قل ولا تقل / الحلقة الحادية عشرة بعد المائة

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

 

قل: بوقف علة استمرار الرموز الماضية ومنظومتها
ولا تقل: بوقف علة استمرار الرموز الماضوية ومنظومتها

كتبت في الحلقة الماضية عن استعمال “ادونيس” في كتابه “الثابت والمتحول” للعديد من الألفاظ الدخيلة دون مسوغ. ولم أقصد في اختياري نماذج من كتاب أدونيس أن أتعرض له لكني وجدت في كثرة ما جاء به من هذا الدخيل ظاهرة تبعها كثيرون فاذا كان الغرض من الكتابة توضيح مواقع الخلل تلك فلا بأس من تبيان ذلك في كتاب رائج معروف.

ولا يمكن للمتابع للغة العرب وما آلت اليه إلا أن يخلص بأن أكثر الكتاب العرب في القرن الماضي كانوا متغربين ليس في فكرهم حسب ولكن بلسانهم. والذي أعنيه بهذا هو ان الكاتب العربي الذي يفكر في موضوع ما ويريد أن يعبر عنه يفكر فيه بلغة ثقافته، فاذا كانت ثقافته فرنسية فهو يفكر بالفرنسية ويتخيل الجملة التي يريد أن يقولها بالفرنسية ثم ينقلها للعربية. وهو حين يفعل ذلك فلا يجد حرجاً في أن يأتي بالكلمة الفرنسية التي يعجز أن يجد مثيلها في العربية. وهذه ليست مظاهر تطور بل هي على العكس مظاهر التبعية المتحجرة وغير المبدعة مهما استعار لها الكاتب من ألفاظ لاتينية مفخمة.

وأعطي مثالين لهذا من الصفحات الأولى من كتاب “الثابت والمتحول”. أولهما قوله في (الصفحة 25) من الجزء الأول: “يصبح النص الديني مكانا لحرب القراءات (التأويلات)”. واستعمل أدونيس هنا كلمة “قراءات” استعمالا لم يعرفه العرب قط. وانما أراد بهذا الإستعمال “تأويلات”. ومن العجيب أنه وضع الكلمة العربية السليمة بين معقوفين ليقول لنا إن هذا هو معنى “القراءة”. فاذا كانت كلمة “تأويلات” سليمة ومجزية للمعنى فلماذا استعمل “قراءات” إذن؟ إن السبب الوحيد هو ان الإنكليزية والفرنسية تستعمل كلمة “reading” تريد بها التأويل أو الشرح، فكان لا بد لأدونيس المقلد أن يأتي بالكلمة العربية “قراءات” ليماشي سيده الفكري في ما يريده!

أما المثال الثاني فهو قول أدونيس في الصفحة 47 من الجزء الأول: “عشت هذه المسألة تجريبيا”. وهو يريد أن يقول “عشت هذه المسألة تجربة”. لكنه كان يفكر بالفرنسية أو الإنكليزية فانطبعت في ذهنه كلمة “experimentally” في التعبير الذي فكر به فنقلها الى العربية في أن جاء بـكلمة “تجريب” ثم نسب لها. وهو تكلف لا سبب له ومناف لقواعد البلاغة عند العرب.

ومن الكلمات التي نشرها أدونيس ومن مثله في القرن العشرين كلمة “الماضوية” ولا أعتقد أني الوحيد بين العرب الذي لايعرف ماذا يراد بالماضوية. فهل هي غير “الماضية” واذا كانت، فكيف يهتدي القارئ لمعنى لا يستطيع أن يفهمه بقياسه اذا تعذر عليه فهمه من السماع؟ فعلى أي قياس تم اشتقاق “ماضوية” فليس في العربية “ماضو” حين ننسب له فنقول “ماضوي” ثم نأتي بمؤنث ذلك فنقول “ماضوية”. وهكذا يبدو أن هذا ليس تطوراً في اللغة “فالرموز الماضية” تكفي للقارئ أن يفهم ما يريده الكاتب. أما “الرموز الماضوية” فلا وجود لها لا في سمع العربي ولا في مخيلته والكاتب الذي يخاطب المستمع والقارئ خارج حسه وتراثه سوف يبقى خارج الأمة متغرباً وغير قادر على التاثير فيها.

