قل ولا تقل / الحلقة الثامنة عشرة بعد المائة

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

 

قل: هذا وباء كورونا
ولا تقل: هذه جائحة كورونا

شاع استعمال عبارة “جائحة كورونا” وقيل إنها العبارة التي استعملتها منظمة الصحة العالمية. لكن هذه المنظمة، وإن كان فيها عرب، ليست مما يعول عليه في أمور اللغة العربية. بل إن المهم في ذلك هو اننا لا يمكن أن نبقى مقلدين للغرب في كل شيء حتى إذا احتجنا لكلمة طلبناها منه. ولست ضد التطور ولا ضد الإشتقاق والإبداع في استعمال العربية. لكني مع الدقة في استعمال الكلمة فاذا وجدت كلمة تؤدي المعنى فلماذا نعدل عنها طلباً لكلمة جديدة تدفع العربي للتفكر والحيرة أحياناً. فمن أين جاءت كلمة “جائحة”؟

فقد جاء في لسان العرب قول ابن منظور ناقلا عن العرب: “الجَوْحُ: الاستئصال، من الاجْتِياح. جاحَتهم السَّنة جَوحاً وجِياحة وأَجاحَتهم واجتاحَتْهم: استأْصلت أَموالهم، وهي تَجُوحُهم جَوْحاً وجِياحة، وهي سَنَة جائحة: جَدْبة…… الجائحة المصيبة تحلّ بالرجل في ماله فتَجْتاحُه كُلَّه؛ قال ابن شمل: أَصابتهم جائحة أَي سَنَة شديدة اجتاحت أَموالهم، فلم تَدَعْ لهم وَجاحاً …. قال: وأَصل الجائحة السَّنة الشديدة تجتاح الأموال، ثم يقال: اجتاح العَدُوُّ مالَ فلان إِذا أَتى عليه.”  

أما الجوهري فقد كتب في الصحاح: “الجَوْحُ: الاستِئصال. جُحْتُ الشَيءَ أَجوحُه.
ومنه الجائحَةُ، وهي الشِدَّةُ التي تَجْتاحُ المالَ من سَنَةٍ أو فِتْنَةٍ. يقال: جاحَتْهم الجائحة. واجْتاحَهُمْ. وجاحَ اللهُ مالَه وأَجاحه، بمعنىً، أي أهلَكَهُ بالجائحة.”

وهكذا فإن ما سمع عن العرب أن أصل الجوح والاجتياح هو استئصال المال حتى ان اجتياح العدو هو لأخذ المال.

أما كلمة وباء فقد عرفها العرب منذ القدم متعلقة بالمرض فقد جاء في الصحاح: “الوَبَأُ، يمدُّ ويقصر: مَرضٌ عامٌّ. وقد وَبِئَتِ الأرضُ تَوْبَأُ وَبَأً فهي مَوْبوءَةً، إذا كثُر مرضها.”

اما صاحب القاموس فقد كتب: “الوَبَأُ، مُحَرَّكَةً: الطَّاعُونُ، أو كُلُّ مَرَضٍ عامٍّ.. وَبِئَتِ الأرضُ وباءً ووباءَةً وأباءً وأباءَةً…. وهي وَبِئَةٌ ووَبِيئَةٌ ومُوبِئَةٌ: كِثيرَتُه”.

ولغة العرب سماعية قبل كل شيء وما سمع عن العرب هو الصحيح. ولم يصلنا أن العرب استعملت الجائحة في المرض كما لم تستعمل الوباء في المال. فما الذي يلجئنا لإستعمال الجائحة في المرض حين يفهم كل عربي عند سماع “الوباء” ماذا يراد.  فقل هذا وباء للمرض ولا تقل جائحة.

قل: هذا خَصْمٌ
ولا تقل: هذا خِصْمٌ

كنب الكسائي: ” ويقال: هذا خَصْمٌ وأنت خَصْمي بفتح الخاء، ولا يقال بكسر الخاء. قال الله عز وجل “هذان خصمان اختصموا في ربهم”. فاذا جمعتَ قلت: هم الخُصُم يا هذا.”

