَ الأمرُ بحاجةٍ لفلسفةٍ أو عبقريةِ لغةٍ لإدراكِ أن الاتحادَ هو غيرُ الوِحدة!

وتأتي بعد ذلك موادٌ تجعلُ الدولةَ العراقيةَ تُصبحُ، أقربَ للسخريةِ والتفردِ في العالم. وأوجزُ أهَمَ ما فيها بما يلي:

فالمادة (المائة وتسعةَ عشرةَ): أجازتْ لكلِّ محافظةٍ أو أكثرَ تشكيلَ إقليم. اي انه يُمكنُ أن يكونَ العراقُ مكوناً من 18 اقليماً. وقد حَدثَ أن تذرعَ عددٌ من الذين يحتجونَ اليومَ على استفتاءِ الأكرادِ بهذه المادةِ، وأرادوا إنشاءَ إقليمِ الجنوبِ وإقليمِ البصرة.

والمادة (المائةٌ وعشرون): أجازتْ لكلِّ إقليمٍ حَقَّ وَضعِ دُستورٍ له.

والمادة (المائة وواحدٌ وعشرون): أجازتْ لسلطةِ كلِّ إقليمٍ حَقَّ ممارسةِ السُلُطاتِ التشريعيةِ والتنفيذيةِ والقضائية. ثم أضافتْ المادةُ فقرةً لا بد أن تُقرأ لتكشفَ عن نيةِ الفَوضى المقصودِ خلقُها في العراق. فقد جاء في الفَقْرةِ الرابعةِ من المادة (المائة وواحدٍ وعشرين) ما يلي:

“رابعاً: تؤسسُ مكاتبُ للاقاليمِ والمحافظاتِ في السفاراتِ والبعثاتِ الدبلوماسيةِ، لمتابعةِ الشؤونِ الثقافيةِ والاجتماعيةِ والانمائية.”

فلو قامتْ في العراقِ على سبيلِ المثالِ سبعةُ أقاليمَ، فإن من المتاحِ دُستورياً أن يكون لكل منها مكتبٌ في سفارةِ العراق في “مقديشو” على سبيلِ المثالِ. اي أن سفارةَ العراق في الصومالِ، يمكن أن يكون فيها سبعَةُ مكاتبَ لسبعةِ أقاليمَ، لا يعرف أحدٌ ماذا تفعلُ وماذا تبذرُ، لكن هذا ليس مُهماً لأن الدستورَ “الديموقراطي” أجازَ ذلك. والعجبُ كلُّ العجبِ أن الصهيونيَّ الذي احتلَّ العراقَ، لا يفعلُ ذلك في بلده، فليس في سفارةِ الولاياتِ المتحدةِ في أيةِ عاصمةِ، مكاتبُ تمثلُ أيا من ولاياتِها الواحدةِ والخمسين!

تبقى ثلاثُ موادٍ تتعلقُ بما نحن بصددهِ، لا بُدَّ من عرضها بتفصيلٍ أكبرَ، لما لها من علاقةٍ بالإستفتاءِ والنزاعِ حولَ مطابقتهِ للدستورِ من عدمه، وهي المواد (مائة وست وعشرون) (مائة وأربعون) و (مائة وواحدٌ وأربعون)،

فنصتْ الفَقْرةُ الثانيةُ من المادةِ (مائة وأربعين) على ما يلي:

“ثانياً: المسؤوليةُ الملقاةُ على السلطةِ التنفيذيةِ في الحكومةِ الانتقاليةِ، والمنصوصُ عليها في المادة (58) من قانونِ إدارةِ الدولةِ العراقيةِ للمرحلةِ الانتقاليةِ، تمتدُ وتستمرُ إلى السلطةِ التنفيذيةِ المنتخبةِ بِمُوجِبِ هذا ، على أن تُنجزَ كاملةً (التطبيعَ، الاحصاءَ، وتنتهي باستفتاءٍ في كركوكَ والمناطقِ الاخرى المتنازعِ عليها، لتحديدِ إرادةِ مواطنيها) في مُدةٍ اقصاها الحادي والثلاثون من شهرِ كانونٍ الاولِ سنة الفين وسبعة.”

وهذه الفَقْرةُ بحاجةٍ لوقفةٍ فاحصةٍ ومتأنيةٍ لأسبابٍ ستتضحُ لاحقاً.

وأولُ ما يستوقفنا أمرٌ في غايةِ الخطورةِ، ليس بقَدْرِ تعلقِ الأمرِ بي، حيثُ ليس سراً إني أعُدُّ كلَّ ما صدرَ عن الاحتلالِ وما بعدهُ باطلاً من الناحيةِ القانونيةِ، لأن نتائجَ أيِّ احتلالٍ غيرُ مُلزمةٍ وإن دعمها مجلسُ الأمن. لكني أقولُ ذلك للذينَ يدعون قانونيةَ ما جرى ويجري، أي إني ألزمهم بما ألزموا به أنفسَهُم.

ذلك لأن ما يُسمى “قانونَ إدارةِ الدولةِ العراقيةِ للمرحلةِ الانتقالية”، لا وجودَ له من زاويةٍ قانونية. فقد ظهرَ القانونُ على موقعِ شبكة المعلوماتِ لـ “هيئةِ الحكمِ الانتقالي”، لكنه لم يَصدرْ على شكلِ قانونٍ وقعتهُ سلطةُ الإحتلالِ كما نصت عليه التعليمات رقم (1)، التي أعلنها بريمر لتحكم العراق في فترة الإحتلال. وهذا يعني أن أحداً ما لم يشرعْ “قانونَ إدارةِ الدولةِ العراقيةِ للمرحلةِ الانتقالية”. فكيف يكون قانوناً لم يصدرْ حتى بموجب شريعةِ المحتل؟ وليسَ رداً على ذلك ما قيلَ من أن مجلسَ الحكمِ صدقَ عليه، ذلك لأن مجلسَ الحكمِ بتشكيلهِ لم يكن مُخولاً بالتشريعِ لوحده!

