قل ولا تقل / الحلقة الثانية والخمسون

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)

قل: فإذا أنا به واقفاً

ولا تقل: فإذا أنا به واقفٌ

كتب مصطفى جواد: “ويقولون: “فحصت عن فلان فإذا أنا به واقفٌ” برفع “واقف” على وجه إعرابيّ متمحل مخالف للصواب، هو اعتداد الباء زائدة في “به” وهي دعوى باطلة، فالعبارة من العبارات العربية المختصرة التي لا يتم تركيبها إلا بتقدير نحو قولهم: “من لي بفلان أوبكذا وكذا؟” و “كيف لي به؟” و “لا عليك” و “إليك عني” و “هل لك إلى أن تفوز؟” فالأول تقديره “من مظفر أو آت؟” والثاني “كيف الظفر؟” والثالث “لا بأس” والرابع “ارجع أو انكص” والخامس “هل لك حاجة أو توق”، ولذلك يجب أن يكون اصل قولهم “فإذا أنا به واقفاً” : “فإذا أنا ظافر به واقفاً” أو عاثر به أو شاعر به… ويكون “واقفاً” على هذا التقدير حالاً من الضمير المجرور بالباء وهو الهاء. ولا يجوز الرفع البتة، وفي كلام العرب المدون في الكتب الصحيحة النسخ والضبط شواهد على ذلك وللغة العربية أسرار يدركها الأحبار.”

قل: سرنا وإذا نحن برجل يستغيث وبحثنا عن الشيء وإذا به مطروحاً خلف الدار

ولا تقل: سرنا وإذا بنا برجل يستغيث، ولا يقال: بحثنا عنه وإذا به مطروح خلف الدار

وكتب مصطفى جواد: “والسبب في ذلك أن “إذا” الفجائية لا يفاجأ بها المتكلم نفسه، فأصل العبارة “سرنا وإذا نحن باصرون برجل يستغيث أو ظافرون به أو شاعرون به أو عاثرون أو ما أشبه ذلك” فكيف يصح أن يقال “سرنا وإذا بنا شاعرين برجل يستغيث” فالصواب “وإذا نحن شاعرون برجل يستغيث”، وتحذف كلمة “شاعرون” فتكون الجملة “وإذا نحن برجل يستغيث” ويجوز حذف نحن فتكون الجملة “وإذا برجل يستغيث”.

أما قولهم “بحثنا عنه فإذا به مطروح خلف الدار” فالخطأ فيه رفع مطروح مع وجوب نصبه لأنه حال من الضمير المجرور بالباء، وهو في الباء في قولهم “به” والعامل في اسم الفاعل المحذوف المقدر “شاعرون أو عاثرون أو باصرون أو ظافرون”، وفي العربية أسرار ودقائق تبين شيئاً فشيئاً للمتكامل الدقيق النظر العميق الفكر. “

قل: فلان مَعْدِنُ العلم

ولا تقل: فلان مَعْدَنُ العلم

وكتب الكسائي: “ويقال فلان مَعْدِنُ العلم. ولا يقال: مَعْدَنُ العلم بفتح الدال.” إنتهى

وكتب ابن فارس في المقاييس:

”العين والدال والنون أصلٌ صحيح يدلُّ على الإقامة. قال الخليل: العَدْن: إقامة الإبل في الحَمْض خاصّة. تقول: عَدَنَت الإبل تَعْدِن عَدْناً….. والأصل الذي ذكره الخليل هو أصلُ الباب، ثمَّ قيس به كلُّ مُقام، فقيل جنةُ عَدْنٍ، أي إقامة. ومن الباب المعدِنُ: مَعدِن الجواهر…. ويقيسون على ذلك فيقولون: هو مَعدِن الخَير والكَرَم.”

وكتب ابن منظور في اللسان:

” واسم عَدْنان مشتق من العَدْنِ، وهو أَن تَلْزَمَ الإِبلُ المكانَ فتأْلَفَه ولا تَبْرَحَه. تقول: تَرَكْتُ إِبل بني فلان عَوادِنَ بمكان كذا وكذا؛ قال: ومنه المَعْدِن، بكسر الدال، وهو المكان الذي يَثْبُتُ فيه الناس لأَن أَهله يقيمون فيه ولا يتحوَّلون عنه شتاء ولا صيفاً، ومَعْدِنُ كل شيء من ذلك، ومَعْدِنُ الذهب والفضة سمي مَعْدِناً لإنْبات الله فيه جوهرهما وإِثباته إِياه في الأَرض حتى عَدَنَ أَي ثبت فيها.”

