قل ولا تقل / الحلقة الثالثة والتسعون

 

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

 

قل: جاءت وحْدة عسكرية

ولا تقل: جاءت وحَدَة عسكرية

وكتب عبد الهادي بوطالب: “نسمع في الإذاعة والتلفزة هذا الخطأ :الوحَدة العسكرية، والوحَدة الإعلامية. والصواب هو تسكين حرف الحاء من كلمة الوحدة. وجمعها على فَعَلات.

ويحسن أن نذكر أن الإعلام لا يخطئ حين يتحدث عن الوحْدة الوطنية والوحْدة الترابية بتسكين حرف الحاء، فلم لا يتجنب الإعلام هذا الخطأ حين يتحدث عن الوحْدة العسكرية، والوحْدة الإعلامية؟” انتهى

وكتب ابن منظور في اللسان: وحكى سيبويه: الوَحْدة في معنى التوَحُّد. الجوهري: الوَحْدةُ الانفراد.

وفي الحديث: أَن الله تعالى لم يرض بالوَحْدانيَّةِ لأَحَدٍ غيره، شَرُّ أُمَّتي الوَحْدانيُّ المُعْجِبُ بدينه المُرائي بعَمَلِه، يريد بالوحْدانيِّ المُفارِقَ للجماعة المُنْفَرِدَ بنفسه، وهو منسوب إِلى الوَحْدةِ والانفرادِ، بزيادة الأَلف والنون للمبالغة.”

وكتب الجوهري في الصحاح: “الوَحْدَةُ: الانفرادُ. تقول: رأيته وحدَه.”

 

قل: نقص المبلغ ثلاثة أفلس أو أربعة أفلس وهلم جراً الى عشرة أفلس

ولا تقل: (نقص) ثلاثة فلوس ولا أربعة فلوس حتى العشرة

كتب مصطفى جواد: “لأن الأفلس جمع قلة وهو من الثلاثة الى العشرة فاذا زاد المبلغ على ذلك قيل فُلوس. وهكذا يقال أشهر للقلة وهي شهور لكثرة، فنقول أقام ببغداد ثلاثة أشهر أو ستة أشهر حتى العشرة فإذا جاوزتها إقامته قلنا: أقام فيها شهوراً نعني أكثر من عشرة أشهر، وكذلك القول في الأنظمة والنظم. فالأنظمة من الثلاثة الى العشرة والنظم من العشرة الى أكثر منها.”

 

قل: شهور كثيرة وأشهر قليلة

ولا تقل: شهور قليلة وأشهر كثيرة

كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن “الشهور” جمع تكسير للكثرة فهو على وزن “فُعول” فلا يمكن أن تكون عدته قليلة، فهو مثل “صدر وصدور” و “قلب وقلوب” و “نفس ونفوس” و “درب ودروب” و “عقل وعقول” و “حظ وحظوظ” و “جد وجدود” وألف غيرها من جموع الكثرة. ويشمل جمع الكثرة من العشرة إلى ما لا حد له. أما “الأشهر” فهو جمع تكسير للقلة أي لأدنى العدد، وهو من الثلاثة الى العشرة فلا يصح وصفه بالكثرة. وقد وضعت العرب جمع القلة وجمع الكثرة ليدلا بصيغهما وأوزانهما على المقدار العام للمعدود، إذا خلت العبارة من ذكر العدد مصروحاً. فإذا قلنا: أقام ببغداد أشهراً عُلم أن الإقامة لم تتجاوز عشرة أشهر وإذا قلنا: أقام شهوراً عُلم أنه أقام أكثر من عشرة أشهر، وعلى هذا يجري كل ما له جمعان على وزن “أفعُل و فُعول” كأفلس وفلوس، فإن لم يكن للإسم إلا جمع قلة قسنا له جمع كثرة وإن لم يكن له إلا جمع كثرة قسنا له جمع قلة. وينبغي لنا أن لا نتقيد بقول من قال: لا يجوز القياس في الجموع، فهذا تحكم من عنده فلا يلتفت اليه ولا يجعل عليه.

