قل ولا تقل / الحلقة الثالثة عشرة بعد المائة

 

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

 قل: عندي سلطة تقدير
ولا تقل: عندي سلطة استنسابية

كانت بلاد الشام وما زالت منبت العروبة. فحين بدأ الظلم والجهل العثماني ينحسر عن المشرق العربي كانت الشام أسرع أرض العرب طلباً للحرية وحماية للغة العرب. فولدت حركة تأليف ونشر في القرن التاسع عشر. وكان طبيعياً أن يولد عن اهمال الأتراك للغة القرآن أن يكون الإلمام بالعربية ضعيفاً ومتعثراً. وهكذا ساد استعمال غريب أحيانا وخاطئ أحيانا أخرى للغة. فتصدى لتلك الحالة عدد من الأدباء واللغويين الحريصين والغيارى طمعاً في اصلاح الحال.

وكان من بين أولاء الأديب واللغوي الشيخ ابراهيم اليازجي والذي أصدر كتابه المعروف “لغة الجرائد” ليبين الخطأ الشائع الإستعمال في ما كان سائداً في جرائد بلاد الشام في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد نقلنا عن “لغة الجرائد” الكثير في هذه السلسلة.

وربما اعتقد اليازجي أن  عمله أصلح العيب. لكن الأمر ما زال كما كان في عهده. فبعد أكثر  من مائة عام على صدور كتابه ما زال العديد من تلك الأخطاء سائداً اليوم. ويبدو أن مقدرة الإعلام الذي يزداد جهلاً مع الوقت على التقليد الأعمى للخطأ لا حدود له. فبرغم سهولة التأكد من الصحيح لا يريد الإعلامي أن يصحح. فما زلت تجد الإعلام اللبناني المرئي والمسوع والمكتوب يستعمل “يشي” بمعنى “يخبر” ويستعمل “العتيد” بمعنى “المقبل” ويستعمل “الكباش” بمعنى “الصراع”، وكثير غيرها من الخطأ الواضح. ثم دخل جديد من الخطأ في الإستعمال في استعمال “الصمود” بمعنى الثبات و”التقاطع” بمعنى الإتفاق وكثير مثل هذه.

وأمس استوقفني الاستعمال الواسع لكلمة “استنسب” في لبنان. فانت ما تنفك تسمع السياسي يقول “إن في هذا العمل استنساب”، أو “هذا إجراء استنسابي” لكنك لا تتوقف كثيرا عند ذلك لأنك تعرف أن أكثر ساسة لبنان يلغون اضعاف ما يعملون ولا قيمة لما يقولونه حتى تكلف نفسك مشقة البحث عن المعنى. لكن سبب توقفي هذه المرة هو أني سمعت عبارة تصدر عن قاضية في لبنان تقول فيها “لدي سلطة استنسابية”. فلم أفهم ما أرادته القاضية بالسلطة الإستنسابية. وحيث إن القاضية لا يمكن أن تريد لغواً في ما قالته وحيث إني حريص على سلامة لسان العرب فقد قررت أن أبحث عن  معنى “استنسابي” في لبنان.

فوجدت أحدهم يقول إن “استنسب” الشيء تعني وجده مناسباً ملائماً. وهذا ولا شك لا يعرف عن العربية الكثير. ثم سألت صديقاً لبنانياً عارفاً فرد علي بأن الإستعمال يعني ان يكون القرار كما يراه صاحبه مناسباً.

حينها تبين لي ان ما أرادته القاضية وما هو مفهوم في الإجراءات القضائية اللبنانية هو أن السلطة الإستنسابية هي ترجمة للمصطلح الإنكليزي “Discretionary Authority”. لكن ما هي العلاقة بين الكلمة المستعملة وبين المطلوب في المعنى من العبارة الإنكليزية/الفرنسية (اللاتينية الأصل). ذلك أن الفعل “استنسب” والذي اشتق منه استنساب واستنسابية لم تعرفه العرب الا بمعنى واحد وهو “انتسب”.

فقد جاء في لسان العرب: “وانْتَسَبَ واسْتَنْسَبَ: ذَكَرَ نَسَبه. أَبو زيد: يقال للرجل إِذا سُئِلَ عن نَسَبه: اسْتَنْسِبْ لنا أَي انْتَسِبْ لنا حتى نَعْرِفَك.” وجاء في القاموس المحيط: “واسْتَنْسَبَ: ذَكَرَ نَسَبَهُ.” ولم تعرف العرب معنى غير هذا للفعل “انتسب” وذلك سبب ما دعاني أول مرة وأنا اسمع فيها لبنانياً يستعمل عبارة “استنساب” أن أسأل عن علاقة النسب بما يريده!

