قل ولا تقل / الحلقة التاسعة والخمسون

 

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)

 

قل: رجعت الكتاب الى صاحبه رجْعاً فانا راجع له وهو مرجوع اليه والكتاب مرجوع

ولا تقل: أرجعت الكتاب الى صاحبه إرجاعاً

وكتب مصطفى جواد: “إلا في لغة هُذيل وما نحن وهُذيل. قال الله عز وجل: “فرجعناك الى أمك كي تقر عينها ولا تحزن”، وقال”فإن رجعك الله الى طائفة منهم”، وقال”إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر” ولم يقل “على إرجاعه”. وقال “ولئن رجعت الى ربي أن لي عنده للحسنى” ولم يقل أرجعت. والفعل الثلاثي يفضل على الرباعي إلا إذا ورد النص على العكس كأوحى الله فهو خير من وحى الله، وكأغفى فلان فهو خير من غفا فلان.”

قل: شهر جُمادى الأولى وجُمادى الآخرة

ولا تقل: جَماد الأول وجَماد الثاني

وكتب مصطفى جواد: “لأن جُمادى على وزن فًعالى هو الإسم الصحيح لهذا الشهر والألف فيه للتأنيث ولذلك قالوا “الأولى” و “الآخرة” وجُمادى مثل قُصارى من أوزان الأسماء المفردة، للعرب جٌماديان الأولى والآخرة وربيعان الأول والآخر، ولغيرهم كانونان الأول والثاني ولو كانوا عرباً لقالوا “الآخر” ولهم تشرينان الأول والثاني، ولو كانوا عرباً لقالوا “تشرين الآخر”. ولا يخفى ما في قول العرب “الآخر والآخرة” من فائدة، وذلك أنهم أرادوا أن يفهموا السامع أنه ليس عندهم ربيع ثالث ولا جمادى ثالثة، على حين ان قول غيرهم “تشرين الثاني” لا يمنع أن يأتي “تشرين ثالث” وقولهم “كانون الثاني” لا ينفي أن يكون لهم “كانون ثالث”.

وكتب المقدسي: “وكذلك أيضاً يقولون: جُمَادى الأَوَّلِ وجُمادَى الآخِرِ. والمشهورُ: جُمادَى الأُولى وجُمادَى الآخِرةُ، لأَنَّ النعْتَ لجُمادَى، وهي مؤنثةٌ.”

قل: حل شهرُ جُمادَى الأولى

ولا تقل: حل شهرُ جُمادِي الأولى

كتب الزبيدي: “يقولون “جُمادي” الأولى فيكسرون الدال. والصواب “جُمادَى”، وليس في الكلام “فُعالِي” إلا والهاء لازمة نحو “قُرَاسِيّة” و “عُفَارِيّة” و “صُرَاحِيّة”، قال الشاعر:

إذا جُمادَى مَنَعَتْ قَطْرُها           زَانَ جَنَابِي عَطَنٌ مُغْضِفُ”

(شرح الكلمات: القراسية: الضخم الشديد من الإبل. عطن مغضف: أراد إذا منع القطر فلم تعشب الأرض فهو في خير في نخل مثمر)

قل: فَصُّ الخاتَمِ

و لاتقل: فُصُّ الخاتَمِ

وكتب الكسائي: “ويقال: فَصُّ الخاتَمِ بفتح الفاء “ويأتيك بالأمر من فَصّه” أي من عَيْنِه وصوابه. ويقال: خاتَم بفتح الخاء وخاتِم الشيء آخره بكسر التاء. ومنه قول الله عز وجل: “وخاتم النبيين”.

وكتب الضبي: “وهو فَصُّ الخاتَمِ، ويأتيكَ بالأمر من فَصِّهِ: مفتوحان.”

