قل ولا تقل / الحلقة السابعة عشرة بعد المائة

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

 

قل: أنا على المُضِيِّ الى فلان
ولا تقل: أنا على المَضِيِّ الى فلان

وكتب الكسائي: ” وتقول أنا على المُضِيِّ الى فلان، بضم الميم وتشديد الياء. قال الله تعالى: “فما استطاعوا مُضيِّاً ولا يرجعون”.

وأضاف المحقق: حكى أبو عبيدة عن يونس: “مضيتُ على الأمر مَضُوّاُ، بفتح الميم وتشديد الواو.”

قل: شَمِمْتُ الريحان
ولا تقل: شَمَمْتُ الريحان

كتب الكسائي: “وتقول شَمِمْتُ الريحان بكسر الميم. قال الشاعر:

ألاليت أني قبل تدنو منيتي              شَمِمْتُ الذي ما بين عينيك والفمِ

وأضاف المحقق: في اصلاح المنطق عن أبي عبيدة أن الفتح لغة. وجعله ابن درستويه في تصحيح الفصيح من لحن العامة.”

 

قل: ورد علينا كتاب ووردت علينا بضاعة
ولا تقل: وردنا كتاب ووردتنا بضاعة

 كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن معنى الفعل “ورد” الحقيقي هو دخول المنهل والمشرب منه قال مؤلف لسان العرب: “تقول: وَرَدَتِ الإِبل والطير هذا الماءَ وِرْداً، وَوَرَدَتْهُ أَوْراداً…. ابن سيده: ووَرَدَ الماءَ وغيره وَرْداً ووُرُوداً. قال زهير:

فَلَمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه، وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيّمِ

وكل من أَتى مكاناً منهلاً أَو غيره، فقد وَرَدَه. وقوله تعالى: “وإِنْ منكم إِلاَّ واردُها”؛ فسره ثعلب فقال: يردونها مع الكفار.. الخ” ثم قال “وَوَرَدَ عليه: أَشرَفَ عليه، دخله أَو لم يدخله”.

فالفعل “ورد” قد استعير من الحقيقة الى المجاز فصار كل من أتى مكاناً منهلاً أو عيره وارداً له، فالمفعول يجب أن يكون ظرفاً أو شبه ظرف، كالمنهل والبلد والمدينة والدار وشبه الظرف نحو “الماء” لأنه بد له من الظرف.

ولما كان الإنسان في الأصل غير ظرف ولم يجز أن يقول عن نفسه “وردني كتاب” ولا أن يقول: “وردتني بضاعة”، والصواب “ورد علي كتاب” و “وردت علي بضاعة”، والمفعول محذوف كسائر المفعولات المحذوفة لكثرة ظهورها واشتهارها. وتقدير العبارة “ورد على داري أو منزلي أو مخزني كتاب” و “وردت على دكاني بضاعة”، كما تقول “قدم علي كتاب”. قال الزمخشري بين قولهم: ورد عليه أمر لم يطقه ووردته حمى، فالأمر معنوي والحمى حسية.

 

قل: رأيت الأمير وصحبه
ولا تقل: رأيت الأمير وذويه

 كتب الحريري: “ويقولون: رأيت الأمير وذويه، فيوهمون فيه لأن العرب لم تنطق بذي الذي بمعنى صاحب إلا مضافا إلى اسم جنس ، كقولك: ذو مال وذو نوال، فأما إضافته إلى الأعلام وإلى أسماء الصفات المشتقة من الأفعال فلم يسمع في كلامهم بحال، ولهذا لحن من قال: صلى الله عليه وسلم على نبيه محمد وذويه، فكما لم يقولوا: ذوو نبي لا ذوو أمير، وقصروا ذا على إضافته إلى الجنس، ولهذا لم يرفع السبب لأنه ليس بمشتق من فعل، فيرفع كما ترفع الأفعال، فلا يجوز أن يقال: مررت برجل ذي مال أبوه، فإن أردت تصحيح هذا الكلام جعلت الجملة مبتدأ به فقلت:  مررت برجل ذو مال أبوه، فيصح حينئذ الكلام، لأن النكرة تختص بأن توصف بالجملة.”