وقد أخطأ اللبناني الذي أدخل هذا الإستعمال لكلمة استنساب لتعني كلمة “Discretion” اللاتينية الأصل. ذلك لأن الكلمة اللاتينية تعني في المفهوم القانوني “السلطة أو الحق الذي يمتلكه الشخص لتقرير أمر بناء على حكمه الشخصي”. وهكذا يبدو أن لا علاقة لهذا المعنى بكلمة “استنساب” والتي سادت في القضاء اللبناني. إن الإستعمال الأسلم والأكثر قبولا في السمع العربي (اذا استثنينا اللبناني الذي تلوث سمعه بهذه الكلمة) هو “سلطة التقدير” وهو ما يصح استعماله.

 

 قل: بَخَصْتُ عينه
ولا تقل: بَخَسْتُ عينه

كتب الكسائي: “وتقول بَخَصْتُ عينه بالصاد ولا يقال بَخَستُ بالسين، إنما البخسُ والنقص أن تنقص الرجُلَ حقه.”

قال عز من قائل: “ولا تبخسوا الناس أشياءهم”.

قل: أكلتُ شَبُّوطَاً عراقياً
ولا تقل: أكلتُ شُبُّوطَاً عراقيا

كتب الكسائي: “وتقول: سَمُّور  وشَبُّوط وكّلُّوب وسّفُّود وكل ما كان على فّعُّول، بتشديد العين مفتوح الأول. وكذلك دَبُّوق وعَبُّود وحَسُّون، إلا حرفين فان العرب تكلمت بهما بالضم والفتح وهما: السُبُّوح والقُدُّوس. وبعضهم يقول: السَّبُّوح والقُدُّوس.”

وأضاف المحقق: “السمور: دابة برية مثل السنور تتخذ الفراء من جلودها. وتقول لبست جُبة سَمُّور بفتح السين وضم الميم. الشبوط: ضرب من السمك بالعراق، دقيق الذنب، عريض الوسط، ليِّن المسِّ صغير الرأس. الكلوب: حديدة معقفة كالخطاف.”

قل: مسح الأرض يمسحها مسحاً (للقليل منها) ومِساحة (للكثير)
ولا تقل: مسح الأرض مَساحة (بفتح الميم)

كتب مصطفى جواد: “ومديرية المِساحة لا مديرية المَساحة، وكذلك القول في الصِناعة والزِراعة والنِجارة والعِطارة والحِدادة والبِزازة والبِوابة مهنة البواب وأمثالها.”

 قل: تعرّف بفلان
ولا تقل: تعرّف على فلان

وكتب اليازجي: “ويقولون تعرف على فلان إذا أحدث به معرفة وهو من التعبير العامي ومن الغريب أن أصحاب اللغة لا يذكرون ما يعبر به عن هذا المعنى لكن جاء في كتب المولدين تعرف به معدى بالباء وهو مبني على قولك عرفته به إذا جعلته يعرفه على ما يؤخذ من عبارة المصباح. وقد ورد مثل هذا في الإغاني في أخبار عبادل ونسبه وهو قوله فحركت بعيري لأتعرف بهن وأنشدهن. ومثله بعد سطر وفي نفح الطيب في الكلام عن يوسف الدمشقي وكان من الذين أخفاهم الله لا يتعرف به الا من تعرف له أي أظهر له معرفة نفسه ومثله في كلام ابن بطوطة وغيره مما لا حاجة الى استقصائه وفي كل ذلك كلام لا محل له في هذا المقام”.

وقد علق الأستاذ سليم الجندي على كلام اليازجي، كما نقله الأستاذ الدكتور محمد إحسان النص،  بقوله: “وقد قال في التاج: واعترف إليّ: أخبرني باسمه وشأنه، كأنه أعلمه به، وتعرّفت ما عندك: تطلبت حتى عرفت. وقال أيضاً: ائته فاستعرف إليه حتى يعرفك، وفي اللسان: أتيت متنكراً ثم استعرفت، أي عرّفته من أنا، وفي التاج أيضاً تعرّف إليه: جعله يعرفه، واعترف له: وصف نفسه … وأظن أن في هذا ما يعبر به عن المعنى الذي قال إن أصحاب اللغة لا يذكرونه. ”

قل: وضعتُ الماء في سَيْطَل
ولا تقل: وضعتُ الماء في سَطْلٍ

كتب الزبيدي: “ويقولون للإناء المتخذ من الصفر “سَطْل” والصواب “سَيْطَل” على مثال “فَيْعَل”، قال الطرماح يصف ثوراً:

يَقَقُ السَّراة كأنَّ في سَفَلاتِه              أثَرَ النَّئُور جرى عليه الإثْمِدُ

حَبِسَتْ صُهارَتُهُ فَظَلَّ عُثانُهُ             في سَيْطَلٍ كُفِئَتْ له يَتَرَدَّدُ

قال أبو بكر: العثان، الدخان.

