قل ولا تقل / الحلقة التاسعة والعشرون

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

 

قل: توفرت الشروط في الأمر الفلاني

ولا تقل: توافرت الشروط (في الأمر الفلاني)

وذلك لأن معنى “تَوَفّرت” بلغت العدد المطلوب والحال المرادة والحد المعين، أما معنى “توافرت” فهو تكاثرت وليس المراد تكاثر الشروط ودواعي وفارتها بل المراد كونها كاملة كما ذكر آنفاً. وكان الكتاب والمتكلمون اللغة الفصيحة يقولون “توفّرت الدواعي وتوفّرت الشروط” حتى خرج أسعد خليل تذكرته المسماة تذكرة الكاتب وقال: “ويستعملون الفعل توفر بمعنى وَفَرَ أو توافر أي كثر، فيقولون: يجب أن تتوفر فيه الخبرة التامة، وهذا الأمر لا تتوفر فيه الأسباب الكافية. وفي اللغة توفر عليه رعى حرماته وصرف همه إليه” إنتهى قوله.

وقد أخطأ الرجل في الشرح والتصحيح، فقولهم: تتوفر فيه الخبرة التامة لا يراد به تكثر فيه الخبرة التامة، كما زعم أو ظن الرجل، لأن الكثرة لا حد لها فإلى أي مقدار تكثر الخبرة، ثم انهم لو أرادوا كثرة الخبرة ما قالوا “الخبرة التامة” فالتامة قيد للخبرة. وقد استعمل ابن خلدون وهو من فصحاء المتأخرين “توفّرت الدواعي” كما جاء في مقدمته، ونص قوله في أول مقدمته:

“وهو علة ما ذكروه من الغرابة تتوفر الدواعي على نقله”، وبهذا نعلم أننا ينبغي أن نقول: “تتوفر الشروط على كذا” فهو أفصح من “تتوفر في كذا”، فتتوفر الشروط على كذا معناه تكون مقصورة عليه وخاصة به مع شرط الكمال وانتفاء النقصان. أمّا إنكاره ورود “توفر” بغير “على” فغير صحيح، وقد ذكر الشيخ ابراهيم اليازجي في لغة الجرائد (ص 15) شيئاً مفيداً في هذا الباب، قال: “إنهم يقولون شيء وافر أي تام لا نقص فيه…. وقال ابن حمدون في مروج الذهب: فتعجبت من ذلك في أول أمره ثم تبينت القصة فإذا انه يتوفر من ذلك في كل شهر مال عظيم“.

وخلاصة القول ان توفرت الأسباب والشروط والدواعي صحيح وان “توافرت” لا محل له لأنه بمعنى تكاثرت والتكاثر لا حد له. (م ج)

 

قل: تَوَفّر عليه

ولا تقل: تَوَفّر له

قال الفصحاء “تَوَفّر الشيء عليه” لا له، و “توفّر فلان على فلان”. ونحن لا نقول كقول اسعد خليل الداغري:

“ويستعملون الفعل توفر بمعنى وفر أو توافر أي كثر فيقولون: يجب أن تتوفر في الخبرة التامة. وهذا الأمل لم تتوفر فيه الأسباب الكافية. وفي اللغة تَوَفّر عليه رعى حرماته وصرف همته اليه”. فإن الرجل كان متسرعاً متترعاً بله أن تَوَفّر ورد في كلام الفصحاء وانه يختلف عن الفعل “توافر” فهذا بمعنى “تكاثر”، والقائل توفر لم يرد التكاثر بل أراد: تجمع وحصل، ولكنهم يستعملون “على” معه. قال زياد بن سمية: “ما يتوفر علي من تهالك غيرهم على العمارة وأمنهم جوري أضعاف ما وضعت عن هؤلاء”.

وقال رجل لآخر من أهل الكوفة: “وأنا أسألك أن تقوم معي الى رحلي فتكون في ضيافتي الى الكوفة وتتوفر دنانيرك عليك”.

وقال أبن بن عبد الحميد اللاحقي لأبي نؤاس: “فإن أنت توليته مع تشاغلك بلهوك ولذتك (لم يتوفر عليك فكرك) وخاطرك، ولم يخرج بالغاً في الجودة والحسن، وإن (توفرت عليه) واهتممت به قطعك ذلك عن لهوك ولذتك ومتعتك”.