قل: أيُّ داءٍ أدوأ من البخل

ولا تقل: أيُّ داءٍ أدوى من البخل

كتب البستي: “وفي الحديثِ: أنَّ النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، قالَ لبني ساعِدة: مَنْ سَيِّدُكُم؟ قالوا: جَدُّ بنُ قيسٍ وإنّا لنرنّهُعلى ذلكَ بشيءٍ من البُخْلِ. قالَ:أيُّ داءٍ أَدْوَى من البُخْلِ. هكذا يرويه أصحابُ الحديث، لا يهمزونَهُ. والصوابُ أنْ يُهْمَزَ فيُقال: أًدْوأُ لأنَّ الداءَ أَصْلُهُ من تأليفِ دالٍ وواوٍ وهمزةٍ. يُقالُ:داءٌ وفي الجمعِ: أدواءٌ.والفِعْلُ منه داءَ يَداءُ دَوْءاً، تقديره نامَ يَنامُ نَوْماً.ودَوَّأَهُ المرضُ مثل نَوَّمّهُ.أ َنشدنا أبو عُمَر قال: أنشدنا أبو العباس ثعلبٌ عن ابن الأعرابيّ لرجلٍ عَفّهُ ابناه: وكُنْتُ أُرَجِّي بعدَ عثمانَ جابراً فدَوَّأَ بالعَيْنَيْنِ والأَنْفِ جابِرُ ويُقالُ: دَوِيَ الرجلُ يَدْوَى دَوىً، إذا كانَ به مرضٌ باطِنٌ. فأَمَّا الداءُ ممدودٌ مهموز فاسمٌ لكلِّ مرضٍ ظاهرٍ وباطِنٍ. وقالَ عيسى بن عُمَر: سمعتُ رجلاً يقولُ: برِئتُ إليكَ من كلِّ داءٍ تداؤُهُ الإبلُ.”

قل: رأيته غير مرة وجاءني غير واحد

ولا تقل: رأيته أكثر من مرة وجاءني أكثر من واحد

وكتب اليازجي: “ويقولون رأيته أكثر من مرة وجاءني أكثر من واحد ومقتضاه إثبات الكثرة للمرة وللواحد لأن المفضل عليه في معنى من المعاني لا بد أن يشارك المفضل في ذلك المعنى فقولك بكر أشرف من خالد يتضمن إثبات الشرف لخالد مع زيادة بكر عليه فيه والظاهر أن هذا التعبير منقول عن التركيب الإفرنجي والعرب يستعملون هنا لفظ غير يقولون رأيته غير مرة وجاءني غير واحد لأن غير الواحد لا بد أن يكون إثنين فما فوق”.

إن ما أشار اليه اليازجي قبل عقود قد ساء واستفحل. فالمتغرب العربي أصبح يفكر،وحتى لا شعورياً،بلغة أوربية ثم يترجم ذلك الفكر للعربية حين يكتب. وما ذكره أعلاه هو مثال ذلك فالذي يقول رأيته أكثر من مرة إنما يترجم للعربية الجملة الإنكليزية “I saw him more than once”. كان الله في عون العربيةّ

قل: إمتلأ بطنه

ولا تقل: إمتلأت بطنه

كتب الحريري: “ويقولون: امتلأت بطنه، فيؤنثون البطن، وهو مذكر في كلام العرب، بدليل قول الشاعر:

فإنك إن أعطيت بطنك سؤله     وفرجك، نالا منتهى الذم أجمعا

وأما قول الشاعر:

فإن كلابا هذه عشر أبطن        وأنت بري من قبائلها العشر

فإنه عنى بالبطن القبيلة فأنثه على معنى تأنيثها، كما ورد في القرآن: “من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها”، فأنث المثل وهو مذكر لما كان بمعنى الحسنة.