قل: يوشِكُ أن يكون كذا

ولا تقل: يُوشَكُ أن يكون كذا

وكتب إبن قتيبة: ” يوشِكُ أن يكون كذا ولا يقال يُوشَكُ.”

وكتب عبد الهادي بوطالب: “فعل وشَك (بضم الشين) يُوشَك (بفتح الشين) وَشْكا ووشاكة إذا قرُب. ومصدر وشْك (بسكون الشين) هو الذي يدخل عليه حرف على فنقول: “على وَشْك”…. سمعت من يفتح شين هذا المصدر ويقول: “أنا على وشَك أن أنتهي”. وهذا خطأ. لكن الفعل الرباعي من وَشَك هو أوْشَك أنيفعل كذا والمضارع منه يُوشِك. ومصدره إيشاك بمعنى القرب. وهو من أفعال المقاربة التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر. ونقول: “يُوشك فصلُ الصيف أن ينتهي” و”فصلُ الصيف على وشْك الانتهاء”.
وفي الحديث : “الراعي حول الحِمى يُوشِك أن يقع فيه”. وتأتي أنْ بعد فعل أوشَكَ يوشِك كما رأينا في المثالين السابقين.”

قل: كان رجلاً منتكساً

ولا تقل: كان رجلاً مُخَنَّثَاً

كتب الزبيدي: “يقولون للمتهم بالقبيح “مُخَنَّثٌ” و “المخنَّثُ” من الرجال الذي فيه تَكَسُّرٌ ورخَاوَةٌ ومنه قولهم: إمرأة خُنُثٌ. ويقال خَنَثَ السِّقاءُ وانتخنثَ إذا مال وتكسَّرَ. وفي الحديث: نهى رسول الله (ص) عن إنخِناثِ الأسقيَةِ ومعناه أن تُمال فَيُشْرَبَ من أفواهها.

أنشدنا أحمد بن سعيد قال أنشدنا أحمد بن خالد عن علي بن عبد العزيز لشاعر ذكر أنه شرب من سقاء العنز وقال:

أخَذْتُ مُخَنَّثَاً فَلَثمتُ فاهُ                 فيا طيبَ المُخَنَّثِ من لَئِيمِ

وفي الحديث أن رسول الله (ص) دخل على أمِّ سلمة ومعها مُخَنَّثٌ. حدثنا قاسم بن أصبغ عن محمد بن اسماعيل عن الحميدي عن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة، فذكر الحديث. فلو كان على ما يذهب إليه العامة، لما دخل على أمِّ سلمة رحمها الله تعالى.”

قل: خرجنا في نزهة إلى مَنْزَه (أو مُتَنَزَّه)

ولا تقل: خرجنا في مشوار إلى مُنْتَزَه

وجاء في ملحق أوهام الخواص: “قولهم: خرجنا في مشوار إلى منتزه، وهم يعنون: في نزهة إلى منزه، فيخطئون مرتين.

الأولى: تسميتهم النزهة بالمشوار، لأن المشوار هو اسم آلة على وزن مفعال، نحو: مفتاح ومنشار، وهو مشتق من الفعل: شار العسل واشتاره، أي اجتناه من خلاياه. والمشوار هو الآلة التي يشتار بها العسل، والشور هو العسل نفسه، ومنه قول ساعدة بن جؤبة:

فلما دنا الإفراد حط بشوره **      إلى فضلات مستحير جمومها

والمشوار أيضا الهيئة والصورة.

يقال: فلان حسن المشوار، أي الهيئة، والأنثى شيرة.

والثانية من أوهامهم في هذه العبارة قولهم لمكان النزهة منتزهاً، وهو وهم واضح، لأن اسم المكان يؤخذ من الفعل الثلاثي ( نَزَه ) على وزن مفعل، أي مَنْزَه، ومنه قول أبي بكر بن زهر الأندلسي:

عيش يطيب ومنزه كالعروس عندما تجلى

أما إذا كان الفعل مزيداً، فإن الزيادة فيه تضاف إلى الموزون، فنقول في تَعَثَّر: مُتَعَثَّر، وفي تَدَرَّج: مُتَدَرَّج، وفي تَنَزَّه: مُتَنَزَّه، ولا نقول: منتزه.”

