قل ولا تقل / الحلقة الخامسة والستون

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

 

 

قل: وأفادت مصادر للميادين عن نشوب مشادة

ولا تقل: إلى ذلك أفادت مصادر للميادين عن نشوب مشادة

لا يمكن لمن يشاهد ويستمع للأخبار على قنوات التلفزة أن يفوته كل يوم وفي كل نشرة أخبار أن يسمع المذيعة تنهي جملة وتتوقف قليلاً لتستأنف فتقول “إلى ذلك شنت مجموعة تابعة لما يسمى ….”.

ولعمري لا أدري كيف يصر معدو الأخبار، ويبدو أنهم وفي كل القنوات متفقون على ذلك، هذا الإصرار على الإتيان بهذا الفحش من القول لغة ومعنى!

وأسرف معدو الأخبار في جميع القنوات حتى أصبحت شبه الجملة هذه “لازمة إخبارية” فكلما عجزت المذيعة عن العثور على كلمة تتدارك فيها الخبر فإنها تلجأ للقول “إلى ذلك”.

فليست هناك أية علاقة بما سبق حتى يمكن أن تشير شبه الجملة “الى ذلك” لتلك العلاقة فيتسقيم المعنى.

أما من حيث اللغة فإن شبه الجملة تتعلق بالفعل أو ما يشبه الفعل من مصدر أو اسم فاعل أو اسم مفعول أو اسم فعل أو صفة مشبهة، وليس في استعمال شبه الجملة “الى ذلك” المتكررة في الأخبار أي تعلق بفعل أو ما يشبه الفعل، ذلك لأن الخبر يبدأ بها.

أما ما يليها من فعل فلا علاقة له بشبه الجملة من حيث المعنى. وحتى إذا كانت للفعل اللاحق علاقة بشبه الجملة “الى ذلك”، فإن العرب لم تجز تعلق شبه الجملة بما يليها بل يجب أن يكون التعلق بما سبق أو بما هو محذوف وجوباً، مما يجعل القول بتعلق شبه الجملة بالفعل اللاحق مردوداً.

إن ابتداء الجملة العربية بالفعل سليم وفصيح. فلا حاجة لإتخاذ هذه “اللازمة” الجديدة من شبه جملة “الى ذلك” لإبتداء جملة جديدة في الخبر. إذ يكفي القول “أفادت مصادر…” دون الحاجة للقول “الى ذلك أفادت مصادر….”. فليس هناك ما تشير اليه شبه الجملة لربط الفعل بما سبق.

ولا أدري كيف دخلت هذه للعربية حيث تعودت أن أجد الدخيل للأخبار العربية في وسائل “التجهيل” العربية ترجمة حرفية لعبارة أو كلمة إنكليزية أو فرنسية حيث يترجم أغلب الإعلاميين العرب عن تلك اللغتين، كما فعلوا حين ترجموا العبارة البائسة “قُتل بدم بارد” أو كما يفعلون حين يبدؤون بشبه الجملة كما يفعل الإنكليز في القول: “صباح اليوم قام فلان…”. لكني هذه المرة لم أستطع أن أجد في الإنكليزية عبارة مثل “إلى ذلك” تبدأ بها.

فهل يكف معدو الأخبار عن تلويث أذواقنا وخدش أسماعنا ويتوقفون عن استعمال “الى ذلك” في غير موضعها حين لا يقدرون على العثور على كلمة أو عبارة لربط الخبر؟

قل: كانوا نحواً من خمسين رجلاً وزهاء خمسين رجلاً وقرابة خمسين رجلاً، وكان المبلغ نحواً من ثلاثين ديناراً

ولا تقل: كانوا حوالي خمسين رجلاً ولا كان المبلغ حوالي ثلاثين ديناراً

وكتب مصطفى جواد: “ذلك لأن الحوال والحوْل من ظروف المكان فلا تستعمل هذا الإستعمال، وإنما يقال “قعد حول فلان وحواليه” أي في الجهات المحيطة به، ومنه ماجاء في حديث الإستسقاء أنه (ص) قال “اللهم حوالينا ولا علينا”. قال المبارك ابن الأثير في كتابه النهاية بعد إيراده هذا الحديث: ” يقال: رأيت الناس حَوْله وحَواليه أي مطبقين به من جوانبه”.