قال مسكويه: “وكانت الكرامة (متوفرة عليه) من الأمير أبي عبد الله الحسين بن أبي علي العارض”، يعني البريدي. ثم قال: “وأومأ الى مصالحته على مال يحمله يقوم بما أنفق على ذلك العسكر (وتتوفر، بعد ذلك بقية على خزانة السلطان ويضمن إصلاح حاله”.

وقال الوزير أبو شجاع ناقلاً “فقال له الصوفي: هذا شيء نحب أن يتوفر عليك وقد علمت لأصحابنا ما يصلح لهم”.

وقال ابن أبي الحديد: “فليت شعري ما يتوفر على أبي بكر وستة نفر معه”. وقال سبط إبن الجوزي: هو الذي أشار بخراب عسقلان (لتتوفر) العناية على حفظ القدس. وجاء في كتاب الحوادث الذي سمي غلطاً بالحوادث الجامعة “فأمر السلطان بإجرائهم على عادتهم منذ فتحت بغداد (فتوفر عليهم) شيء كثير”.

فهذه شواهد الواقع اللغوي لإستعمال “توفر عليه” من عصر زياد بن سمية الى القرن السابع لهجرة.

وجاء في لسان العرب: “وتوفر عليه اي رعى حرماته…. وتوفر على فلان يبره”. ولم يخرج عن ذلك الحرف. وليست نيابة حروف الجر بعضها عن بعض قياسية وإن ورد أكثرها في الشعر وأقلها في النثر. ألا تراك لا تقول “غضبت له” بمعنى “غضبت عليه” ولا “تعصبت له” بمعنى “تعصبت عليه” ولا “حكمت له” بمعنى “حكمت عليه” ولا “وظفت له” بمعنى “وظفت عليه” ولا “قلت له” بمعنى “قلت عليه” ولا “وقفت له” بمعنى “وقفت عليه”.

فالصواب أن تقول: “توفر عليه”. (م ج)

 

قل: وفر كذا من المال

ولا تقل: إقتصد كذا من المال

وكتب إبراهيم اليازجي: “ويقولون اقتصد كذا من المال إذا استفضل منه فضلة فيغيرون معنى الفعل ووجه استعماله لأن الإقتصاد في اللغة بمعنى الإعتدال والتوسط في الأمر. يقال فلان مقتصد في معيشته إذا توسط بين التقتير والإسراف واقتصد الرجل في أمره إذا لم يبالغ فيه وأصل معنى القصد إستقامة الطريق فكان المقتصد لا يميل الى التفريط ولا الإفراط ولكن قصداً بين الطريقين وحينئذ فلا معنى لأن يقال اقتصدت مالاً، فضلاً عن أن الفعل لازم لا يحتمل التعدية. يا عجباً لم لا يستعمل التوفير في هذا الموضع وهو اللفظ اللائق به مع شهرته على الألسنة وعدم مباينته أصل المعنى الذي وضع له. بلى إنا لم نجد هذا اللفظ في كلامهم على وجهه الذي نستعمله اليوم ولكن يمكن رده الى كلامهم من أسهل سبيل وذلك أنهم يقولون شيء وافر …. .. لا نقص فيه وقد وفره توفيراً إذا جعله تاماً وكذلك إذا تركه تاماً يقال وفر شعره إذا لم يأخذ منه ووفرت عرضه إذا لم تنقصه بشتم. …. فيتحصل من ذلك أنك تقول وفرت المال إذا لم تنقص منه ثم استعمل في الحصة التي استبقيت منه فجعل استبقاؤه توفيراً وهو غير خارج عن أصل المعنى كما ترى. وقد تضافرت على هذا الإستعمال أقوال مشاهير الكتاب من المولدين ولا بأس أن ننقل شيئاً منها في هذا الموضع ولو أطلنا تقريراً للفائدة. فمن ذلك ………جاء في المجلد الثاني من نفح الطيب للمقري (صفحة 528 من النسخة المطبوعة في مصر) أمضى اليكم وألقاكم في بلادكم رفقاً بكم وتوفيراً عليكم وفي المجلد نفسه (صفحة 613) وما ذلك منه إلا توفير لرجاله وعدته ودفع بالتي هي أحسن، وفي المجلد الثاني من كتاب ألف با للبلوي (صفحة 168) نقلاً عن بعض التفاسير أن سليمان سأل مرة نملة كم تأكلين في السنة فقالت ثلاث حبات فأخذ النملة وجعلها في حق وجعل معها ثلاث حبات ثم نظر اليها بعد سنة فوجدها قد أكلت حبة ونصف حبة فقال كيف هذا فقالت لما سجتنتني هنا وأنت ابن آدم خشيت أن تنساني فوفرت قوت عام آخر. أ ه. وبهذا قدر كفاية.”