وكتب اليازجي: “ويقولون خرج الى المنتزه يعنون المتنزه وهو المكان البعيد عن مستنقعات المياه ومجامع الناس ولم يحك وزن افتعل من هذه المادة. على أنهم إذا ذكروا الفعل قالوا خرج يتنزه ولم يقولوا ينتزه وكذلك سائر مشتقات هذه الكلمة ولم يسمع لهم وزن افتعل إلا في إسم المكان المذكور وهو غريب.”

 

قل: كلا الرجلين خرج، وكلتا المرأتين حضرت

ولا تقل: كلا الرجلين خرجا وكلتا المرأتين حضرتا

كتب الحريري:ويقولون: كلا الرجلين خرجا وكلتا المرأتين حضرتا، والاختيار أن يوحد الخبر فيهما، فيقال: كلا الرجلين خرج، وكلتا المرأتين حضرت، لأن كلا وكلتا اسمان مفردان وضعا لتأكيد الاثنين والاثنتين، وليسا في ذاتهما مثنيين.

ولهذا وقع الإخبار عنهما كما يخبر عن المفرد. وبهذا نطق القرآن في قوله تعالى: “كلتا الجنتين آتت أكلها”، ولم يقل: آتتا، وعليه قول الشاعر:

كلانا ينادي يا نزار وبيننا  قنا من قنا الخطي أو من قنا الهند

ومثله قول الآخر:

كلانا غني عن أخيه حياته ** ونحن إذا متنا أشد تغانيا

فقال الأول: كلانا ينادي، ولم يقل: يناديان، وقال الآخر: كلانا غني ولم يقل: غنيان، فإن وجد في بعض الأخبار تثنية خبر عن كلا وكلتا فهو مما حمل على المعنى أو لضرورة الشعر.

وأخذ عبد الهادي بوطالب ذلك عن الحريري فكتب: “كلا اسم مقصور لفظه مفرد مذكَّر مُثَنّى. ولفظ كلتا كذلك مؤنث مُثَنّى. والفعل أو الوصف الآتيان بعدهما يبقيان في صيغة المفرد.

لا يجوز أن نقول كِلا الرجلين حضرا، وكِلْتا المرأتين حضرتا، ولا أن نقول كِلا الرجلين كانا حاضرَيْن، أو كِلْتا المرأتين كانتا حاضِرَتَيْن.

بل الصواب هو: “كِلا الرجلين حضر” (بالمفرد) وكِلْتا المرأتين حضرتْ” (بالمفرد) “وكِلا الرجلين كان حاضراً” “وكِلْتا المرأتين كانت حاضرة”.
وفي القرآن الكريم جاء : “كِلْتا الجنَّتَين آتتْ أُكلَها” ولم يقل “آتتا”.

ومن ذلك ما جاء في هذا البيت:

كِلانا ينادي يا نِزارُ وبَيْنَنا

قَناً مِنْ قَنا الْخَطِّيِّ أو منْ قَنا الْهِندِ

وفي هذا البيت الذي يُرْوى عن عبد الله بن معاوية بن جعفر ابن أبي طالب:
كلانا غَنِيٌّ عن أخِيه حياتَهُ

ونحن إذا مُتْنا أشدُّ تَغَانِيا

وأخذ خالد العبري ذلك عن الحريري واليازجي دون إشارة لهما فكتب: “وذلك لأن “كلا وكلتا” اسمان مفردان وضعا لتأكيد الإثنين والإثنتين ولا يدلان في ذاتهما على التثنية فلفظهما دال على المفرد ومعناهما فقط يدل على المثنى، ومعنى ذلك أنهما في ذاتهما لا يحملان أي دلالة على التثنية لكن لربطهما بالمثنى صارا يحملان معنى التثنية لذلك وقع الإخبار عنهما كما يخبر عن المفرد. وكذلك أترى أنك لو قدمت الفعل عليهما لما استسغت تثنيته فأنت تقول “ذهب كلا الرجلين” و “صامت كلتا المرأتين”.

وقد جاء في الكتاب العزيز: “كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا”، ولم يقل: آتتا.