قل: هي الأُضْحِيَّة
ولا تقل: هي الضّحِيَّة

كتب الكسائي: “وتقول هي الأُضْحِيَّة ولا يقال الضّحِيَّة. وقد جاءت الأضحى، قال بعض الأعراب:

يا قاسمَ الخَيْراتِ يا مَأوَى الكَرَم

قد جَاءَتْ الأضحى وما لي من غَنَمْ

وكذلك هي: الأرجُوحَة والأرجُوزة والأنبُوبَة والأحْدُوثَة وكذلك أعْجُوبَة أيضاً. قال:

لا تَكُونُوا قَومَنَا أُحْدُوثَةً                  كَبَني طَسْمٍ وكالحَيِّ إرَمْ؟

وأضاف المحقق في الضحية: “ومع ان الأضحى قد تذكر على معنى اليوم، فان ما يقصده الكسائي هنا هو التأنيث وقد ساق البيت شاهداً على ذلك.”

قل: النماء طريق الى الفناء إن صح القول
ولا تقل: النماء طريق الى الفناء إذا صح القول

كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن الحرف “ان” هو الأصل في الشرط وانه استعمل للحدوث المحقق كقوله تعالى “قالوا إن يسرق فقد سرق له أخ من قبل”، فإنه كان في آرائهم سارقاً لوجود صح في رحله، ولأن “إذا” لظرفية الزمان وتحقيق الحدوث أو غلبة الحدوث، والشرط طارئ عليها، فليس شرطاً حقيقياً. ولذلك لا يجوز استعمالها في مكان “ان” كقولنا السابق “النماء طريق الى الفناء إذا صح القول” والصواب “إن صح القول” ومعنى “إذا صح القول” هو أن القول صحيح وليس هذا المراد.

ثم ان “إذا” تستعمل للظرفية التامة أيضاً، تقول “إذا طلعت الشمس خرج فلان الى العمل” و “إذا حل الشتاء كثرت الغيوم” و “إذا نمنا استرحنا”، فان الشمس لا بد من أن تطلع والشتاء لا بد من حلوله والنوم لا بد للإنسان منه، و “إذا” ظرف للمستقبل، وأصلها “إذ” للماضي فزدناها “ا” فصارت “إذا” ولتحقيق المستقبل تنون فيقال “إذن”. فقل: إن صدق ظني فإن الحرب بعيدة الوقوع” ولا تقل “إذا صدق ظني”.

قل: لا بد من أن يحصل هذا الأمر
ولا تفل: لا بد وأن يحصل ها الأمر

وكتب عبد الهادي بوطالب: “لا بد وَأَن في هذا التركيب أُقْحِمت الواو خطأ كذلك والصواب حذفها.

وفي شطر بيت شعري جاء: “لابُدَّ مما ليس منه بُدُّ”.

وبدلا من إقحام الواو بين لابدّ وبين أَنْ يحسن وضع حرف الجر “مِن” فنقول: “لابدَّ من أن يحصل هذا الأمر”.

ولا يردُّ عليَّ من يذهب باحثا عن الشذوذ أو غير المشهور فيقول: “إنه رُوي عن أبي سعيد السِّيرافي أنه قال: “تجئ الواو بمعنى مِنْ نقلا عن سيبويه”. فهذا كلام غير دقيق والنسبة فيه للمجهول.

إني أفضل أن نتجنب التنقيب المجهِد عن شاذّ اللغة لنثَبِّت الأخطاء، فهذا لا يخدم اللغة العربية بل يزيد تعلُّمَها واستيعابها تعقيدا أكثر مما هي عليه.”