 

قل: هذه حَلْقَةُ الباب (بتسكين اللام)

ولا تقل: هذه حَلَقَةُ الباب (بفتح اللام)

وكتب إبن قتيبة: و “هي حَلْقَةُ الباب” و “حَلْقَةُ القوم” بتسكين اللام.
قال أبو عمرو الشيباني: لا يقال حَلَقة في شيء من الكلام، إلا لحلقة الشعر جمع حالقٍ، مثل كافر وكفَرة وظالم وظلمة.

وكتب إبن السكيت: وتقول: هي حَلْقَةُ الباب: وحَلْقَةُ القوم، والجميع حَلَق وحِلَاق. قال أبو يوسف: وسمعتُ أبا عمرو الشيباني يقول: ليس في الكلام حَلَقةٌ، إلا جمع حالق، تقول: هؤلاء قوم حَلَقَةٌ للذين يحلقون الشعر، ويقال: قد حَلَق معزهُ وجَزَّ ضأنه، وهي حُلَاقة المعزى.

وكتب عبد الهادي بوطالب: كلمة الحَلْقة (بفتح الحاء وسكونٍ على اللاَّم) التي ينطق بها الإعلام محرَّفة فيضع الفتحة على اللام في المفرد بدلا من السكون.

الحلْقة على وزن فَعْلَة وجمعها فَعَلات بفتح الحرف الثاني منها. وهذا هو سبب الخطأ الذي يقع فيه بعض الإعلاميين الذين يجهلون هذه القاعدة فيظنون أن الكلمة مفتوحة اللام سواء في المفرد أو الجمع. إنه لا يمكن أن نقول في المفرد حلَقة لمجرد أننا نقول في الجمع حلَقات لأن صيغة المفرد تتغير في الجمع.

وأنبه إلى أننا لا نقول أعطى فلانٌ لفلان ضَرَبة (بفتح الراء) بل ضَرْبَة بسكون الراء، ونجمعها على ضَرَبات (بفتح الراء). ونقول لطْمة (سكون الطاء) ونجمعها على لطَمات، وفتْرة (بالسكون) زَمَنيَّة، ونجمعها علىفَتَرات. كما نقول نظْرة ونجمعها على نظَرات. وجاء في الحكمة العربية المشهورة “رُبَّ أَكْلةٍ حرَّمتْ أَكَلات”. وما أكثر الأمثلة على جمع فَعْلَة على فَعَلات.”

 

قل: حضر وقت الصلاة

ولا تقل: أزف وقت الصلاة

كتب الحريري: “ويقولون أزف وقت الصلاة إشارة إلى تضايقه ومشارفة تصرمه. فيحرفونه في موضعه، ويعكسون حقيقة المعنى في وضعه، لأن العرب تقول: أزف الشيء بمعنى دنا واقترب، لا بمعنى حضر ووقع، يدل على ذلك أن سبحانه سمى الساعة آزفة وهي منتظرة لا حاضرة، وقال عز وجل فيها: “أزفت الآزفة”، أي دنا ميقاتها وقرب أوانها، كما صرح جل اسمه بهذا المعنى في قوله سبحانه: “اقتربت الساعة”، والمراد بذكر اقترابها التنبيه على أن ما مضى من أمد الدنيا أضعاف ما بقي منه، ليتعظ أولو الألباب به. ومما يدل أيضا على أن أزف بمعنى اقترب، قول النابغة:

أزف الترحل غير أن ركابنا

لما تزل برحالنا وكأن قد

فتصريحه بأن الركاب ما زالت، يشهد بأن معنى قوله: أزف، أي اقترب، إذ لو كان قد وقع لسارت الركاب. ومعنى قوله: “وكأن قد” أي وكأن قد سارت، فحذف الفعل لدلالة ما بقي على ما ألقي. ونبه بقد على شدة التوقع وتداني الإيقاع له.”

 

قل: عَجَزْتُ عن الشّيء (بفتح الجيم)

ولا تقل: وعَجِزْتُ عن الشّيء (بكسر الجيم)

وكتب الكسائي: “وتقول عَجَزْتُ عن الشيء، بفتح الجيم. ومنه قول الله تعالى ” قَالَ يَـٰوَيْلَتَىٰٓ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَ‌ ٰرِىَ سَوْءَةَ أَخِى ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ “.”