ونظيرتأنيثهم البطن وهو مذكر تأنيثهم الألف أيضا في العدد. فيقولون: قبضت ألفا تامة، والصواب أن يذكر فيقال: ألف تام،كما قالت العرب في معناه: ألف صنم وألف أقرع، والدليل على تذكير الألف قوله تعالى: “يمددكم ربكم بخمسة آلاف”والهاء في باب العدد تلحق بالمذكر وتحذف من المؤنث، وأما قولهم: هذه ألف درهم، فلا يشهد ذلك بتأنيث الألف لأن الإشارة وقعت على الدراهم وهي مؤنثة، فكان تقدير الكلام: هذه الدراهم ألف.”

 

قل: التهب حشاه من الحزن

ولا تقل: التهبت حشاه من الحزن

وكتب اليازجي: “ومثلهم قولهم التهبت حشاه من الحزن وربما قالوا أوجعته رأسه ووجعته بطنه كما تقوله عامة أهل مصر يؤنثون هذه الألفاظ كلها وهي مذكرة وقد ورد شيء من هذا في كلام بعض السابقين كقول ابن نباتة المصري:

وسلبت لبي والحشا وجبت                فعييت بالإيجاب والسلب

ومن هذا قول البديع الهمذاني

ولي جسد كواحدة المثاني         ولي كبد كثالثة الأثافي

وإنما المثاني جمع مثنى وهو الوتر الثاني من أوتار العود فصوابه كواحد المثنى. وربما ورد لهم عكس هذا فذكروا المؤنث كقول ابي تمام الطائي:

لعذلته في دميتين تقادما            ممحوتين لزينب ورباب

يريد تقادمتا وهو من الضرورات التي لا تباح للشاعر.

(لا بد من الإشارة هنا الى ان البيت جاء بصيغة أخرى حيث روي أن أبا تمام قال: لعذلته في دمنتين بامرة… مما ينفي ملاحظة اليازجي عن تذكير المؤنث).

ومثله قول المأموتي من شعراء اليتيمة:

من تحته عينان منذما انفتحا ما انطبقا

أي انفتحتا وانطبقتا. ومن ذلك قول البستي:

إلى حتفي مشى قدمي      أرى قدمي أراق دمي

بتذكير الضمير العائد على القدم في قوله أراق …. وقد تبعه في هذا ابن حجة الحموي حيث يقول من بديعيته:

ورمت تلقين صبري كي أرى قدمي     يسعى معي فسعى لكن أراق دمي

ومن هذا القبيل قول صفي الدين الحلي:

فعلي باحسانكم فارغ       وكفي بانعامكم ممتلي

فذكر الكف ولم تسمع كذلك إلا في بيت تأولوه. …

وأغرب من ذلك إجراؤهم جمع غير العاقل هذا المجرى كقول ابن هاني الأندلسي يصف خيلاً:

محجلة غراً وزهراً نواصعاً      كأن قباطياً عليها منشرا

بالتذكير وصف القباطي وهي جمع قبطية بكسر القاف وضمها لثياب بيض رقاق من الكتان كانت تنسج بمصر وهي منسوبة الى القبط. ومثله قول ابن المفضل البغدادي:

خطرت فكاد الورق يسجع فوقها        إن الحمام لمغرم بالبان

وإنما الورق جمع ورقاء وهي الحمامة لونها الرماد وقول عبد الصمد الصفار:

وشقائق شق القلوب كأنه          خد مليح ضم صدغاً أسودا

فذكر الشقائق وهي جمع شقيقة لواحدة الشقيق وهو النور المعروف. ومثله قول النشابي:

كما سبحت تبغي الحياة أراقم     على روضة فيها الأقاح المنور

وفيه التذكير وحذف الياء من آخر الكلمة لأن أصلها أقاحي بتشديد الياء وتخفيفها وإنما يجوز الحذف مع التخفيف في الوقف كما في الكبير المتعال ونحوه. ومن الغريب أن هذه اللفظة شاعت كذلك بين الشعراء حتى لا تكاد تجد من تفطن لأصلها أو تنبه لكونها جمعاً وقد وردت فيما لا يحصى من الشعر كقول ابن عائشة الأندلسي:

