الصراع الإيراني الصهيوني على العراق – 1

خلفية تأريخية

لا بد من البدء بتعريف العراق. ذلك أني حين أشير للعراق فلست أعني العراق بحدوده السياسية التي رسمها الإحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى. وقد يظن القارئ أن هذا أمر ثانوي لكنه ليس كذلك لأن جذور الصراع وما آل اليه الحال شاركت حدود العراق المصطنعة في تكوينه. فالعراق الجغرافي والسياسي هو بلاد ما بين النهرين. وحين نرجع للتأريخ المدون نجد أن هذه الأرض بدأت دولة كبرى (امبراطورية) سكنها الساميون باختلاف قبائلهم. وحيث إن الإمبرطورية لا ترسم حدوداً سياسية فان دول ما بين النهرين امتدت بشكل طبيعي بين منبع الفراتين (الفرات ودجلة) حتى نهاية الخليج كما يقتضي الحال لمنابع الأنهار أن تنتهي في عمق بحارها من أجل تجارتها وتوسعها. وذلك كله قبل أن يصل الأتراك أو الأكراد للمنطقة. وحين اصبحت بغداد عاصمة الدولة العربية الإسلامية (العباسية) فقد كان العراق السياسي كذلك دون حدود لعدم وجود حاجة لذلك. فالأتراك كانوا قبائل مشتتة ومتخلفة أما الخليج فلم يكن مسكوناً إلا بعدد من الأعراب البائسين الذين كان يشرفهم أن يكونوا من رعايا امبراطورية بغداد. وحين ورثت الدول العثمانية عراق العباسيين بحجة كونها خلافة اسلامية تحافظ على دين محمد، وإن لم تفعل أياً من ذلك، فقد كان العراق السياسي في تعريف الدولة يتكون من ثلاث ولايات هي الموصل وبغداد والبصرة. وكي نعرف ما هي حدود العراق السياسي حتى عام 1913 فما علينا سوى أن نطلع على التقسيم الإداري كما هو محفوظ في وثائق الدولة العثمانية. ويهمنا هنا ولاية البصرة وليس بغداد والموصل لأسباب واضحة. وقد ورد التقسيم الإداري لولاية البصرة كما يلي:

التقسم الإداري لولاية البصرة عام 1913

تنقسم ولاية البصرة الى أربعة ألوية ويشكل كل لواء الأقضية المبينة أدناه

لواء البصرة: (قضاء البصرة، قضاء القرنة، قضاء الفاو، قضاء الكويت)

لواء المنتفك: (قضاء الناصرية، قضاء المنتفك، قضاء الحي، قضاء سوق الشيوخ)

لواء العمارة: (قضاء العمارة، قضاء المجر الكبير، قضاء علي الغربي)

لواء نجد: (قضاء الهفوف، قضاء القطيف، قضاء قطر، قضاء الرياض)

وقد جاء في كتاب “خير الكلام في التقصي عن أغلاط العوام” وهو من كتب اللغة العربية لعلي بن بالي القسطنطيني الحنفي المتوفى سنة 992 هـ ما نصه “ قال الصقلي: مما يشكل قولهم: عُمَان، بضم العين وتخفيف الميم: بلد على شاطيء البحر بين البصرة وعدن.” وهذا النص الوارد في كتاب من كتب العربية يثبت لنا أن ما كان معروفاً في القرن العاشر الهجري أنه لم يكن بين البصرة وعدن سوى عمان. وهو ما يبدو كان الحال حتى عام 1913، أي أن ولاية البصرة كانت تنتهي في حدود دولة عمان. وهذه هي حدود العراق الجنوبية الجغرافية والسياسية والتأريخية وهكذا يجب أن تكون وستكون!

هذا هو جنوب العراق السياسي الذي كان. ولا يغير ذلك اي تدخل أجنبي رسم حدوداً تتفق مع مصالحه. فقد جاء الصليبيون ومكثوا 200 عام وغيروا وبدلوا وحين رحلوا عاد كل شيء لما فرضه التأريخ. إن من لا يفهم هذه الحقائق عن العراق السياسي ويعتقد أن القانون مطابق  للمشروع الصهيوني في المنطقة يعيش خارج التأريخ أما الذي يعيش حقائق الأمور فهو ليس “من العالقين في الماضي” كما وصفهم أحد المسؤلين في الخليج وانما يعيش على وفق قواعد التأريخ والسياسة والقانون!

وكانت هذه الأرض من اقدم ما استوطن. وهذا الإستيطان أدى بدوره لنشوء حضارات متعاقبة قدمت للعالم ما لا حاجة للتذكير به. لكن هذا الخير الذي منحه الفراتان أدى كذلك لتصارع الغرباء على العراق في مد العصور. وبرغم ان خصب الأرض لم يعد سبب الطمع في أرض العراق وبرغم أن النفط لم يعد السبب الرئيس، إلا أن العراق ظل مطلب الغزاة كلما سنحت الفرصة بذلك.

