جريمتا العراق الكبريان

مقدمة

أعتقد ان ما ساكتبه اليوم لا يختلف عليه كثيرون من أهلي العراقيين. فلا “بعثيوا” اليوم سيقولون لي مجددأ أني أدافع عن إيران أو أني ابث السم المجوسي كما كتبت لي احداهن! كما ان أعداء المشروع القومي العربي لن ينفعهم الإختباء خلف اتهامي باني أدافع عن صدام حسين وبينهم من لم يكتف بدعوة الصهيونية العالمية لغزو العراق واحتلاله بل ما زال يدافع عنها ويجد لها الأعذار، فحالهم هذا كحال بني أمية الذين ادعوا المطالبة بدم عثمان كلما أعيتهم الحيلة وفقدوا الحجة!

كما ان الإدعاء بأن كل ما جرى في العراق منذ عام 1990 سببه صدام حسين لا يختلف كثيراً عما قاله عمرو بن العاص لإبنه بعد معركة صفين. فحين قال له ولده: “أبت سمعت رسول الله يقول لعمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية” رد عليه عمرو قائلا: “اسكت يا بني ما نحن قتلناه إنما قتله الذين جاؤوا به”.

لماذا سكت العراقيون عن أكبر الجرائم

إن الإجابة على سؤال كهذا هو ان شعب العراق شأنه شأن أهل الأرض الآخرين يتوقع من حكامه أن يحموه. فاذا كان “الراعي عدو الغنم” فما لها من حيلة. وقد فشل حكام العراق منذ عام 1990 وحتى اليوم في الدفاع عن شعب العراق.

وحين يعجز الحكام يبدأ الضحايا في البحث عن حلول ترد الأذى أو تعوض الضرر أو تثور لكرامة مهدورة. فلماذا لم يقم العراقيون بهذا في أكبر الجرائم التي ارتكبت بحقهم؟

نعم إن الجرائم التي ارتكبت في العراق منذ عقود لا تعد ولا تحصى ولسنا بصدد الإحصاء لكنها جميعاً تختلف عن الجريميتن اللتين أكتب حولهما اليوم. فكل جريمة يمكن أن توصف بانها استهدفت شخصاً أو حزباً أو فئة وذلك دون التقليل من فداحتها، إلا هاتين فقد استهدفتا شعب العراق كله دون تمييز لأن الهدف الحقيقي من كل ما وقع كان وما زال خراب العراق وتفتيته!

جريمة الحصار

لم يسبق في تأريخ البشرية فرض حصار تام وشامل لمدة تجاوزت اثني عشر عاماً على بلد كما حدث في العراق. فهذا النوع من الحصار عرف في القرون الوسطى حين كانت تحاصر قلعة أو مدينة صغيرة. أما في العصر الحديث فلا سابق له. ولن أخوض في تفاصيل الحصار فان أهلي العراقيين الذين عاشوه يعرفونه. لكني لا بد لي أن أبين أن الحصار أوقع في العراق ضررا باطناً لا يبدو بسهولة للمراقب العادي.

ذلك لأن اثني عشر عاماً من الحرمان الذي أجبر استاذ الجامعة أن يترك مهنته ويتحول الى صاحب دكان أو العقيد الطيار أن يتحول الى سائق سيارة أجرة على سبيل المثال، مع إنه ليس من عيب في هاتين المهنتين أو غيرهما من مهن كسب العيش الشريف، أحدث شرخاً عميقاً في نفس كل انسان وإن تفاوتت درجة الشعور بالذل. وهذا أمر في غاية الخطورة لأنه يقود في أغلب الأحيان الى الإنتهاء باللامبالاة وهو الحال الذي كان عليه العراق عشية غزوه.

كما ان ذلك العوز حول العراق الذي كان فيه قبول الرشوة بل حتى عرضها يعد أمراً معيباً أن تصبح الرشوة فيه مقبولة تدريجياً حتى تحولت اليوم الى أمر طبيعي “فلكل شيء تسعيرة”. إن بلداً تسوده الرشوة محكوم عليه بالهلاك!

وليس قبول الرشوة سوى واحد من مؤشرات خراب الإنسان فهناك كثير يمكن الحديث فيه لكننا لا نريد أن نثير قضية نفسية أو فلسفية كي لا ينبري كل من قرأ مقالاً أو كتاباً وامتلك حاسوباً أن ينظر بيننا في “فرويد” أو “كانت”.