ثم ان اللغويين لم يستقصوا ذكر الجموع في كتب اللغة. ألا ترى أن “البغل” جمع فيها أي في كتب اللغة على “بغال وأبغال” فقط مع ان “الأبغل” جمع القلة للبغل قد ورد في كلام الفصحاء كما جاء في الجزء الثاني من تأريخ بغداد للخطيب وتأريخ الطبري. وكتاب الوزراء للجهشياري وكتاب “بدائع البدائع” لإبن ظافر الأزدي، وهذا يدل على أن العرب لا يخيمون عن القياس عند وجود الضرورة، ولذلك ينبغي أن يقال: عندي ثلاثة أفلس وأربعة أفلس وخمسة أفلس وستة أفلس وسبعة أفلس وثمانية أفلس وتسعة أفلس وعشرة أفلس فإذا زاد مقدرا العدد قيل: فلوس.

وهذا من أخص الخصائص في اللغة العربية أعني أن يُقدّر العدد بلفظ الجمع تقديراً عاماً، ويُعلم أنه قليل أو كثير. فقل: شهور كثيرة واشهر قليلة ولا تقل: شهور قليلة وأشهر كثيرة، هذا على سبيل التأكيد وإلا فقل شهور للكثير وأشهر للقليل.”

وكتب الحريري: ويقولون ثلاثة شهور وسبعة بحور، والاختيار أن يقال: ثلاثة أشهر وسبعة أبحر، ليتناسب نظم الكلام، ويتطابق العدد والمعدود، كما جاء في القرآن: “فسيحوا في الأرض أربعة أشهر” وفيه أيضا: “والبحر يمده من بعده سبعة أبحر”، والعلة في هذا الاختيار أن العدد من الثلاثة إلى العشرة وضع للقلة، فكانت إضافته إلى مثال الجمع القليل المشاكل له أليق به، وأشبه بالملاءمة له.

أمثلة الجمع القليل أربعة: أفعال، كما قال سبحانه: “فصيام ثلاثة أيام”، وأفعل: كما ورد في التنزيل أيضا ” سبعة أبحر”، وأفعلة: كقولك: تسعة أحمرة وفعلة، كقولك: عشرة غلمة.

وهذا الاختيار في إضافة العدد إلى جمع القلة مطرد في هذا الباب، اللهم إلا أن يكون المعدود مما لم يبن له جمع قلة، فيضاف إلى ما صيغ له من الجمع على تقدير إضمار من البعضية فيه، كقولك : عندي ثلاثة دراهم، وصليت في عشرة مساجد، أي ثلاثة من دراهم وعشرة من مساجد. ولسائل أن يعترض بقوله تعالى: “والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء” فيقول: كيف أضاف الثلاثة إلى قروء، وهي جمع الكثرة، ولم يضفها إلى الأقراء التي هي جمع القلة.

والجواب عنه أن المعنى في قوله تعالى: “والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء” أي ليتربص كل واحدة من المطلقات ثلاثة أقراء، فلما أسند إلى جماعتهن ثلاثة، والواجب على كل واحدة منهن ثلاثة، أتى بلفظة قروء، لتدل على الكثرة والمرادة والمعنى الملموح.

 

قل: ما يزال أمامنا مسار طويل

ولا تقل: ما يزال أمامنا مَشْوار طويل

كتب بو طالب: “تُستعمَل هذه الكلمة في الإعلام كثيرا للدلالة على الطريق، أو المسار. وهي مأخوذة من العامية المصرية. ولم تدخل معاجم اللغة الفصحى. ويقال “ما يزال أمامنا مَشْوار طويل”
ومن أغرب ما عرفته عن هذه الكلمة ما قال لي عنها أحد الزملاء الأساتذة المصريين (الذي أقرَّ معي بأنها ليست عربية) من أنه يظنها محرفة عن كلمة “مارْشْوار” الفرنسية. لكن أخبرته أن هذه الكلمة ليست فرنسية ولا توجد في المعاجم الفرنسية. توجد كلمات في الفرنسية على صيغة “مارْشْوار” هي مثلا كلمة “دُورْتْوار” (Dortoir) التي تعني قاعة النوم المشتركة التي تُخصَّص في الداخليات المدرسية للتلاميذ ليناموا فيها. وكلمة “بَّارْلْوار” (Parloir) التي تعني مكانا مخصَّصا للحديث كالمكان المخصص لزائري السجناء للتحدث إليهم وهم وراء القضبان. وعليه فالأصوب أن نقول : “ما يزال أمامنا طريق طويل” أو “أمامنا مَسارٌ صعب”.