لكن عبد الهادي بو طالب خالف مصطفى جواد فأجاز استعمال “حوالي” بهذا المعنى لكنه كتب حول عدم جواز اعرابها:

قل: جاء حَوالَيْ خمسةِ أشخاص

ولا تقل: جاء حواليُّ خمسةِ أشخاص

“حَوَالَيْ (بفتح الحاء واللام وتسكين الياء) منصوبة على الظرفية. وما بعدها يأتي مضافا إليها مجرورا. وتفيد الإحاطة بالشيء والالتفاف حوله. فنقول: “رأيت الناس حوالَيْه” أي محيطين به. و”حضر الاجتماعَ حوالَيْ مائة شخص”. و”نجح في المباراة حوالَيْ عشرةِ أفراد”. أي ما يقرب من العدد المذكور.

ولا تتغير صيغة حوالَيْ. ولا يجوز غيرُ ذلك كما يجري خطأً على بعض الألسنة والأقلام، حيث يُخضِعها البعض لحركات الإعراب مع أنها ظرف غير مُنْصَرِف فيقول: “جاء حواليُّ خمسةِ أشخاص”. و “لم تتسع القاعة إلا لحواليِّ مائة شخص”. وهكذا. وكل ذلك خطأ.

وجاء في بعض المعاجم اللغوية أنه توجد إلى جانب كلمة حوالَيْ كلمات “حَوَالَ” (بفتح الحاء والواو ونصب اللام آخر الكلمة)، وحَوْلَيْ (بفتح الحاء وسكون الواو ونصب اللام، وتسكين الياء) وأنهما تستعملان استعمال حَوالَيْ. والأحسن استعمال كلمة حَوالَيْ لشيوعها وانتشارها، ولكن مع تجنب الأخطاء التي تقع فيها.”

قل: حضر الاجتماعَ نحوُ ألفِ شخص

ولا تقل: حضر الاجتماعَ نحوَ ألفِ شخص

وكتب عبد الهادي بوطالب: “تفيد كلمة “نَحْو” نفسَ ما تفيده كلمة حَوَالَيْ عندما تدل على العدد القريب. فنقول: “حضر الاجتماعَ حوالَيْ مائةِ شخص أو نحوُ مائة شخص” أي ما يقارب هذا العدد زيادة أو نقصا. إلا أن كلمة نَحْو مُعْرَبة تعتريها حركات الإعراب الثلاثة: الضم والفتح والجر. ويضاف إليها بالجر ما بعدها. وهكذا نقول:” حضر الاجتماعَ نحوُ (فاعل مرفوع) ألفِ شخص”. و “يظهر لي أن نحوَ ألفِ شخص كانوا حاضرين”، أو “كانوا يُقدَّرون بنحوِ ألفِ شخص”.

وأصل “نَحْو” هو اتجاه: ” سار على هذا النحوِ”، أي على هذا الاتجاه. كما يقال:” نحا على نحوٍ لم يُسبَق إليه” ويُستعمَل ظرفا لا يتغير. فنقول: “سرت نحوَه”.

ويجمع “نَحْو” قياسا على أنحاء. ونقول: “أصبحت التلفزة تغطي أنحاء العالم”. و”جاء الناس إلى هذا الحفل من جميع أنحاء البلاد”. أو “من أنحاء كثيرة” (بالتنوين والكسر) لأنه اسم جنس مصروف.

والنَّحْو علم قواعد اللغة العربية. ومن يعرف هذا العلم ويصبح قادراً على تلقينه وتدريسه فهو نَحْوي (بسكون الحاء) كما هو الحال في كلمة نَحْو).

 وسمعت في المشرق العربي أساتذة محترمين ينطقون بالحاء مفتوحة ويقولون: نَحَوي وهو خطأ.”

قل: هذا عَرْضُ المستطيل

ولا تقل: هذا عُرضُ المستطيل

وكتب اين قتيبة: “عُرْضُ الشَّيْء” إحدى نَواحيه، و “عَرْضُ الشَّيء” خلافُ طولهِ.”