إذا كنت تهوى خده فهو روضة           به الورد غض والأقاح مفلج

وقول ابن الرقاق:

قلنا فأين الأقاح قال لنا            أودعته ثغر من سقى القدحا

وقول ابن قرناص:

لرأيت نرجسها يغض جفونه      عنا وثغر أقاحها يتبسم

 

قل: إن لي اقتناعاً بما تقول

ولا تقل: إن لي قناعةً بما تقول

وكتب عبد الهادي بوطالب: “ومما شاع خطأ في المشرق والمغرب استعمال كلمة قَناعة بدلا من اقتناع فيقال: “هذه هي قَناعتي.” أي ما أنا متيقِّن منه. و”أجمع الحاضرون على القَناعة بما تحدث به الخطيب.” و”إني أتحدث عن هذا الموضوع بكل قَناعة”.

والصواب ما يلي: فعل قَنِع يَقْنَع قَناعة، يعني أن الشخص رضِي بما أُعْطِي وقَبِله.ولا علاقة للفظ قَناعة بالاقتناع الذي يعني الإيمان بالشيء، والتأكد من صحته، واعتقاده.

وفعله رباعي:أقْنَع يُقنِع إقناعاً، أي جعل الشخص يقتنع أي يتأكد من…… ونقول “فلان أقْنَع فلانا برأيه في الموضوع”، و”سامعُه اقْتَنَع”.ومن المستعمل المشهور: “أقنعتُه بالحجة والدليل حتى اقتنع وسلَّم بالأمر”.
أما في القَناعة فقد وردت عن العرب الحكمة القائلة :”القناعة كنز لا ينفد” (أو لا يفنى ولا ينقضي).

والقانع هو الراضي بما عنده. وهذا النوع من الناس لا يمد يده للسؤال وطلب العطاء. وإليه أشار القرآن: “وأطعموا القانعَ والمُعْترّ”.
من أجل ما سبق يحسن أن نقول : “إن لي اقتناعاً بما تقول”. وأما لي قَناعة فهذه يقولها من يرضى بما عنده ويكتفي. ويقال: “الحمد لله إني لا أطمع لأن الله أعطاني القَناعة”.”

قل: حنى رأسه خجلاً

ولا تقل: أحنى رأسه خجلاً

كتب خالد العبري: نستعمل في كلامنا “أحنى رأسه خجلاً” قاصدين أنه عطف رأسه الى الأسفل خجلاً وهذا خطأ. والصواب أن نقول “حنى رأسه خجلاً” باستعمال الفعل “حنى” لا “أحنى”، ذلكأنالعربمااستعملت”أحنى” المزيد في هذا المعنى بل استعملته لشدة الإشفاق والعطف والحب، تقول “أحنى الأب على أولاده” اي زادهم حباً وعطفاً وحناناً.

و “أحنى” صفة على وزن أفعل، تقول: هو أحنى وهي حنياء وحنواء. يقول ابن منظور في لسان العرب: “ورجل أحنى الظهر والمرأة حنياء وحنواء أي في ظهرها احديداب،وفلان أحنى الناس ضلوعاً عليك أي أشفقهم عليك” ويقول مروان بن أبي حفصة: (من الطويل)

وأجدى على الأيتام فيهم بغرفه           فكانمنالآباءأحنىوأعودا

فالصواب إذن أن نقول: “حنى رأسه أو جسمه أو ما إلى ذلك” لا أحنى. ومن هذا الباب أبيات للمخبل السعدي يصف بها حاله بعد أن أسن وكبر: (من الطويل)

وإني حنى ظهري خطوب تتابعت       فمشي ضعيف في الرجال دبيب

إذا قال صحبي يا ربيع ألا ترى      أرى الشخص كالشخصين وهو قريب.

فوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

16 تشرين الأول 2015

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image