من يحق له أن يسمى محامياً في بريطانيا؟

 

مقدمة

يبدو أن قِيامَنا بدعوى لمقاضاةِ توني بلير بجريمةِ غزوِ العراقِ وتخريبِهِ فَتحتْ الشهيةَ لَدى عددٍ من الناسِ ليسَ لعملِ شيءٍ ولكنْ للغوِّ والثرثرةِ. فانتهى الأمرُ في انَّ كُلَّ من امتلكَ هاتفاً نقالاً أو مَدخلاً لشبكةِ المعلوماتِ، وأكثرُ الناسِ يمتلكونَ هذا، أصبحَ خبيراً في القانون الدُّوليِّ واجراءاتِهِ واجراءاتِ القانونِ الإنكليزي، بينما هو لا يُقدمُ للناسِ سوى تشويهٍ للحقيقةِ وابتداعِ آمالٍ لا أرضيةَ لها.

إنَّ كونَ المتحدثِ قد درسَ القانونَ في مصرَ أو المغربِ أو العراقِ لا يُغيِّرُ من امكانيةِ الجهلِ شيئاً. ذلك لأنَّ مِهنَةَ المُحاماةِ وممارسَتَها لا تختلفُ عنْ أيّةِ مِهنةٍ أخرى فكما إنه ليس كُلُّ من قرأ كتاباً في الطبِ أصبحَ طبيباً فكذلك ليس كُلُّ من قَرأ كتاباً في القانونِ الإنكليزيِ أصبحَ مُحامياً في بريطانيا.

وقد سألني أكثرُ من صديقٍ أن أخرجَ على الناسِ ببعضِ التوضيحِ عن مهنةِ المحاماةِ في بريطانيا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، فكانَ هذا المقال.

الخلفية التأريخية

إن كلمة “محامي” “Lawyer” ليسَ لها معنىً قانونيٌّ في بريطانيا الا حين تُطلقُ على محاميِّ الإتحادِ الأوربيَّ العاملين في بريطانيا على وِفْقِ قَواعدِ عَمَلٍ مستقلة.

إذ تختلفُ انكلترا عن اغلبِ دولِ العالمِ في أنَّ مهنةَ المحاماةِ فيها تنقسمُ الى قسمينِ متميزينِ هما (Solicitor) سولستر وهو ما اصطلحنا على تسميته بمحامي المتابعة (م متابعة) وبارستر (Barrister) وهو ما اصطلحنا على تسميته بمحامي المرافعة (م مرافعة)، حينَ يسمى هؤلاءِ باسمٍ واحدٍ في معظمِ دولِ العالم.

وهذا التقسيمُ بين مهنتي سولستر وبارستر له خَلفيةٌ تأريخيةٌ تَرجِعُ الى القرنِ الرابعِ عشر. فيقومُ م مرافعة بشكلٍ أساسٍ بتقديمٍ الرأي القانونيِّ والترافعِ أمامَ المحاكمِ. أمَّا م متابعة فإنَّه يقومُ بالعملِ التمهيديِّ للمقاضاةِ كإعدادِ الأدلةِ واستجوابِ الشهودِ واستصدارِ الأوامرِ القضائيةِ وتنفيذِ الأجراءاتِ الوقتيةِ. هذا الى الجانبِ الأكبرِ من عملهِ والمتمثلِ في اجراءاتِ بيعِ العقارِ ونقلِ ملكيته.

ولعلَ المُهمَّ في الفصلِ بين المهنتينِ هو أن م المتابعة (سولستر) هو الشخصُ الذي يُوكلُّ في القضيةِ من قبلِ الوكيلِ أو صاحبِ القضيةِ، ويقومُ هو بدورهِ في تكليفِ م المرافعة لإعطاءِ الرأيِّ القانونيِّ والتمثيلِ أمامَ المحكمةِ إذا وصلتْ القضيةُ لها. ولا يَتصلُ م المرافعة بالمُوكلُ ولا يدورُ بينهما عقدٌ أو دفعُ أجورٍ وانما يتمُ كلُّ ذلك عن طريقِ م المتابعة (سولستر) ولا يلتقي (بارستر) مع الموكلِ الا بحضورِ (سولستر).

وتُنظمُ مهنةَ م المتابعة (سولستر) “جمعيةُ القانون” والتي تتمتعُ بسلطاتٍ قانونيةٍ فيما يخصُ م التابعة بل وحتى عامّةِ الناسِ، وهذه السلطاتُ حددها قانونُ م المتابعة (سولستر) لعام 1974.

فلا يَحقُّ لأيِّ فردٍ ممارسةُ مهنةِ م المتابعة (سولستر) هذه ما لم يَحصلْ على شهادةٍ من الجمعيةِ باكمالهِ لكل شروطِ المهنةِ والتي تَشملُ الدراسةَ والأمتحاناتِ ومرحلةَ التدريبِ الأوليةِ، هذا الى قناعةِ الجمعيةِ بحسنِ سلوكِ المتقدمِ وملاءمتِهِ للعملِ محامياً للمحكمةِ العليا. وتحتفظُ الجمعيةُ بسجلِّ المحامينَ الذي يُشترطُ في كل ممارسٍ أن يكونَ اسمُهُ عليه وأن يَحملَ شهادةَ ممارسةٍ نافِدَةً، بعد أن يكون قد أمّنَ التأمينَ المهنيَّ الكاملَ لحمايةِ الموكلين، وخلافُ  ذلك فان عملَ م المتابعة (سولستر) باطلٌ وغيرُ قانوني.

