قل ولا تقل / الحلقة العاشرة بعد المائة

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

 

 قل: بتمجيد أو تمييز المظاهر التي تلائم عقيدتنا الراهنة
ولا تقل” بتمجيد أو تمييز المظاهر التي تلائم ايديولوجيتنا الراهنة

أهدى الي أحد الأصدقاء كتاب “الثابت والمتحول” لأدونيس السوري. فقرأته بعناية بسبب ما أثير حوله وبسبب رغبتي الصادقة في الإطلاع على فكر الرجل. وقد دونت من الملاحظات ما قد أجمعهها يوم في محاولة فهمي لما يريده. لكني لست هنا بصدد عرض رأي في أفكار أدونيس. إنما أكتب هنا عن لغته.

إن لأدونيس الحق، كما لأي كاتب، أن يلعن من يلعن ويستخف بمن يستخف من السابقين شعراء كانوا أم اصحاب فكر. لكنه ليس له الحق، لاهو ولا أي غيره، أن يعبث بلغة القرأن. وحين أقول “يعبث” فلا أعني أنه ليس له الحق في أن يستعمل كلمة في معنى جديد فهذا ولا شك حق مشروع يجيزه مبدأ التطور في أي شيء. لكن العبث يقع حين يأتي الكاتب بكلمة جديدة لا أصل لها في ما جاء عن العرب سمعاً أوقياساً. ذلك لأن هذا العبث يدعو للفوضى وحين تحل الفوضى في اللسان تقع فوضى أكبر في الفهم وعندها يتعذر على الإنسان أن يفهم ما يريده الآخرون بل يتعذر عليه فهم تراثه وتأريخه، وعندها تنتهي الأمة.

فأدونيس، شأنه في ذلك شأن أستاذه في الجامعة الذي كتب له “هذا معنى انتروبولوجية الدين”، يعتقد أن لغة العرب ميتة فلا يمكن أن نشتق منها كلمة تغني عن إستعارة كلمة من اللغة اللاتينية والتي ماتت منذ ألف عام، بل وحتى حين كانت حية فإنها لم يكن في وقتها علم يمكن أن يسمى “انتروبولوجي” حتى نبدو أكثر ثقافة في استعمال هذه الكلمة.

وكتاب “الثابت والمتحول” يغص بالدخيل من استعارة غير مسوغة أو اشتقاق لا أصل له في العربية. وتكاد تعثر بعدد من هذه الإستعمالات لكثرة ما ترد في الكتاب.

ومنها كلمة “أيديولوجية” فمن أين جاءت هذه البلوى التي اصبحت اليوم على لسان أغلب العرب حتى أولئك الذين لا يميزون بين الألف والياء؟

اذ يعتقد أن أول استعمال لكلمة “ايديولوجي” وقع عام 1769 حين اشتقها الكاتب الفرنسي دي تريسي (1754-1836) من كلمتين اغريقيتين وهما: “أيديا” وتعني “فكرة” وكلمة “لوجي” وتعني “علم”. فأراد من الكلمة الجديدة “ايديولوجي” أن تعني “علم الفكر”.

ويعتقد أنها دخلت اللغة الإنكليزية لأول مرة عام 1907 لتعني “مجموعة منظمة من الأفكار التي يمكن بواسطتها تفسير العالم”. وقد كان استعمالها في أوائل القرن العشرين محصوراً بين الماركسيين والإشتراكيين ثم شاع الإستعمال وعم.

وقد عرفها قاموس اكسفورد للفلسفة (2005) بأنها “خطة فكرية بتطبيقات عملية”.

وحيث إن العرب اشتقت من لسانها الفصيح كلمة “عقيدة” لتدل على الفكر الذي يصلب ويتمسك به الإنسان، وهكذا فهمها الناس وقبلوها، فلماذا لا تحل هذه الكلمة السهلة الفهم محل “ايديولوجيا” الثقيلة على سمع الإنسان العربي والتي تعني ضمناً أن من يفهمها لا بد وأن يكون قد اطلع على الفكر الأوربي الذي نقل عن الفكر الروماني والذي هو بدوره أخذ عن الفكر الإغريقي والذي لم يطلع فجأة بل أخذ عن فكر ما بين النهرين الذي امتد حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط.

قل: سِوارُ المرأة في يدها
ولا تقل: سُوارُ المرأة في يدها

كتب الكسائي: “ويقال سِوار المرأة للذي في يدها، ويقال إسوار بالألف وبغير ألف. قال الشاعر في السِّوار:

ألا طَرَقَت بعد الهُدُوءِ نَوارُ             تَهادى عليها دُملُجٌ وسُوارُ

وفي الجميع: أسورة. وقالت الخنساء في الإسوار:

مِثل الرُّدينيّ لمْ تَدْنَسْ حديدتُهُ           كأنه تحت طَيِّ البُرْدِ إسوارُ

وفي الجمع: أساوِرة وأسوؤة. وقرئ بهما.”