وقد قصر حكام العراق حين قعدوا متفرجين على الحصار بين عامي 1990 و 2003. ولعمري لا أدري ما الذي كانوا يتوقعونه من فارض الحصار الذي تمكن أن يمرر قراراً في مجلس الأمن يقضي به! وقد يقول قائل إني أكثر من ذكر أني نبهت لذلك منذ 1992 ودعوت حكومة العراق أن تقاضي لأن الحصار كان مناقضاً لقواعد القانون الدولي، وذكرتهم بأن حكومة نيكاراغوا كسبت دعوى ضد الولايات المتحدة إلا أنهم رفضوا لأن عدداً من الناصحين كانوا خونة وكافأهم أعراب الخليج لاحقاً على خيانتهم، وعدد آخر كانوا مجرد جهلة، وما أكثرهم والحمد لله في العراق!

إن حصار العراق كان وما زال جريمة كبرى لا يسقط الحق في الإدعاء بها بالتقادم. وهي جريمة على وفق قانون الإتحاد الأوربي مما يعني أن بامكان أي عراقي متضرر في أي بلد في الإتحاد الأوربي أن يقاضي تلك الدولة بجريمة الإبادة بحق شعب العراق.

وتتصدر بريطانيا قائمة دول الإتحاد الأوربي ليس فقط في تطبيق الحصار وانما لأنها كانت المبادر في عرض القرارات في مجلس الأمن والضغط من أجل تبنيها كما انها لعبت دوراً شريراً حقاً في “لجنة المقاطعة” والتي كانت بريطانيا فيها من أكثر الدول اعتراضاً على السماح بدخول أية مادة للعراق بحجة أنها يمكن أن تكون ثنائية الإستعمال ونحن نعرف أن هذا يعني كل مادة.

فهل ما زال بين العراقيين عشرات من الطيبين الذي يرون أن الثأر لكراماتهم وما لحقهم من ذل يدعوهم لمقاضاة بريطانيا؟

جريمة التلوث الإشعاعي والكيميائي

وكما شمل الحصار كل العراق بل استهدفه كله فكذلك استهدف التلوث كل العراق لأن من طبيعة انتشار المواد الكيمياوية والإشعاع انها لا تعرف حدوداً.

وحيث إن العراق كان مسرحاً وحقلا للتجارب في غياب الرادع أو الرقيب فأن احداً قد لا يستطيع أن يحيط بكل ما استعمل في العراق في العقود المتأخرة من عمره. ولن أحاول أن أعرض لكل ما اعتقده استعمل في العراق لكني سأخص مقالي في استعمال واحد ألا وهو اليورانيوم المنضب. وسبب ذلك سيتضح لاحقاً.

لكن أكثرما أثار استغرابي هو قلة ما يعرفه الناس عن استعمال اليورانيوم المنضب في العراق وأخطاره، وقد فوجئت أن عددا من اصدقائي المطلعين والعارفين لم يكونوا على دراية كافية بالأمر فكيف بالآخرين.

ولا أريد أن يتحول المقال لبحث علمي لكن لا بد من قليل من التوضيح كي يفهم المخاطب ما هو الضرر وكيف يمكن معالجته. إن اليورانيوم المنضب (ي م) هو فضلة المفاعلات النووية وهو لهذا يعد قليل الإشعاع في حالته الباردة وهو كذلك حيث إنه لو وضع على طاولة أمامك فإنه يكفي ورقة واحدة بينكما لتمنع الإشعاع من الوصول اليك.

وقد وجدت الصهيونية العالمية، وهي سيدة الجريمة، أن لديها خزيناً كبيرا من هذه الفضلات لا تعرف ماذا تفعل بها. فاهتدت الى أن أفضل طريق هو استعمالها في غلاف القذائف والطلقات، مما يحقق هدفين أولهما استغلال شدة احتراق اليورانيوم ومقدرته على صهر المعادن وثانيهما التخلص من (ي م) المتراكم. وحيث إنها لا تنفك في شن الحروب فان هذا الإستعمال كان منفذا جيدا للتخلص من النفايات والقائها في أراضي الآخرين.