وينظمُ عملَ م المرافعة (بارستر) “مجلسُ البار”. ولا يحقُ لأحدٍ ممارسةَ مهنة م مرافعة ما لم يكنْ عضواً في إحدى “حانات” المحكمة الأربع (Inns of Court) والتي يعودُ تأريخها الى بدايةِ نشوءِ المهنةِ والتي اكتسبت اسمها لكونها كانت مَحلَّ سكنٍ واقامةٍ للبارستر على مَقربَةٍ من المحكمةِ في وسطِ لندن.  وعلى ذلك بقي اسمُ الحانةِ مستعملاً حتى اليوم.

وظلَّ أمرُ تنظيمِ وادارةِ الشؤونِ هكذا لزمنٍ طويلٍ. حتى صدر “قانونُ الخدمة القانونية 2007” لتنظيمِ تقديمِ كل الخدماتِ القانونيةِ في بريطانيأ. ولم يسلبْ القانونُ “جمعيةَ القانون” ولا “مجلسَ البار” سلطاتِهما التنظيميةِ للمهنتينِ لكنه أخضعهما لمظلتهِ الإشرافيةِ.

فعرفتْ المادةُ الثانيةَ عشرة من القانونِ ما أسمتهُ “النشاطَ القانونيَ المحجوز” فحددتْ ستةَ أنشطةٍ يتصدرُها نشاطا حَقِّ التمثيلِ أمامَ المحاكمِ وحقِّ اجراءاتِ التقاضي.

بينما عرفت المادةُ الثالثةَ عشرةَ من القانونِ منْ يحقُّ له أن يمارسَ أياً من “النشاطِ القانون المحجوز” بأنه الشخصُ المجازُ من قبل الجهةِ القانونيةِ المعنيةِ بمهنته وهي “جميعةُ القانون” للسولستر و”مجلسُ البار” للبارستر. أو من كان معفيا من ذلك الشرطِ على وفقِ المادةِ التاسعة عشرة من القانونِ نفسه.

وعَرَّفَ القانونُ في الجدولِ رقم 1 كلَّ الذين يحق لهم ممارسةُ اي من “النشاط القانوني المحجوز”. فجاء م المتابعة (سولستر) وم المرافعة (بارستر) في صَدرِ حصرِ صلاحيةِ ممارسةِ أعمالِ الإستشارةِ القانونيةِ والترافعِ والمقاضاةِ.

ووضعَ القانونُ عقوبةً قاسيةً لمن يُقدمُ خدمةً قانونيةً أو يدعيْ أنه يحقُ له أن يُقدمها دون أن يكون مجازاً بموجبِ القانونِ أن يفعلَ ذلك.

فنصت المادةُ الرابعة عشرة من القانون على أن أيَّ شخصٍ يمارسُ نشاطاً قانونياً معيناً دون إجازةِ من الجهةِ المخولةِ بمنحها يرتكبُ جريمةً يُعاقبُ عليها بالسجن لمدةٍ قد تصل لسنتينِ أو بغرامةٍ أو بكليهما. هذا الى جانبِ جريمةِ الإستهانةِ بالمحكمةِ التي يمثلُ أمامَها دون إجازةٍ والتي يترتبُ عليها عقوبةُ تحددها المحكمةُ ذاتُها.

أما المادةُ السابعةَ عشرة فقد تجاوزتْ المادةَ الرابعةَ عشرة في تجريمِ عملٍ آخر لم يَفتْ على المشرعِ الإنتباهُ اليه. حيث نصت المادةُ على تجريمِ ما يلي:

” أ. كُلِّ عملٍ مقصودٍ للإدعاءِ بان صاحبهُ يحقُّ له ممارسةُ النشاطِ المحجوزِ دون أن يكونَ له ذلك الحقَّ، أو

  • بِنيةِ الإدعاءِ الكاذبِ بأنه يَحقُ له وذلك عن طريقِ استعمالِ أيِّ اسمٍ أو عُنوانٍ أو وصفٍ لمهنته.”

وجعلت المادةُ عقوبةَ من يفعل ذلك السجنَ لعامينِ أو بغرامةٍ أو بكليهما.