وعلق على ذلك ابو الثناء الآلوسي فكتب في كشف الطرة:

“(ويقولون ذويه بمعنى أصحابه) في نحو قولهم رأيت الأمير وذويه، (وهو غلط لأن العرب لم تضف ذا بمعنى صاحب إلا إلى اسم جنس دون أسماء الضمائر والأعلام) لأنها وضعت للتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس، والضمائر، والأعلام لا يوصف بها (والصفات المشتقة) إذ هي تقع صفة من غير حاجة للتوصل وفيه أن ذلك ليس بلازم، وإن كان الأكثر في الاستعمال، وقد سمع ما أنكره كما في قول كعب

صحبنا الخزرجية مرهفات اباد ذوي ارومتها ذووها

وفي الأثر لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه. وإذا سمع فلا بدع في استعماله مرة أخرى، وليس من قبيل القياس لأنه مسموع بعينه، ولا فرق بين ضمير وضمير. وفي شرح التسهيل ذهب الفراء إلى أن إضافة ذو إلى العلم قياسية، وكلامهم يقتضيه لقولهم في الأعلام المحكية إذا ثنيت، أو جمعت قلت ذوا وذوو شاب قرناها وفي البسيط أكثر النحويين على منع إضافة ذي إلى المضمر أو العلم. وأجاز ابن بري أن يضاف إلى ما يضاف إليه صاحب؛ لأنه بمعناه قال: وإنما منعه النحاة إذا كان وصلة الموصف فان لم يكن كذلك لم يمتنع نحو رأيت الأمير وذويه ورأيت ذا زيد.”

قل: اقعد لمن كان قائماً
ولا تقل: اجلس لمن كان قائماً

كتب الحريري: ويقولون للقائم: اجلس، والاختيار على ما حكاه الخليل بن أحمد أن يقال لمن كان قائما: اقعد، ولمن كان نائما أو ساجدا: اجلس، وعلل بعضهم لهذا الاختيار، بأن القعود هو الانتقال من علو إلى سفل، ولهذا قيل لمن أصيب برجله: مقعد، وأن الجلوس هو الانتقال من سفل إلى علو، ومنه سميت نجد “جلسا” لارتفاعها وقيل لمن أتاها: جالس، وقد جلس، ومنه قول عمر بن عبد العزيز للفرزدق.

قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ** إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس

أي اقصد نجدا .

وموجب هذا البيت أن عمر بن عبد العزيز لما كان واليا على المدينة قال للفرزدق: إن كنت تلزم العفاف وإلا فاخرج إلى نجد، فإن المدينة ليست بدار مقامة لك.

وحكى أبو عبد الله بن خالويه قال: دخلت يوما على سيف الدولة بن حمدان، فلما مثلت بين يديه قال لي: اقعد ولم يقل: اجلس، فتبينت بذلك اعتلاقه بأهداب الأدب، واطلاعه على أسرار كلام العرب.”

وأضاف الآلوسي على ذلك فكتب:

(ويقولون للقائِم اجلس والاختيار على ما حكاه الخليل أن يقال للقائِم أقعد، وللنائِم والساجد اجلس، وعللهُ بعضهم بأن القعود هو الانتقال من علو إلى سفل، ولذا قيل لمن أصيب برجلهِ مقعد، وأَن الجلوس هو الانتقال من سفل إلى علو، ومنهُ سميت نجد جلساء؛ لارتفاعها، وقيل لمن أتاها جالس وقد جلس ومنهُ قول عمر بن عبد العزيز وكان واليًا على المدينة للفرزدق وقد كان أمره بالعفاف فيها:

قل للفرزدق والسفاهة كاسمها                 إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس

)أراد فاقصد نجدًا) ظاهر قوله والاختبار إلخ، أن ما يقولونهُ غير مختار وهو لا يدل على أنهُ وهم غير جائز بل مثل هذه العبارة تقال في الجائز على ضعف، ثم إن ما ذكره وإن قاله بعض اللغويين منتقد، فقد ورد في الفصيح ما يخالفهُ، كما روي عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما-: (أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خرج في مرضهِ إلى أن قال: فجلس صلى الله تعالى عليهِ وسلم) وعروة أرسخ في لغة العرب من أن يخفى عليهِ مثلهُ، وفي حديث القبر الصحيح: (أتياه ملكان([1]) فأقعداه)، قال الكرماني: أي أجلساه، وهما مترادفان وهذا يبطل قول من فرق بينهما، فلا عبرة بقول التوريشي وقع في رواية البراء فيجلسان، وهذا أولى وكأنَّ الأول رواه بالمعنى وظن أنهما مترادفان، مع أن الفرق لو سلم فإنما هو بحسب الأصل، ومقتضى الاشتقاق ولتقارب معنييهما أُوقع كل منهما موقع الآخر وشاع حتى صار حقيقة عرفية، وكان بعض المشايخ يقول كل لفظين تقارب معناهما كالفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وهو من بديع المعاني، وقد سوَّى بينهما في عمدة الحفاظ والقاموس، وعليهِ تمثيل النحاة للمفعول المطلق لعامل من معناه بقعدت جلوسًا، هذا وفرق بعضهم بين القعود والجلوس بفرق آخر كما في الإتقان، فقال القعود ما تعقبهُ لبث بخلاف الجلوس، ولذا يقال قواعد البيت دون جوالِسه للزومها وهو جليس الملك دون قعيده؛ لأنهُ يمدح منهُ التخفيف، وكذا قيل: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر:55]؛ لأنه لا زوال لهُ، قيل: (تفسحوا في المجالس)؛ لأنهُ يجلس فيها يسيراً، وما نسبه رحمه الله تعالى لعمر بن عبد العزيز نقل ابن خلكان عن ثقاة المؤرخين ما يقتضي أنهُ ليس كما قال، وهو أن جريراً كان هجا الفرزدق بقصيدة ميمية فأجابهُ الفرزدق بقصيدة أتى فيها بما يوجب الحد عليهِ، فشكاه أهل المدينة إلى مروان بن الحكم وكان يومئذ والي المدينة من قِبَل معاوية، فكتب مروان إلى عاملهِ يأمره بحده وسجنهِ وأعطاه الكتاب ليوصلهُ لهُ، وأوهمهُ أنهُ أمر لهُ بجائزة فيهِ، ثم كتب ينبههُ على ذلك بقوله:

قل للفرزدق والسفاهة كاسمها                 إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس

ودع المدينة إنها مذمومة                       وأقصد لمكة أو لبيت المقدس

فلما فطن الفرزدق لذلك أجابه بقصيدة منها:

مروان أن مطيتي محبوسة ترجو الحياء وربها لم ييأس

ومنها:

الق الصحيفة يا فرزدق لا تكن نكداء مثل صحيفة المتلمس

وعنى مروان بقوله مذمومة ذات ذمَّة وحرمة، وقيل أنهُ من الذم لما عرض لهُ فيها (خاتمة) القعود يكون مصدرًا وهو شائع وجمعَ قاعد، كما في قولهِ تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:6] ومثلهُ الجلوس، وأما الخروج فلم يرد إلَّا مصدرًا، وقيل إنهُ يكون جمع خارج، كما في قولهم هم خروج، وفيهِ نظر لاحتمال أن يكون بعد تسليم ثبوتهِ من باب زيد عدل، والاحتمالات فيهِ مشهورة، وفي كثير من كتب القوم مسطورة فتأمل.”

 

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

 

([1]) قوله (أتياه ملكان) هكذا في الأصل، والذي في صحيح البخاري في باب ما جاء في عذاب القبر: (أتاه ملكان)، فليحرر اهـ.

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image