قل: نَزَلَ اليومَ مَطَرٌ كثيرٌ

ولا تقل: نَزَلَ اليومَ شِتاءٌ كثيرٌ

كتب الزبيدي: “ويقولون نزل اليوم شتاءٌ كثير يعنون المطر وهو يوم شاتٍ. والشتاء فصل من فصول السنة كالربيع والصيف ليس بواقع على المطر. فأما قولهم “يوم شاتٍ” فكقولهم “يوم صائفٌ” يريدون شدة الحرِّ وشدَّة البرد.” إنتهى

وما زال أهل الشام يقولون “شتت الدنيا” يريدون أنها أمطرت وهو خطأ موروث كما هو واضح. وقد يعني هذا أن ما يحدث من هدم للغتنا صعب إيقافه وإلا فكيف استمر هذا الخطأ الواضح لكل هذه القرون وما الذي سيمنع جهلة العرب اليوم من الإستمرار في استعمال كلمة “صمود” والتي لا معنى لها لقرون هذا إذا افترضنا أن العربية ستبقى لقرون!

قل: وَهَبتُ لفلان مالاً

ولا تقل: وَهَبْتُ فُلاناً مالاً

كتب الزبيدي: ” يقولون وهبتُ فُلاناً مالاً والصواب وهَبتُ لفلان مالاً ولا يتعدى “وَهَبَ” إلا بحرف جرٍّ. وإنما هي في ذلك بمنزلة: مَرَرْتُ لا يتعدى إلا بحرف جَرٍّ، هكذا ذكر سيبويه.” إنتهى

وكتب ابن منظور في اللسان: “ووَهَبْتُ له هِـبةً، ومَوهِـبَةً، ووَهْباً، ووَهَباً إِذا أَعْطَيْتَهُ. ووهَبَ اللّهُ له الشيءَ، فهو يَهَبُ هِـبةً”. وقال عز من قائل: “فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له اسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا” (مريم/49)

قل: كم عبداً لك

ولا تقل: كم عبيداً لك

وكتب الحريري: “ويقولون في الاستخبار: كم عبيدا لك مقايسة على ما يقال في الخبر: كم عبيد لك فيوهمون فيه، إذ الصواب أن يوحد المستخبر عنه بكم، فيقال: كم عبدا لك، لأن كم لما وضعت للعدد المبهم أعطيت حكم نوعي العدد، فجر الاسم الواقع بعدها في الخبر تشبيها بالعدد المجرور في الإضافة، ونصب في الاستفهام تشبيها بالعدد المنصوب على التمييز، فلهذه العلة جاز أن يقع بعد كم الخبرية الواحد والجمع، كما يقال: ثلاثة عبيد وألف عبد، ولزم في الاستفهامية أن يقع بعدها الواحد كما يقع بعد أحد عشر إلى تسعة وتسعين، وامتنع أن يقع بعدها الجمع لأن العدد بعدها منصوب على التمييز والمميز بعد المقادير لا يكون جمعا.”

 
قل: أَشُدُّ ضُفُر رأسي

ولا تقل: أَشُدُّ ضَفْرَ رأسي

وكتب المقدسي: “ويقولون: في حديثِ أُمِّ سَلَمَةَ: إنِّي امرأةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رأسي، بفتحِ الضادِ وإسكانِ الفاءِ. وصوابُهُ: ضُفُر رأسي، بضَمِّ الضادِ والفاءِ، وهو جَمْعُ ضَفِيرَةٍ، مِثْلُ سَفِينَةٍ وسُفُنٍ. فأمّا الضَّفْرُ فهو الفِعْلُ.”إنتهى

قل: هو رجل ثوري

ولا تقل: هو رجل ثوروي

وكتب اليازجي: “ويقولون رجل ثوروي على مثال فوضوي أي من أصحاب الثورة وهم الثوريون ولا وجه لزيادة هذه الواو قبل ياء النسبة، وكأنهم يتجافون عن أن يقولوا ثوري لئلا يلتبس بالمنسوب إلى الثور على أن الثور لو فطنوا مشتق من الثوران لأنه يثور أو لأنه يثير الأرض فالشركة حاصلة على كل حال”.