ولهذهِ المادةُ أهميةٌ كبيرةٌ. ذلك لأنَّ عدداً من خريجيِ القانونِ العربِ القاطنينَ في بريطاني يطلقونَ على أنفسهمْ لقبَ “محام”، سواءً أكانَ ذلك في الحديثِ على قنواتِ التلفازِ أمْ في الكتابةِ أمْ في أنشطةِ جميعاتِ أو إتحاداتِ أمْ في مراكزَ تسمى قانونيةٍ، رغمَ أنهمْ ليسوا محامينَ مجازينَ للعملِ كمحاميْ متابعة أو محامي مرافعة كما اسلفتُ وشرحتُ. وحيث إن استعمالهم للقب “محام” يُوحي للسامعِ أو القارئِ بأن المتحدثَ لا بد أن يكونَ له حقُّ ممارسةِ المحاماةِ في بريطانيا فان المُدعي للمحاماةِ يكونُ قد ارتكبَ جريمةَ الإيحاءِ بانه يمتلكُ حقاً وهو لا يمتلكه! إن نصيحتي لهؤلاءِ هي أن يَكُفوا عن استعمالِ لقبِ “محام” في انشطتهم في بريطانيا كي لا يَخدعوا المواطنَ العربيَ في أرضِ العربِ أو في بريطانيا. أما إذا رغبوا حقا في استعمالِ لقبِ “محام” فعليهمْ أن يبينوا بشكلٍ واضحٍ في مواقعهمْ أو جميعاتهِمْ أو اتحاداتهِمْ أو مراكزهم أنهم غيرُ مجازينَ بممارسةِ المهنةِ في بريطانيا! هذا علماً بأن تأسيسَ جمعياتٍ أو اتحاداتٍ أو مراكز لا يخضعُ في بريطانيا لقانون ويمكن، باستثناءِ عددٍ محدودٍ من الكلماتِ تسميةُ الجمعيةِ أو الإتحادِ أو المركز بأي اسم. فلا يغرنك الأسمُ.

إن خُلاصةَ ما أوجزتُ أعلاه هو أنه (باستثناء محامي الإتحاد الأوربي) لا يحقُ لأحدٍ أن يمارسَ أو يدعيَ أو يوحيَ بأنه محامٍ في بريطانيا إلا من كان مُجازاً بالعملِ م متابعة (سولستر) أو م مرافعة (بارستر) من قبل الجهةِ المخولةِ قانوناً بذلك. ومن يُمارسُ أو يدعيْ أو يوحيْ بأنه محام دون اجازةٍ يرتكبُ جريمةَ يُعاقبُ عليها بالسجن لمدة سنتين.

إن العربيَ، سواءً أكان في بريطانيا أم في الوطنِ العربيِ، اذا أراد مَشورةً قانونيةً أو اتخاذَ اجراءٍ قانونيٍ ولجأ لمحامٍ عربيٍ يُقيمُ أو يَعملُ في بريطانيا فعليه أن يكون سؤالُهُ الأولُ لمن يدعي أنه محامٍ في بريطانيا: أأنت سولستر أم أنت بارستر؟

فاذا كان الردُّ ايجاباً بأنه واحدٌ منهما فلا بأسَ باستشارتهِ في ما يَخصُّ القانونَ الإنكليزي أو تكليفِهِ بمتابعةِ قضيةٍ أو تثميلهِ أمامَ القضاء.

أما إذا لم يكن من يدعي مهنةَ المحاماة في بريطانيا مجازاً للعملِ على وفقِ القانونِ الإنكليزي (سولستر) أو (بارستر) فلا شأنَ للعربيِ باستشارتِهِ أو تكليفِهِ بتمثيله!

إن سببَ دعوتي للمواطنِ العربيِ ألا يستشيرَ أو يُكلفَ من كان غيرَ مجازٍ لممارسةِ مهنةِ المحاماةِ في بريطاينا هي ليست فقط الخوفَ من جَهلِ المكلفِ بالقانونِ واجراءاتهِ لأن من لا يُمارسُ مهنةً لا يَعرفُ عنها الكثيرَ، وانما لأن أمراً أكبرَ وأخطرَ ينتظر صاحبِ الحاجة.

ذلك لأن القانونَ الإنكليزيَ يلزمُ كلا من (سولستر) و (البارستر) أن يُؤمنَ تأميناً مهنياً كاملاً قبل حُصولهِ على رخصةِ الممارسة. وهذا التأمينُ يُعطي الموكلَ ضَماناً مالياً فاذا كان النصحُ القانونيُ خاطئاً أو إذا قَصرَّ المحامي في عملهِ أو أهملَ لأي سببٍ وترتبَ على ذلك ضررٌ بصاحبِ القضيةِ فان ذلك الضررَ سيعوضُ من قبلِ شركةِ التأمينِ أو الضمانِ التي كفلتْ المحامي.

اما المحاميُّ العربيُ غيرُ المجازِ فاذا أعطى مشورةً قانونيةً أو نصحَ باجراءٍ قضائيٍ وتبين بُطلان ذلك ونتجَ عن ذلك البطلانِ ضررٌ لصاحبِ الحاجةِ فهذا الأخيرُ ليس لديه سبيلٌ للتعويضِ لأن المحاميَ العربيَ غيرَ المجازِ بالممارسةِ في بريطانيا غيرُ مكفولٍ مهنياً.

إن أريد الا الإصلاح ما استطعت.

والسلام

عبد الحق العاني
لندن 2 أيلول  2017

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image