وأضاف المحقق: “والقراءة التي يشير اليها هي في قوله تعالى في سورة الزخرف: “فلولا القى عليه أسورة من ذهب”. وهي قراءة حفص، أما باقي السبعة فيقرءون: أساور. انظر التيسير للداني.”

قل: أم هذه كَبِدُ
ولا تقل: أم هذه كَبَدُ

كتب الكسائي: “وتقول: كَتِفٌ، بفتح الكاف وكسر التاء. قال الشاعر (وهو الأعشى):

قالت أرى رَجُلاً في كَفَّهِ كَتِفٌ أو يَخْصِفَ النَّعْلَ لهفي أيَّةً صَنَعا

وتقول: كَبِدٌ أيضاً بفتح الكاف وكسر الباء. قال الآخر:

لو كان بالفَرَدِ الحَوّالِ لأنصْدَعَتْ      من دونه كِبِدُ المُستَعِصِمِ الفَرِدِ

وتقول: هذه فَخِذٌ أيضاً بفتح الفاء وكسر الخاء. قال الشاعر (وهو أوس بن حجر):

على فَخِذَيِهِ من بُرايَةِ عُودِها            شَبيهُ سَفَى البُهمي اذا ما تَفَتَّلا

وتقول: هذه كَرِش الشاةِ بفتح الكاف وكسر الراء. قال الشاعر:

ذاتُ لسانين وسَحْرٍ وكَرِشْ

السحر: الرئة.

وكذلك: الفَحِثُ والحَفِثُ، وهو مثل الرمانة أسفل كرش البعير.”

(سفى: تراب. البهمي: نبات)

قل: تساهلت على فلان في هذا الأمر أي لِنت له ولم أتشدد عليه ولم أداقّه الحساب وغمضت عنه
ولا تقل: تساهلت مع فلان

كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن كلمة “مع” تفيد الإشتراك ولأن تساهل ليس للإشتراك، ثم ان الإشتراك لو صح في تساهل لوجب أن يكون المعنى أنك ساهلته وساهلك. وليس هذا هو المراد. بل المراد أنك أظهرت له سهولة في الأمر، ومثال تساهل اليه قول الجوهري في مادة “غمض” يقال: “غمض عنه إذا تساهل عليه في بيع أو شراء”. وجاء في اساس البلاغة للزمخشري: “تساهل الأمر على فلان ضد تعاسر عليه”.

وروى أبو عبيد الله الزرباني في كتابه الموشح أن رجلاً كتب الى محمد بن داود الأصبهاني في الشعر روي، فأجابه محمد من قصيدة:

هبِ العروض تساهلنا عليك به                 فاي نحوٍ بهذا العقل يُحتقبُ

وقد استشهدنا بالشعر على أنه يقال “تساهل عليه” ولا يقال غيره، وإنما أوردنا اليه بعد النثر لئلا يقال ان الشاعر مضطر الى استعمال “على” لإقامة الوزن. وخلاصة القول هي أن “تساهل” ليس من أفعال الإشتراك وان المستعمل معه هو الحرف “على” فقل: تساهلت على فلان ولا تقل: تساهلت مع فلان. (م ج)

قل: إن جمع صاع هو أصُوع
ولا تقل: إن جمع صاع هو أصُع

وكتب المقدسي: “ويقولون في جَمْعِ صاعٍ: أصُعٌ. وصوابُهُ: أصْوُعٌ.”

وكتب الفيروزأبادي في القاموس: “وجمعه أصْوُعٌ وأصْؤُعٌ وأصْواعٌ وصُوعٌ، بالضم.”

قل: هي عُضوٌ
ولا تقل: هي عُضْوةٌ

وكتب عبد الهادي بوطالب: “تكاد تُجمِع المجامع اللغوية على أن لفظ “عضو” اسمٌ مذكَّر لا مؤنَّث له من لفظه. وأصل العُضْو هو عُضْو الجسد. وجمعه أعضاء. فالرأس عضوٌ، واليد عضوٌ (لا عُضْوة) والرِّجْل عضو، والمرأة عضو لا عضوة، كما أن الأذن عضو، والأنف عضو من الأعضاء.

وأصبح للفظ العضو معنى “مُشْتَرِك في مؤسسة”، كجمعية، أو نادٍ، أو حزب، أو مجلس. وفي ذلك نقول : “فلانٌ عضوٌ في البرلمان، وفلانة عضو في حزب كذا”.