وكتب أبو طالب المفضّل بن سَلَمَة الضبي المتوفَّى بعد 290هـ في كتابه “ما تلحن فيه العامة”: “وعَجَزْتُ عن الشّيء. ولا تقل: عجِزْتُ. إنما يقال: عَجِزَ الرجل عَجْزًا، إذا ضَخَمت عجيزتُه.”

وكتب الجوهري في صحاح اللغة:

” وعَجِزَتْ بالكسر تَعْجَزُ عَجَزاً وعُجْزاً بالضم: عظمت عَجيزتُها. قال ثعلب: سمعت ابن الأعرابيّ يقول: لا يقال عَجِزَ الرجل بالكسر إلا إذا عَظم عَجُزُهُ.”

 

قل: نشير أخيراً إلى معلومات فرنسية تتتحدث عن إرسال روسيا عدة آلاف من الجنود

ولا تقل: نشير أخيرا الى معطيات فرنسية تتحدث عن إرسال  روسيا  عدة آلاف من الجنود.

وشاع في الإعلام العربي في السنوات الأخيرة، ضمن ما شاع من فحش الكلام، إستعمال كلمة “معطيات” في كل مناسبة. فاصبحت لازمة كلامية تستعملها المذيعة كلما نفدت مفرداتها المحدودة أصلا وهي تسأل سؤالاً أو تنقل خبراً. فتستعمل “معطيات” لتعني بها في كل مرة شيئاً آخر، كما في النماذج التالية وكلها منقولة من مصادرها.

“وأوضح بأنّ جميع المعطيات المستحصلة من منظومات الرصد.”

وهي تريد “البيانات”.

“غير ان ديبلوماسياً مخضرماً اوضح ان ما حصل عليه من معطيات يفيد بأن…”

وهي تريد “المعلومات”.

“رئيس الجمهورية يطلب من وزير الخارجية جمع كافة المعطيات عن العدوان الأخير.”

وهي تريد “التفاصيل”.

“المعطيات الراهنة تشير الى أن سيناريو اشتعال المواجهة بين النصرة والحر.”

وهي تريد “الحقائق”.

ولم يكن هذا الإستعمال البائس معروفاً حتى في نهاية القرن العشرين إلا أنه يبدو أن أحد الإعلاميين الجهلة بلسان العرب، لأنهم متغربون فكراً ولساناً، أدخله في الإعلام اللبناني أو المصري، على الأغلب، فانتشر كالنار في الهشيم بين شاكلته من الإعلاميين الجهلة ثم اصبح على كل لسان حتى اني أسمعه بين العاملين في الوزارات والمؤسسات الرسمية وهو الأمر المخيف لأنه يكشف أثر الإعلام في تجهيل الناس وتضييع لغتهم وتسفيه عقولهم بالبائس من القول كأنه ليس كافياً ما يأتون به من ضلال القول في التحليل السياسي.

فمتى كانت “معطيات” تعني كل هذا؟ وهل العربية الثرية أمست بجهل هؤلاء بهذا الفقر حتى لم نعد نجد غير “معطيات” لنعبر عن كل ما نريد؟

فما معنى “معطيات” إذن؟

فاسم الفاعل من الفعل الرباعي “أعطى” أي مَنْ يعطي فهو “مُعطِي” أما إسم المفعول أي الشيء الذي يُعطى فهو “مُعْطَى”.

و “معطيات” هي جمع “مُعْطَى” أي هي الأشياء التي تعطى. وقد استعملت في الرياضيات والمنطق لتعني الأمور التي قبلت على أنها حقائق من أجل الوصول لحل أمور مجهولة. فمن ذلك على سبيل المثال إن القول بأن مجموع زوايا اي مثلث هو 180 درجة سيكون في أية مسئلة هندسية من “المعطيات”، لأنه أمر مسلم به ومعطى للمسؤول مما يمكنه لاحقاً المساعدة في حل مسألة هندسية مجهولة.

ويتضح من هذا أن “معطيات” لا تعني بيانات لأن البيانات لا يقتضي وجودها أن تكون من الأمور المسلم بها. كما ان معطيات لا تعني “معلومات” ولا تعني “تفاصيل”، حتى تستعمل في كل مناسبة. فمن “أعطى” ماذا لمن؟ وما دامت العربية غنية بمفرداتها حيث تشير كل منها لمعنى دقيق يتعلق بالمطلوب فإن من سليم القول العدول عن إستعمال “معطيات” إلى إستعمال اللفظ المطلوب في سياق تلك الجملة.

وللحديث صلة….

21 أيار 2014

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image