وهناك اسباب مادية وغير مادية لهذا الطمع في الهيمنة على العراق ليس هنا مكان عرضها ومحاولة فهمها، اذا افترضنا امكانية ذلك، لكن يكفي في نظرة سريعة أن نفهم بعضاً من سبب تعلق كثيرين من أهل الأرض بالعراق. فتأريخ اليهود في العراق لأنهم عاشوا فيه آلاف السنين وكتبوا التلمود فيه. وتأريخ النصارى في العراق أعرق من غيره حيث كانت الكنيسة النسطورية من أقدم الكنائس. أما الإسلام فارتباطه بالعراق أعمق من أي أرض بعد المدينة ذلك لأن الفقه الإسلامي أغلبه ولد في العراق فالفقه السني عراقي والفقه الجعفري عراقي والفقه الأباضي عراقي والباطنية عراقية والتصوف عراقي، وما من معتقد في الإسلام الا وله جذر عراقي.

أما طمع أوربا بالعراق (وأعني بأوربا القارة وما ولد عنها من استيطان أوربي في قارتي أمريكا واستراليا) فله سبب يتجاوز المادة والجغرافيا. إنها عقدة النقص التي يحس بها الأوربي الذي يعتقد يقيناً بتفوقه الحضاري علينا لكنه يشعر بالنقص في أن دينه، بل ربه الذي يقتدي به، هو واحد منا ومن أرضنا. لذلك اعتقد أن له الحق في هذه الأرض، حتى قبل التقنية والثورة الصناعية وآلة الحرب المدمرة الجديدة، فجاء بالغزو الصليبي واستوطن. 

وقد صور الكاتب الفنزويلي “فرناندو بايس” طمع أو حقد أو كراهية الأوربي الظاهر أو الباطن لنا حين كتب بعد غزو عام 2003: “إنها لمفارقة حقا أن يأتي مخترع الكتاب الإلكتروني الى بلاد ما بين النهرين، حيث ولدت الكتب والتأريخ والحضارة، كي يدمرها”. 

إن الوضع الفريد للعراق أنتج حقيقة تأريخية فريدة في المنطقة. تلك هي ان العراق في كل تأريخه إما مركز دولة عظمى “امبراطورية” تمتد سيطرتها لمساحات أكبر بعشرات المرات من حجمها، كما أسلفت، وإما دولة مستباحة في زاوية من زوايا امبراطورية محتلة. ولم يكن بين هذين الحالين بديل لوضع مستقر أو طويل الأمد. فالعراق كان سومرياً أو أكدياً أو آشورياً أو بابلياً أو عباسياً في امبراطورياته. وكان فارسياً أو عثمانياً أو بريطانياً أو صهيونياً في امبراطوريات المحتل. ولم يكن بينها في الفترات القصيرة سوى بلد صغير ضائع تحت وصاية خارجية ويبحث عن مخرج لم يستقر له حال فيها.

وقد أنتج هذا العنف التأريخي حالة فريدة أخرى في المنطقة مفادها أنه لا يمكن أن تقوم بين جبال زغروس والبحر الأبيض المتوسط قوتان. أي يجب أن تهيمن قوة واحدة على هذه المنطقة فاذا وجدت قوتان فانهما سوف تتصارعان حتى يحسم الصراع لإحديهما. وهذا يعني أن العراق هو ساحة ذلك الصراع بين تلكما القوتين اذا لم يكن هو مقر القوة الضاربة في المنطقة. فحين قامت الإمبراطورية الفارسية على حدود الإمبراطورية الرومانية فقد اتفقا على تقاسم المنطقة فكان العراق للفرس وكانت بلاد الشام للروم. وحين ورث العثمانيون بيزنطة فإنهم تقاتلوا مع الفرس على المنطقة فملوكها أكثر الوقت وان كان العراق قد وقع بيد الصفويين لوقت قصير نسبياً في ذلك الصراع لكنه ظل مع ذلك ساحة الصراع دون أن يكون لأهله أي دور في مصيره.

وبعد أن أنهك العثمانيون الجهلة العراق، سلبوه لغته وتراثه وساقوا ابناءه للموت في حروبهم البائسة، جاءت الصهيونية للمنطقة بشكل سافر وتمثلت أول الأمر بالإحتلال البريطاني للعراق عام 1916. فحكم الصهاينة البريطانيون العراق مباشرة لمدة ثم تحكموا بمصيره لعقود بعدها، أي ان العراق ظل تحت مظلة الإمبراطورية البريطانية أثناء ما سمي بالحكم الوطني. لكن الإمبراطورية البريطانية كانت قد وصلت مرحلة الشيخوخة كما يحدث لأية امبراطورية. وتقضي قواعد التأريخ أنه حين تشيب الإمبراطورية فإن من كان تحت هيمنتها سوف يكتسب الحرية وان كان بشكل تدريجي. لكن الحال اختلف هنا. فقد مدت الصهيونية التي ولدت في لندن يدها لتتحكم بسوق المال في نيويورك وترتب على ذلك التحكم بالولايات المتحدة الوريث الأنكلو ساكسوني للإمبراطورية البريطانية. على أن هذا الإنتقال لم يقد لفقدان بريطانيا دورها بالكامل في العراق، فقارئ التاريخ والباحث فيه سيجد أن كلاً من حرب 1991 وغزو العراق عام 2003 كان بدفع من لندن أكثر منه بدفع واشنطون!