ومنه اشْتُقَّت كلمة العُضْوية، أي صفة العُضو ذكرا كان أو أنثى. فنقول: “فلان يتَمَتَّع وفلانة تتمتَّع بعُضْوية المجلس” ونقول: “هناك شروط للحصول على العُضْوية في…….).

لكن يَرِد على بعض الألسنة والأقلام استعمال “عُضْوة” في حق المرأة. فهل هذا خطأ ؟

إن مجمع اللغة العربية بالقاهرة أجاز استعمال “عُضْوة” في حق المؤنث. والبتُّ في هذا الخلاف يعود إلى النساء. هل يُرِدن المساواة بالرجل ؟ فيفضِّلْن أن يتساوى الرجل والمرأة في إطلاق العضو المذكّر عليهما معا. أم يُرِدْن التميز ؟ بإطلاق العُضْو على الرجل والعُضْوة على المرأة ؟

في لغات أخرى يقوم جدال حول ما ينبغي أن يطلق على النساء من أسماء ونعوت. هل يقال مثلا الوزير، والنائب، والعضو للجنسين، أم يُميَّز بين الوزير والوزيرة، والنائب والنائبة، والرئيس والرئيسة، والسفير والسفيرة؟ البعض وجد لهذا الخلاف تسوية توفيقية، فالمرأة إذا كانت زوجة لرئيس أو سفير، يُطْلَق عليها السيدة الرئيسة، والسيدة السفيرة. وإذا كانت هي التي تمارس إحدى هذه الوظائف يُطْلَق عليها السيدة الرئيس، والسيدة السفير. وهكذا دَوَالَيْك.”

وقد سبق أن نقلنا عن استاذنا الجليل المرحوم الددكتور مصطفي جواد رأيا مخالفا لهذا فمن أراد التذكير فليعد الى الحلقة الثالثة من هذه السلسلة.

قل: سكان القرية ألفُ نَسَمة
ولا تقل: سكان القرية ألفُ نَسْمة

وكتب عبد الهادي بوطالب: “وتعني كل كائن حي فيه روح. وتجمع على نَسَمٍ (بحذف تاء التأنيث) وعلى نَسَمات فنقول مثلا: “سكان القرية ألفُ نَسَمة”. “وسكان الصين يزيدون على مليار نَسَمة” “ونَسَمات العالم تتنامى بامتداد السنين والقرون”.”

وكتب ابن منظور في لسان العرب في باب “نسم”: ” النَّسَمُ والنَّسَمةُ: نفَسُ الروح… وما بها نَسَمة أَي نفَس…… والنَّسْمة العرْقة في الحمّام وغيره”.

 قل: الموضوع الذي ذكرنا سابقاً
ولا تقل: الموضوع الذي نوَّهنا عنه سابقاً

وكتب عبد الهادي بوطالب: “الفعل المجرد من هذه المادة هو نَاهَ يَنُوه نَوْها إذا ارتفع نقول : “ناهَ النباتُ أو الجدارُ” إذا ارتفع. ونوَّه على وزن فَعَّل  يتبعه حرف الباء فنقول: “نوَّهَ بفلان” أي رفع ذكرَه. كما نقول: “أَشادَ به” ونقول: “نوَّهت لجنة الامتحان بأطروحة الطالب وأعطته نقطة جيدة استحق بها الدكتوراه”.

لكن البعض يستعمل نَوَّه ومشتقاته في معنى ذَكَر أو أعلن ويُتبِعه بحرف عنه: فيقول: “الموضوع الذي نوَّهنا عنه فيما سبق” وهذا خطأ.”

ويكثر هذا في اعلام اليوم فلا يكاد يمر يوم الا وأحد المذيعين يعلمنا بأن فلاناً “نوه بكذا” وهو يريد “ذكر”. ولا أدري كيف تمكن هذا الخطأ من الإعلام بهذا الشكل لأنه لم يرد عن العرب أن “نوه” تعني غير شيء واحد. فقد عودنا ابن فارس في مقاييس اللغة أن يأتي بكل ما سمع عن العرب من استعمال للجذر الواحد.  وهذا ما كتبه ابن فارس في باب نوه:

“النون والواو والهاء كلمةٌ تدلُّ على سُموٍّ وارتفاع.  وناه النَّبات: ارتفع.  وناهَت النّاقةُ: رفعَتْ رأسَها وصاحت. ومنه نُهْتُ بالشَّيء ونوَّهتُ: رفعت ذِكْرَه. ويقولون: ناهَتْ نَفْسُه: قوِيَتْ.”

 

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image