 

قل: عَسَيْتً أن أكلم زيداً
ولا تقل: عَسِيْتً أن أكلم زيداً

كتب الكسائي: ” وتقول عَسَيْتً أن أكلم زيداً، بفتح السين. قال الله عز وجل: “فهل عَسَيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض”.

وأضاف المحقق: “هذا في اصلاح المنطق وصحيح ثعلب، وفي أدب الكاتب: والأجود “ما عسَيت” بالفتح. وقال ابن درستويه في تصحيح الفصيح: “العامة تقوله بكسر السين وهو لغة شاذة رديئة. وقد قرأ بها نافع من القراء السبعة”.

 

قل: الحمدُ لله الذي حَرَمَكَ
ولا تقل: الحمدُ لله الذي حَرِمَكَ

كتب الكسائي: “وتقول قد حَرَمتَهُ، والحمدُ لله الذي حَرَمَكَ، وقد حَرَمَهُ يَحْرِمُه. قال عبيد (بن الأبرص):

من يِسْألِ الناسَ يَحْرِمُوه                وسائلُ الله لا يخيبُ

وقال:

أبْلِغْ أبا جابِرٍ فيكُمْ وجَابِرَةٍ              ومًحِصِنَ بن حُصَينٍ ذاك ذا الغًسًنِ

فهلْ ظَلَمتُكُمُ أم هل حَرَمتُكُمُ             أم هلْ أخَذْتُ بِقِرْمِ الدهرِ من ثَمَنِ

الغسن: الشعر الطويل، ومنع يقال: رجل أغسن وامرأة غَسْناء اذا كانت كذلك.”

 

قل: أكثر إعلامي اليوم عضاريط
ولا تقل: أكثر إعلامي  اليوم مستقلون

وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “العُضْروطُ والعُضْرُطُ الذي يخدم بطعام بطنه، والجمع العَضَارِيط والعَضَارِطَةُ، وقيل هم الأجراء.”

 

قل: هو رجل عليل
ولا تقل: هو رجل معلول

كتب الحريري: “ويقولون للعليل: هو معلول، فيخطئون فيه لأن المعلول هو الذي سقي العلل، وهوالشرب الثاني، والفعل منه عللته، فأما المفعول من العلة فهو معل، وقد أعله الله تعالى. ونظيره قولهم: أعطني على المقلول كذا وكذا، يعنون بالمقلول القل أو القلة، ولا وجه لهذا الكلام البتة، لأن المقلول في اللغة هو الذي ضربت قلته، وهي أعلاه، كما يكنى في المعاريض عمن ضربت ركبته بالمركوب، وعمن قطع سرره بالمسرور، وعمن قطع ذكره بالمذكور.

ومن الأحاجي بأبيات المعاني:

نسرهم إن هم أقبلوا ** وإن أدبروا فهم من نسب

أي نطعنهم إذا أقبلوا في السرة وإذا أدبروا في السبة، وهي الإست.

ومن هذا النوع قول الشاعر:

ذكرت أبا عمرو فمات مكانه ** فيا عجبا هل يهلك المرء من ذكر

وزرت عليا بعده فرأيته ** ففارق دنياه ومات على صبر

عنى بذكرت قطعت ذكره، وبقوله: رأيته قطعت رئته.”

وكتب الحنفي: “…. ومثله، في كونه مختلفاً فيه، لفظ “المَعْلُول” من العِلّةِ، فقد نفاه الحريري وقال: الصواب: مُعَلّ. ونقل ابن هشام عن ابن القوطية وقُطْرب وغيرهما، وردّ على الحريري. وفيه: وزعم الحريري أن المعلول لا يستعمل إلا بهذا المعنى وأن إطلاق الناس له على الذي أصابته العلة وهم، وإنما يقال لذلك: معل، من أعله الله. وكذا قال ابن مكي وغيره، ولحنوا المحدثين في قولهم: حديث معلول، وقالوا: الصواب معل أو معلل أ هـ. والصواب أنه يجوز أن يقال: عله فهو معلول، من العلة، إلا أنه قليل. وممن نقل ذلك الجوهري في صحاحه، وابن القوطية في أفعاله، وقطرب في كتاب فعلت وأفعلت، وذكر ابن سيده في المحكم أن في كتاب أبي إسحاق في العروض معلول، ثم قال: ولست منها على ثقة. أ هـ . قال: ويشهد لهذه اللغة قولهم: عليل، كما يقولون: جريح وقتيل.”