هكذا يتهاوى “قانونُ إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية”، وتتهاوى معه المادةُ (58) منه، وتتهاوى معه المادةُ (140) من الدُستور.

ولو افترضنا من بابِ الجدلِ أن المادةَ (مائة وأربعين) قائمةٌ حقاً، فلا بد أن السؤالَ سيكون: تُرى لماذا تكون هناك محافظةٌ متنازعٌ على حدودِها وانتمائها، داخلَ بلدٍ واحدٍ “حَرٍّ وديموقراطي”؟ أليس هذا هو الإقرارُ بأن “أصحابَ الغزو”، كانوا متفقين على أنهم يشكلون بلدأ مكوناً من أجزاء؟ ألا يقضي العقلُ بان من يتفقُ على أن يدخلَ في اتحادٍ، له الحقُ نفسُهُ في الخروجِ منه؟ فلماذا هذا الضجيجُ وادعاءُ المفاجأةِ والجهل؟

ثم تأتي المادةُ (مائة وواحدٌ وأربعون) لتصب وقوداً جديداً على هذا الواقعِ، الذي يُنكرُه صانعوه من “أصحابِ الغزو”، فتقول:

“يستمرُ العملُ بالقوانينِ التي تَمَّ تشريعُها في اقليمِ كردستانَ منذُ عامِ 1992 وتُعدُّ القراراتُ المتخذةُ من حكومةِ اقليمِ كوردستان ـ بما فيها قرارات المحاكمِ والعقودُ ـ  نافذةَ المفعولِ ما لم يتمَ تعديلُها أو الغاؤُها، حسبَ قوانينِ اقليمِ كوردستان من قبلِ الجهةِ المختصةِ فيها، وما لمْ تكن مخالفةً لهذا الدستور.”

فاذا قال قائلٌ إن اقليمَ كردستانَ قد شَرّعَ من قبلُ قانوناً، يدعو فيه لإجراءِ استفتاءٍ على الإستقلالِ، فإن الرد عليه بانه سيكونُ مخالفاً للدُستورِ ليس صحيحاً من الناحية القانونيةِ، لأنه ليس في الدُستورِ مادةٌ تقول بذلك لا نصاً ولا معنىً. بل على العكس من ذلك تماماً، لأن الدُستورَ بكليتهِ كما بينتُ، قامَ على أساسِ اتحادِ مكوناتٍ مستقلةٍ، وما اتحدَ يُمكن له أن يُحَل!

ويَدعَمُ هذا ما جاء في الفقرة (الرابعةِ) من المادةِ (مائة وستٍ وعشرين) والتي تنصُ على:

“رابعا ـ لايجوزُ إجراءُ أيِّ تعديلٍ على موادِ الدستورِ من شأنه أن ينتقصَ من صلاحياتِ الأقاليمِ التي لاتكون داخلةً ضمنَ الاختصاصاتِ الحصريةِ للسلطاتِ الاتحاديةِ الا بموافقةِ السلطةِ التشريعيةِ في الاقليمِ المعنيَّ وموافقةِ أغلبيةِ سكانِه باستفتاءٍ عام.”

حيثُ تؤكدُ المادةُ أمرين: إن صلاحياتَ الإقليمِ هي عملياً فوقَ الدُستور، وإن الإستفتاءَ مشروعٌ في ما يَخُصُ موافقةَ الإقليمِ على أي مَساس بصلاحياته. وهو ما يَحقُ لأي اقليمٍ أن يَحتجَّ به للقيامِ بالاستفتاءِ على أمْرٍ مصيريٍّ يخصهُ ما دامَ الدُستورُ لا يُعارضُ ذلك.

إن ما عرضْتُهُ أعلاه، هو ليس لتسويغِ القيامِ بالاستفتاءِ، أو لإبداءِ رأيٍ سياسيٍّ أو عاطفيٍّ حولَ الإستفتاءِ، كما يَصدرُ اليومَ من عددٍ من “اصحابِ الغزو”. إنما الهدفُ هو تبيانُ حقيقةِ أن تقسيمَ العراقِ كان الهدفَ الأولَّ من غزوهِ، وأن جميعَ “اصحابِ الغزو” من عربٍ وأكرادِ وسنةٍ وشيعةٍ، يعرفون ذلك جيداً ووافقوا عليه.

فاعادةُ النظرِ في اتفاقيةِ سايكس- بيكو تبدأ من الحَلْقَةِ الإهَمِّ من تركيبها ألا وهي العراق، وهذا كان حين أدركتْ الصهيونيةُ العالميةُ، فشلَ مشروعِ الدولةِ القوميةِ في المِنطقةِ بعد أن كانتْ قد اعتقدتْ أنها ستتمكنُ من الهيمنةِ عليها بتلك الإتفاقية.

فليكُفَّ المنافقُ من “أصحابِ الغزو” عن الحديثِ عن الخطرِ الذي ينتظرُ العراقَ بسببِ الإستفتاء.

عبد الحق العاني

28 أيلول 2017

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image