قل: نقل فلان أثاثه
ولا تقل: نقل فلان رحله

كتب الحريري: “ويقولون: نقل فلان رحله، إشارة إلى أثاثه وآلاته وهو وهم ينافي الصواب، ويباين المقصود به في لغة الأعراب، إذ ليس في أجناس الآلات ما يسمونه رحلا إلا سرج البعير الذي عناه الشاعر بقوله:

مهما نسيت فما أنسى مقالتها ** يوم الرحيل لأتراب لها عرب

سكن قلبي بأيديكن إن له ** وهجا يفوق ضرام النار واللهب

ليت الفراق نعى روحي إلى بدني ** قبل التآلف بين الرحل والقتب

وإنما رحل الرجل منزله، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال، أي صلوا في منازلكم عند ابتلال أحذيتكم من المطر.

وقيل إن النعال هنا جمع نعل وهو ما صلب من الأرض. ومن كلام العرب للمعشب: الريع، وللخصيب الرحل: هو اخضر النعل. ومما أنشده ابن السكيت في أبيات معانيه:

نلقاهم وهم خضر النعال كأن ** قد نشرت كتفيها فيهم الضبع

لو صاب واديهم رسل فأترعه ** ما كان للضيف في تغميره طمع

أراد أنهم لو أخصبت أرضهم حتى سال واديهم لبنا، لما سقوا الضيف مذقة منه، والتغمير أقل الشرب، لاشتقاقه من الغمر وهو أصغر الأقداح.”

وكتب أبو الثناء الآلوسي: “(ويستعملون الرحل في الأثاث فيقولون نقل فلان رحله يعنون أثاثه، وهو وهم إذ ليس في أجناس الآلات ما يسمونه رحلا إلا سرج البعير، وإنما رحل الرجل منزله كما في خبر إذا ابتلت النعال) جمع نعل وهي الحذاء المعروف، وقيل هو ما صلب من الأرض أي إذا ابتل ذلك من المطر (فالصلوة في الرحال) أي المنازل دون المساجد وتعقب بأنه قد نص في الصحاح على أن الرحل المنزل، ومتاع الرجل وما يستصحبه من الآثاث وعليه قول متمم بن نويرة

كريم الثنا حلو الشمائل ماجد صبور على الضرآء مشترك الرحل

وقوله في بخيل:

سبط اليدين بما في رحل صاحبه جعد اليدين بما في رحله قطط

ومن شعر عبد المطلب رضي الله تعالى عنه يوم الفيل:

لا هم أن المرء يمنع رحله فامنع رحالك

قال ابن هشام في تذكرته رحله متاعه وبعضهم يلحن العامة في قولهم أخذت رحلي يريدون به المتاع، ويقول إنما الرحل للبعير كالسرج للفرس، والظاهر عندي خلافه لهذا البيت إذ لا وجه لتخصيص رحل البعير بالمنع في بيت عبد المطلب انتهى.

وقد فسر الرحل في قوله تعالى من وجد في رحله فهو جزاؤه بالأثاث لقوله سبحانه ثم استخرجها من وعاء أخيه، وهو في الاستعمال، وكتب اللغة أكثر من أن يحصر. وأشهر من أن ينكر.” إنتهى

فائدة: جاء ذكر الغمر في ما نقلته أعلاه عن الحريري فوجدت فائدة في اضافة ملاحظة عن غنى العربية مما كتبه الكسائي: “التِّبْن أعظم الأقداح يكاد يروي العشرين، ثم الصَّحْن مقارب له، ثم العُسّ يروي الثلاثة والأربعة، ثم القَدَح يروي الرجلين، ثم القَعْب يروي الواحد، ثم الغُمَر.”

قل: أظهر الرجل سخاء
ولا تقل: أظهر الرجل سخاوة

كتب الحنفي: “ومنها قولهم: الشباهة، فإنّ أرباب اللغة لم يذكروا غير الشَبَه، بفتحتين. وكذلك لم يذكروا لفظ الفراغة، وإنّ ما ذكروه: الفراغ والفروغ. وكذلك السّخاوة فإنّ مصدر سَخِيّ: سَخاءٌ وسَخىً وسُخُوَّةٌ وسُخُوٌّ.”

 

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image