ويقول الأعشى: (من الطويل)

كلا أبويكم كان فرعاً دعامة            ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا

ولم يقل: كانا فرعا دعامة.

قل: هو رَجُلٌ مُكْدٍ

ولا تقل: هو رَجُلٌ مُكَدِّي

كتب الزبيدي: “يقولون للفقير: “رجل مُكَدِّي” وأكثر ما يلحن في هذا أهل المشرق، ويقولون: “المُكَدِّيَة” للسُّؤَّال الطوافين على البلاد. والصواب “رجلٌ مُكْدٍ” من قولك حَفَرَ فأكدى إذا بلغ “الكُدْيَة” فلم يُنيِطْ ماءً، و “الكدية”: أرض صلبة إذا بلغ اليها الحافر يَئِسَ من الماء فترك الحَفْرَ، ويقلب: أعطى فأكدى أي قَلَّلَ، وقيل قَطَعَ.” إنتهى

وكتب ابن منظور: “كَدَت الأَرض تَكْدو كَدْواً وكُدُوًّا، فهي كاديةٌ إِذا أَبطأَ نباتها…… وسأَله فأَكْدَى أَي وجده كالكُدْيةِ؛ عن ابن الأَعرابي. قال ابن سيده: وكان قياس هذا أَن يقال فأَكْداه ولكن هكذا حكاه….. ويقال: أَكْدَى أَي أَلَحَّ في المسأَلة؛ وأَنشد: تَضَنُّ فَنُعْفِيها، إِن الدارُ ساعَفَتْ، فلا نحنُ نُكْدِيها، ولا هي تَبْذُلُ ويقال: لا يُكْدِيك سُؤالي أَي لا يُلحُّ عليك، وقوله: فلا نحن نُكديها أَي فلا نحن نُلِحُّ عليها. وتقول: لا يُكْدِيك سؤالي أَي لا يُلح عليك سؤالي…. وأَكْدَى الرجلُ: قلَّ خيره، وقيل: المُكْدِي من الرجال الذي لا يَثُوب له مال ولا يَنْمِي، وقد أَكْدَى؛ أَنشد ثعلب: وأَصْبَحَتِ الزُّوّارُ بَعدكَ أَمْحَلُوا، وأُكْدِيَ باغِي الخَيْرِ وانْقَطَعَ السَّفْرُ وأَكْدَيْتُ الرجل عن الشيء: رددته عنه.”

ولا يبدو أن كثيراً قد تغير منذ زمن الزبيدي فما زالت عامية أهل العراق تصف المتسول بانه “إمجدِّي” أو “إمكدِّي” (بالكاف العامية) حسب المكان وذلك لتنوع العامية.

قل: فوضت الأمر إلى فلان/ فوضت إلى فلان الأمر

ولا تقل: فوضت فلاناً بالأمر

وكتب اليازجي:”ويقولون فوضت فلاناً بالأمر وفي الأمر أي رددته اليه فيعكسون عمل الفعل والصواب فوضت الأمر إلى فلان.” إنتهى

وقد استغربت أن يكون قد فات على اليازجي أن يستشهد بالآية الكريمة: “وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلى اللهِ”. لكني سرعان ما اكتشفت أن كلا من الجوهري في الصحاح والفيروزأبادي في القاموس وابن منظور في اللسان فاته في باب “فوض” أن يستشهد بها. وكتب ابن فارس في المقاييس:

” الفاء والواو والضاد أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على اتّكال في الأمر على آخَر وردِّه عليه، ثم يفرَّع فيردّ إليه ما يُشبهه. من ذلك فوَّضَ إليه أمرَه، إذا ردَّه. قال الله تعالى في قصّةِ من قال: وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلى اللهِ [غافر 44]. ومن ذلك قولُهم: باتوا فَوْضَى، أي مختلطين، ومعناه أنّ كلاًّ فوَّض أمرَه إلى الآخَر.” وكتب الجوهري في الصحاح: ” وقومٌ فَوْضى، أي متساوون لا رئيسَ لهم”.

ومن هذا قول الأفوه الأوديّ الذي تعرفه الناس والذي يصلح لزماننا كما صلح لزمانه:

لا يَصْلُحُ الناسُ فَوْضى لا سَراةَ لهم         ولا سَراةَ إذا جُهَّـالُـهُـم سـادوا

والبيت لا يبتنى إلا على عمد           ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

30 حزيران 2015

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image