فماذا يحدث حين يحترق (ي م)؟

إن (ي م) الذي كان مادة جامدة سرعان ما يتحول الى جزئيات صغيرة تتطاير في الجو ثم تهبط لتدخل في أجساد الناس عن طريق التنفس أو الأكل أو تهبط للتربة والماء فتختلط بها.

وما أن تستقر هذه الجزيئة في جسد الإنسان أو في الأرض أو الماء إلا وهي تشع ما يسمى علميا “جزئيات ألفا” وهذه هي في حقيقة الأمر ليست سوى ذرة غاز الهيليوم المتأيينة، أي التي فقدت الكترونيها. وقد قدر العلماء مؤخراً أن ضرر جزيئات ألفا على الجسم عندما يجري استنشاقها هو أكبر ألف مرة من ضرر “اشعاع كاما” المماثل، وهو الإشعاع الذي ينتج عن التفجير النووي.

إن ضرر “جزئيات الفا” على جسم الإنسان ليس موضع شك أو طعن إنما الخلاف على مقدار ذلك الضرر.

لكن ما حدث في العراق هو أن ارتفاعاً مفاجئاً لولادات مشوهة وأمراض السرطان بين الأطفال ظهرت في البصرة بعد سنوات من عدوان 1991 وفي الفلوجة في أعقاب خرابها عام 2004 وهي تشير جميعاً حسب آراء الأطباء الى وجود علاقة بين استعمال اليورانيوم في الحالتين بكثافة عالية وبين ظهور تشوه الخلقة والسرطان.

إن (ي م) دخل دائرة الغذاء حيث اختلط بالتربة والماء وأكلته الماشية فاصبح جزءاً من حياة الناس.

وكانت لي تجربة شخصية بالأمر حيث زرت العراق عام 2004 وطفت في مدينة البصرة وشاهدت الأمراض العجيبة والغربية في مستشفى الأطفال وقست بيدي مدى الإشعاع في المدينة وكان العداد يصرخ بيدي حين كنت أقترب من جذوع النخل في أبي الخصيب. أي اني لم أنقل ذلك عن أحد ولم أسمعه بل عشته بنفسي وألفت كتاباً بالإنكليزية في ذلك.

إن ظهور حالات تشوه وأمراض في بعض الناس وليس في جميعهم ليس مؤشراً على سلامة الحال إذ ان أحداً لا يعرف مقدار الضرر الذي يلحقه الإشعاع الذي استقر في أجساد الناس خصوصا في تاثيره على وحدات الوراثة (الجينات) وما يمكن نقله من ضرر من جيل لآخر.

إن ما أعتقد قد وقع هو أن العراق كله قد تلوث في حربي أبادة وأن الضرر دخل أصلاب الرجال وأرحام النساء وسيبقى معهم لملايين السنين لأن نصف عمر اليورانيوم هو خمسة آلاف مليون سنة.

إن تلويث العراق جريمة إبادة يجب أن يجيب عليها المعتدي.

إن واجب الإنسان، أي أنسان، أن يحمي نفسه وأهله فاذا كان الحاكم غير حريص على المواطن فإن على ذلك المواطن واجب حماية نفسه وأهله.

إن الهدف من مقاضاة المعتدي حول استعمال (ي م) هو:

  1. الزامه بكشف ما لديه من دراسات حول الضرر الذي يمكن أن يلحقه استعمال (ي م) وهناك أكثر من مؤشر على وجود هذه الدراسات.
  2. الزامه بعلاج وتعويض كل متضرر بشكل مباشر بسبب ذلك الإستعمال.
  3. الزامه بكشف مواضع القذائف وتنظيف المناطق التي لوثها بنفسه وعلى نفقته.

فاذا قال قائل إنه ليس هناك دليل على أن (ي م) يشكل خطراً على الناس فليقل لنا إذن: لماذا شرعت بريطانيا (والولايات المتحدة والإتحاد الأوربي) عشرات القوانين والنظم لتنظيم التعامل مع (ي م) ومعاقبة من يسيء في ذلك؟

أترى ما زال في العراق ناس يهتمون بانفسهم ومستقبل أبنائهم واحفادهم إن لم يكونوا مهتمين بكراماتهم التي سلبها الحصار؟

والسلام

عبد الحق العاني
لندن في 16 آب 2017

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image