 

قل: رُدَّا علي القول

ولا تقل: أرددا علي القول

كتب الحريري:ومن أوهامهم في التضعيف قولهم للاثنتين: ارددا، وهو من مفاحش اللحن، ووجه الكلام أن يقال لهما: ردا كما يقال للجميع: ردوا، والعلة فيه أن الألف التي هي ضمير المثنى، والواو التي هي ضمير الجمع تقتضيان لسكونهما تحريك آخر ما قبلهما، ومتى تحرك آخر الفعل حركة صحيحة وجب الإدغام، وهذه العلة مرتفعة في قولك للواحد: اردد، فلهذا امتنع القياس عليه.”


قل: هو بين ظهرانَيهم
(بفتح النون)

ولا تقل: هو بين ظهرانِيهم (بكسر النون)

كتب الحريري: “ويقولون: هو بين ظهرانيهم بكسر النون، والصواب أن يقال: بين ظهرانيهم، بفتح النون، وأجاز أبو حاتم أن يقال: بين ظهريهم.
وحكى الفراء قال: قال أعرابي ونحن في حلقة يونس بن حبيب بالبصرة: أين مسكنك فقلت: الكوفة، فقال لي: يا سبحان الله هذه بنو أسد بين ظهرانَيكم وأنت تطلب اللغة بالبصرة قال: فاستفدت من كلامه فائدتين: إحداهما أنه قال: هذه، ولم يقل: هؤلاء، لأنه أشار إلى القبيلة فأنث، والثانية أنه قال: ظهرانيكم بفتح النون ولم يقل بكسرها.

ويحكى أن المغربي وقف على الجنيد فسأله عن قوله تعالى: “سنقرئك فلا تنسى”، فقال: سنقرئك التلاوة فلا تنس العمل به، ثم سأله عن قوله عز وجل: “ودرسوا ما فيه” فقال: تركوا العمل به، فقال: حرجت أمة أنت بين ظهرانَيها لا تفوض أمرها إليك.” انتهى

وتوسع ابن منظور في لسان العرب في ذلك فكتب:

“وهو نازل بين ظَهْرٍيْهم وظَهْرانَيْهِم، بفتح النون ولا يكسر: بين أَظْهُرِهم.
وفي الحديث: فأَقاموا بين ظَهْرانيهم وبين أَظْهرهم؛ قال ابن الأَثير: تكررت هذه اللفظة في الحديث والمراد بها أَنهم أَقاموا بينهم على سبيل الاستظهار والاستناد لهم، وزيدت فيه أَلف ونون مفتوحة تأْكيداً، ومعناه أَن ظَهْراً منهم قدامه وظهراً وراءه فهو مَكْنُوف من جانبيه، ومن جوانبه إِذا قيل بين أَظْهُرِهم، ثم كثر حتى استعمل في الإِقامة بين القوم مطلقاً.”

 