قل: هذه محاولة لجسِّ النَّبْضِ

ولا تقل: هذه محاولة لجسِّ النَّبَضِ

وكتب عبد الهادي بوطالب: “والصواب النَّبْض بسكون الباء لا بفتحها. سمعت في بعض الندوات بالمشرق العربي من يضع الفتحة فوق باء كلمة نبْض بدلا من السكون. وهو خطأ لا سند له. الفعل هو نَبَض يَنْبِض نَبْضا (بسكون الباء) ونَبَضاناً العِرْقُ إذا تحرك وضرب فهو نابضٌ (النَّبْض إذن مصدر). ويُطلَق على الحركة النابضة لفظ نَبْض فيقال: “جسَّ الطبيبُ نبْضَه” كما يسمى المَنْبِض. ونقول “قلبٌ نابضٌ بالحركة”، و “فكرٌ نابضٌ بالعطاء”، و “فلانٌ نبْضُ الفؤاد”، أي ذو ذكاء متوقِّد.”

قل: هوشت الأمر

ولا تقل: شوشت الأمر

وكتب الحريري: “ويقولون: شوشت الأمر وهو مشوش. والصواب أن يقال فيه: هوشته وهو مهوش، لأنه من الهوش، وهو اختلاط الشيء، ومنه الحديث: إياكم وهوشات الأسواق، وجاء في خبر آخر: من أصاب مالا من مهاوش أذهبه الله في نهابر، يعني بالمهاوش التخاليط وبالنهابر المهالك. وقد روي: من أصاب مالا من نهاوش وهو في معناه.”

 

قل: رصف الأرض بالبَلاطِ

ولا تقل: رصفَ الأرضَ بالبِلاطِ

وجاء في ملحق مفردات أوهام الخواص: “ومن أوهام بعض المتحذلقين من الخواص أنهم يفرقون بين البَلاط ( بفتح الباء ) والبِلاط ( بخفضها ) فيوهمون بأن الأول هو قصر الملك والثاني هو ما ترصف به الأرض من حجارة وآجر.

والصحيح أنه لا وجود للفظة بلاط في العربية، فكلا اللفظين ورد في جميع المعاجم بفتح الباء، ومنه قول أبي داود الإيادي:

ولقد كان والكتائب خضر ** وبلاط يشاد بالأجرون”

قل: هذا يومٌ هائلٌ

ولا تقل: هذا يومٌ مَهُولٌ

كتب الزبيدي: “يقولون يوم “مهولٌ” والصواب “هائل”. يوم هائل وأمر هائل، يقال هالني الشيء هَولاً فهو هائل.”

وأخذ خالد العبري قول الزبيدي دون الإشارة له وأضاف: يستعمل الكثير منا كلمة “مهول” للدلالة على الشيء المخيف المفزع، وهذا خطأ فمهول اسم مفعول من “هَوَلَ” وفي هذا الفعل خاصة وبقية الأفعال عامة، لا نستطيع أن نجعل اسم الفاعل كاسم المفعول في المعنى. فالصواب أن يقال “هائل” وهي اسم الفاعل من “هول”، فمن ذلك نقول: “هذا أمر هائل” اي مخيف ومفزع، و “هذا شخص مهول” أي كثير الخوف والفزع، وهو كما ترى غير المُخيف المُفزعِ.

والذي أوقع في هذا الخطأ: خروج كلمة “مهول” عن وزن مفعول فأصل مهول “مهوول” على وزن مفعول، فظن الذي يستعملها أنها كهائل في المعنى.

وقد حاول بعض علماء اللغة أن يصوبوا هذا الإستعمال، فهذا ابن منظور ينقل عن الأزهري قوله في تهذيب اللغة: “أَمر هائل ولا يقال مَهُول إِلا أَن الشاعر قد قال:

ومَهُولٍ، منَ المَناهِل وَحْشٍ             ذي عَراقيبَ آجِنٍ مِدْفانِ

 وتفسير المَهُول أَي فيه هَوْل، والعرب إِذا كان الشيء هُوَ لَهُ أَخرجوه على فاعِل مثل دارِع لذي الدِّرْع، وإِن كان فيه أَو عليه أَخرجوه على مَفْعول، كقولك مَجْنون فيه ذاك، ومَدْيون عليه ذاك.”

ونحن نرى أن ما ذهبوا اليه من تخريج صواب، لكن لا يلجأ اليه إلا عندما يُحوجنا المعنى الى ذلك، كما قالوا هم في مجنون، لكن هائلاً ومهولاً وضعهما مختلف، فالخطأ نشأ فيهما من اللبس بين اسم الفاعل واسم المفعول بعد حذف حرف العلة منه، فلذلك تجعل كل كلمة منهما في معناها الخاص بها، والله أعلم بالصواب.

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

14 كانون الثاني  2016

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image