 

قل: حرك الفحم بمحشة
ولا تقل: حرك الفحم بماشة

كتب الحنفي: “ويقولون للآلة المصنوعة من الحديد لتحريك النار: ماشة. والصواب: مِحَشّة.  في القاموس: المِحَشُّ: حديدة تُحَشُّ بها النارُ أي تُحَرَّكُ كالمِحَشّةِ.”انتهى

وكتب الجوهري في الصحاح: ” حَشَشْتُ النار أَحُشُّها حَشَّاً: أوقدتها. والمَحَشُّ أيضاً: ما تُحرَّك به النارُ من حديد وكذلك المَحَشَّةُ. وأما الذي يُجْعَل فيه الحَشيشُ ففيه لغتان: مَحَشٌّ ومَحِشٌّ، والفتح أفصح.”

ولا بد من الإشارة الى انه يبدو قد تغير القليل فما زال أهلي العراقيون يسمونها “ماشة”!

 

قل: النساء يتظاهرن في الشارع
ولا تقل: النساء تتظاهرن في الشارع

وكتب عبد الهادي بوطالب: يخطئ من يقول أو يكتب: “النساء تتظاهرن في الشارع” أو “البنات تَتَبرَّجْنَ في الشارع”. والصواب استعمال ياء الغيبة في أول الفعل فنقول يتظاهرن، ويتبرجن، ويتفَوَّقْن على الرجال، لأن التأنيث يوجد في النون المسمى نون النسوة الواقع في آخر الفعل فلا يتكرر التأنيث مرتين. وقد جاء في القرآن الكريم: “والوالدات يُرْضِعْن أولادهن حوْلين كامليْن”.

 

قل: له كثير من الهَنات
ولا تقل: له كثير من الهِنات

وكتب عبد الهادي بوطالب: وهي جمع هَنة (بفتح الهاء). ويكسرها البعض خطأ. كما تُجمع هَنة على هَنوات. وهذه قليلة الاستعمال.

وجاءت بجمع المؤنث في قول الشاعر:

أرى ابنَ نزار قد جفاني ومَلَّني

على هَنَوَاتٍ شأنُها مُتَتَابِعُ

وتعني كلمة الهَنة والهَنات والهَنوات الأشياء الحقيرة التافهة سواء كانت خيرا أو شرا. ووردت جمعا على هَنات في قول الشاعر لبيد ابن أبي ربيعة:
أكرمتُ عِرضي أن يُنال بنَجْوَةٍ

إن البريئ من الهَنات سعيدُ

ونقول : “لا أحد يسْلَم من الهَنات أو كُبْريات الهَفَوات”. انتهى

(وما أظن ان عالماً بالعربية مثل بو طالب يمكن أن يقول “سواء كانت خيرا أو شرا” فلا بد أن هذا خطأٌ وقع فيه الناسخ لأن بو طالب يعلم أن الصواب هو في أن يقال “سواء كانت خيرا أم شراً”).

 

قل: في ضوء هذه النظرة المنطقية
ولا تقل: على ضوء هذه النظرة المنطقية

وكتب الدكتور ابراهيم السامرائي: ومما قرأت أيضاً قول أحدهم، والقول عام لا خاص فهو مما يتردّد في الصحف، وهو: “وعلى ضوء هذه النظرة المنطقية …. .

أقول: لا أتوقف في استعمال حرف الجر “على” فأقول كما قال المصححون: إن الصواب هو استعمال في”، ولكني أقول إن استعمال “الضوء” في هذا السياق أو في قولهم: “إن إلقاء الضوء على هذه المسألة …. جديد مستعار من اللغات الأعجمية.

 

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image