قال يعقوب: النئور: شَحمةٌ يُوقَدُ تحتها ويُكفأ عليها طَشتٌ و سَيْطَلٌ فَيَعْلَقُ دخانُهُ بهما، فَيُؤخّذُ ما لَصِقَ من الدهان بالطشت أو السيطل فَيُذَرُّ في مَغْرِزِ الإبرة فيبقى سَوادُهُ ظاهِراً به.

وقال أبو علي في باب “فعائل من الممدود والمقصور”: إن العِلاوَةَ ما يُعلى على الحمل بعد أن يحمل على البعير من سَيْطَلٍ له أو سفرة. …..

وقد روى بعضهم: سَطْل، وقع ذلك في كتاب العين وشعر الطرماح.

قل: كان استرجاع بعض المسترِدَّات مشكوكاً فيه
ولا تقل: كان استرجاع بعض المسترَدَّات مشكوكاً فيه

وكتب عبد الهادي بوطالب: “ويقول البعض مسترِدّات (بكسر الراء)، بينما الفعل استردَّ يسترِدُّ اسْتِرْداداً متعدي ينصب مفعولاً به. نقول: “استردّ عافيتَه” إذا استرجعها. “واستردَّ دَينَه” إذا قبضه من المَدين. “واستردَّ أنفاسَه” إذا استراح بعد تعب.

والْمُسْتَرَدَّات كثيرا ما تطلق في اللغة الحديثة على ما يُستخلَص من الديون. فنقول: كان استرجاع بعض المسترَدَّات مشكوكا فيه.”

قل: سئل عنك الخير
ولا تقل: سأل عنك الخير

كتب الحريري: ويقولون في جواب من قال: سألت عنك: سأل عنك الخير فيستحيل المعنى بإسناد الفعل إليه، لأن الخير إذا سأل عنه فكأنه جاهل به أو متناه عنه، وصواب القول: سئل عنك الخير، أي كان من الملازمة لك والاقتران بك بحيث يسأل عنك.

وكتب أبو الثناء الآلوسي في كتابه “كشف الطرة عن الغرة”: “ويقولون في جواب من يقول سألت عنك سأل عنك الخير، بالبناء للفاعل، وإسناد الفعل إلى الخبر فيستحيل المعنى لان الخير إذا سأل عنه فكأنه جاهل به أو متناء وصواب القول سئل عنك الخير بالبناء للمفعول ،فيفيد الدعاء بان يكون الخير ملازماً للمخاطب ومقترنا به بحيث يسأل عنه من يسأله، وفيه انه لا خطأ فيما يقولون من جهة العربية والتركيب، وهو ظاهر لا يسأل عنه ولا من جهة المعنى كما توهم فإن لكل امرئ ما نوى، ولو جعل كناية عن توجه الخير الأتي إليه، وقصده كان فصيحا ًصحيحاً لان عادة القادم لبلد أن يسأل عمن يريده.”

قل: يشكو من عرق النَّسا
ولا تقل: يشكو من عرق النِّسا

وجاء في ملحق مفردات أوهام الخواص: “ومما يندرج في هذا الباب من استبدالهم الفتحة بالكسرة، قولهم للعرق الذي يخرج من الورك فيستبطن الفخذ ثم يمر بالعرقوب حتى يبلغ الحافر أو القدم ، عرق النسا (بخفض النون )، وهو وهم ظاهر لأن النسا والنساء تعني النسوة، وهو جمع امرأة، والصواب أن يقال عرق النسا (بفتح النون)، ومنه قول لبيد:

من نسا الناشط إذ ثورته ** أو رئيس الأخدريات الأول

ونظيره قول فروة:

لما رأيت ملوك كندة أعرضت ** كالرجل ، خان الرجل عرق نسائها”

وكتب الحنفي: “ومن أوهامهم  الفاضحة قولهم: عِرْقُ النِساء، للمرض المعروف،  يكسرون النون ويمدون الألف. والصواب فتحها وقصر الألف. ذكره الجوهري وصاحب القاموس.”

 

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

 

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image