وتمكنت الصهيونية العالمية من تأسيس قاعدة ثابتة لها عند نهاية الحرب العالمية الثانية في خلق دولة اسرائيل، دولة أوربية ثابتة تستبد وتبتز، مخففة بذلك الحاجة الى نقل الجيوش والأساطيل في المستقبل للهيمنة على المنطقة بشكل مستمر. لكن اسرائيل واجهت حقيقة الصراع التاريخي على المنطقة والذي عرضته أعلاه مع دولة ايران الصاعدة. فكما بينت أعلاه لا يمكن قيام دولتين قويتين بين جبال زغروس والأبيض المتوسط فانه لا بد من قيام صراع بين اسرائيل وايران على المنطقة.

وحين كانت ايران تحت حكم الشاه محمد رضا بهلوي فان ولاء هذا الأخير للصهيونية خفف من الإحتكاك وان كانت لديه شخصياً أحلام بعودة مجد فارس كما تجلى في الإحتفال الشهير في تشرين الأول عام 1971 بمرور 2500 عام على انشاء مملكة فارس القديمة. لكن هذا الحال تغير بعد رحيل الشاه وسقوط نظامه وقيام الجمهورية الإسلامية. وهذا التغير في ايران قاد لمرحلة جديدة من الصراع المفتوح.

ولن أدخل في أي عرض للحرب العراقية الإيرانية وكيف لعبت هذه الحرب دوراً خطيراً في تطوير الصراع  في المنطقة وان كان هذا مهماً جداً لكن الخوض فيه سوف يبعدنا كثيرا عما نحن فيه من حقائق تقتضي التعامل معها كما هي. إلا أن هذا لا يعني عدم عرض حقيقة الدولة الإيرانية اليوم وهدف الصراع مع الصهيونية على المنطقة.

فالجمهورية الإسلامية في ايران اليوم دولة ذات تركيبة سياسية معقدة ومختلفه كثيراً عن جيرانها وهذا نتاج أربعين عاماً من بناء بدأت بثماني سنوات من حرب طاحنة. وولد عن كل ذلك ظهور قوتين في إيران احداهما تتبع الفقيه وخلفها حرس الثورة والثانية تضم رجال الدين وغيرهم مما لا يتبع ولاية الفقيه وكان يقف على رأس هذه المجموعة هاشمي رفسنجاني. ويتضح تعايش المجموعتين من حقيقة أن رفسنجاني ظل طيلة الفترة في موقعه القيادي برغم خلافه الواضح والعلني أحيانا مع الفقيه. كما إن كلاً من رؤساء الجمهورية السابقين: محمد خاتمي والحالي الشيخ روحاني هم من أتباعه ومؤيديه. فما الذي يجمع الإثنين وما الذي يفرقهم؟

إن ما يجمع الإثنين هو مصلحة ايران. فالفقيه يرى ان الإيرانيين هم أقدر على قيادة العالم الإسلامي لفشل العرب في تلك المهمة وهذا يعني ضرورة مد الهيمنة الفارسية على العراق وما بعده من بلاد الشام وجزيرة العرب لا من باب الرياء والكذب وانما لقناعته وايمانه بذلك. وقد لا تتفق معه لكنه على يقين وبينة من أمره. أما جماعة رفسنجاني فهم لا يؤمنون بالواجب الديني الذي يدعوهم لقيادة المسلمين لكنهم يعتقدون بسمو الفرس على من حولهم وهم بهذا مكلفين في الهيمنة على المنطقة. وهكذا فبرغم اختلاف النية والهدف الا أن الطرفين متفقان على ضرورة الهيمنة على المنطقة. ولا بد من ملاحظة حقيقة مهمة هنا وهي ان القوى التي تتصارع في ايران سواء أكانت خلف الفقيه أم لم تكن خلفه هي في جوهرها وطنية من حيث انها تخدم مصالح ايران. لذلك وجدت الصهيونية صعوبة في أن تخترق المؤسسة الحاكمة في ايران بينما نجحت بسهولة في عدد من الدول العربية والتي لم يكن الصراع الداخلي فيها صراعا وطنيا.

وللحديث صلة..

سنتابع في الحلقة التالية كيف تطور الصراع على العراق بعد 2003

عبد الحق العاني

24 تشرين الثاني 2019

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image