قل: اشتقت اليك

ولا تقل: اشتقتك

ونأخذ مما جاء في كتاب فائت صحيح ثعلب في باب متفرق ما يلي: “نكَه في وجهه يَنْكَهُ (وينكه نَكْهاً إذا أمره بأن ينكه ليعلم أشارب هو أم غير شارب – اللسان)، أنا أفرق منك وأفزع منك ولا يقال أفرقك ولا أفزعك، ولكن أخشاك وأهابك. ويقال بنى فلان على أهله ولا يقال بني بأهله، ويقال اشتقت اليك ولا يقال: اشتقتك. دلاّل بيِّن الدَّلالَة، ودليل بيِّن الدِّلالة. طردته فذهب ولا يقال فانطرد. وهو سِمعان، ودِحَيَّة الكلبي، ويقال هو حسنُ الِبنْيَة، السَّرور بالفتح: الإسم، والسُّرور المصدر. وأهل الحجاز يقولون: خَرَجنا نَتّبَسَّط يريدون: نَتَنَزَّه. فلان يتَرَآى في المرآة وفي السيف أي ينظر وجهه فيهما. عايَرتُ في الميزان مُعايَرَة وعياراً ولا تقل: عَيَّرْتُ، ولكن عَيَّرْتُ الرجل فعله وعَيَّرته أمَّه وأباه إذا عبته بهما ولا تدخل الباء. استوجب ذلك فلان واستحقه ولا تقل: استأهله، ولكن يقال هو أهلُ ذلك وأهلٌ لذلك، والمستأهل: الذي يأخذ الإهالة. ألَّفْتُ بين الشيئين إذا ألزقتُ أحدهما بالآخر، وآلفْتُ بينهما إذا جمعتهما. ثلاثة أخوة مفترقين (ليس متفرقين) لأنك تريد: افترقوا في النسب، ولا تريد: تفرقوا في الأمر، وكذلك افترقت الأمة ولا تقل: تَفَرَّقت. قل عَلَيَّ في هذا الأمر مَضَرَّة ولا تقل: لي فيه مّضَرَّة، ولكن تقول: لي فيه مَنْفَعَة. وحَسَرَ عن رأسه يَحسِرُ، وكَشَفَ عن رِجلِهِ وسَفَرَ عن وجهه ولا يقال حسر إلا في الرأس. وحديث مُستَفيضٌ ولا يقال مُستفاضٌ ألا أن تقول: مستفاض فيه. الجِنازة (بالكسر): السرير الذي يحمل عليه الميت، والجَنازة (بالفتح): الميت. أنشدنا ثعلب عن ابن الأعرابي للكميت: (كان مَيْتاً جِنازة خَيرَ ميْت/ غيَّبَتْه حَفائِرُ الأقوام). ( وجرى على هذا الرأي ابن سيده كما جاء في اللسان أما الأصمعي فقال الجِنازة (بالكسر) هو الميت نفسه. أما ابن قتيبة فقد جاء بالرأيين فقال في موضع بجواز الفتح والكسر وقال في موضع آخر انها بالكسر). ما رأيته البَتَّة ولا تقل: بتَّة. (ومذهب سيبويه وأصحابه أن البتَّة لا تكون إلا معرفة لا غير، وانما أجاز تنكيرها الفراء وحده).

وجاء في ملحق مفردات أوهام الخواص: ومن أوهامهم أيضا أنهم لا يفرقون بين الجَنازة ( بالفتح ) والجِنازة ( بالخفض )، وقد تباينت آراء اللغويين حولهما، فقال بعضهم: كلاهما بمعنى، وتعنيان الميت. وقال بعضهم الآخر: الجِنازة (بالخفض) تعني الميت على سريره، فإن لم يكن عليه فهو النعش. وقال آخرون: الجِنازة (بالخفض) هو السرير الذي يحمل عليه الميت. والصواب أن الجنازة (بالخفض) هي الجثة، وتقول العرب: ضرب الرجل حتى ترك جنازة، أي جثة هامدة، ومنه قول الكميت يذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

كان ميتا جنازة خير ميت ** غيبته حفائر الأقوام

واستعار بعض مجان العرب الجنازة لزق الخمر الفارغ، فقال عمرو بن قعاس:

وكنت إذا أرى زقا مريضا ** يناح على جنازته، بكيت

وأما الجَنازة ( بالفتح ) فتطلق على وجود الميت داخل سريره، فهما معا جنازة، فإن انفصلا، فواحدهما جِنازة ( بالخفض ) والآخر نعش وهو الآلة الحدباء التي كنى عنها كعب بن زهير بقوله:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ** يوما على آلة حدباء محمول

وجميع ما تقدم مأخوذ من الفعل جنز الشيء يجنزه جنزاً أي ستره.
ومما يذكر أن النوار لما احتضرت أوصت أن يصلي عليها الحسن رضي الله عنه، فقيل له ذلك، فقال: إذا جنزتموها فآذنوني، والمعنى: إذا كفنتموها بعد الغسل ووضعتموها في النعش بحيث تصير جنازة فارسلوا في طلبي.

 

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

 

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image