قل ولا تقل / الحلقة الثانية والعشرون بعد المائة

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

قل: إن مماثلة ثقافة الغرب قد بلغت بعدد من الناس حد التبعية
ولا تقل: إن التماهي مع ثقافة الغرب قد بلغ ببعض الناس حدّ التبعية

كنت قد كتبت في الحلقة الثانية عشرة من السلسة حول التماهي والذي دفعني لإعادة هذا هو أن أحد اصدقائي أرسل لي بقصيدة استعمل فيها الفعل “تماهى” مما أحزنني كثيرا فوجدت من اللازم أعادة ما كتبت سابقا للتذكير عسى أن تنفع.

فقد شاع بين عدد من الكتاب في القرن العشرين إستعمال لفظة “التماهي” وعدد من الأفعال المشتقة منها مثل “تماهى”  مما لم يرد في العربية ليس لعجز عند العرب بل لعلة فلسفية كما سأحاول أن أبين لاحقاً.

ويبدو أن أول من أدخل هذه اللفظة للعربية هم عدد من دارسي علم النفس في الغرب والذين درسوا سيغموند فرويد وتأثروا به كما هو حال أغلب العرب الذين درسوا علم النفس. وحين عجزوا عن فهم الأصل فقد اضحوا يفكرون بلغة معلمهم وهذه هي سنة الغلبة والقهر التي أوجدها رب العزة في هذا الكون العجيب. وحين فكروا بلغة معلمهم فإنهم في الغالب لم يقدروا على نقل الفكرة بلسان عربي مبين. فترجموا، وأكثر من ترجموا لا علم لهم بالعربية، فجاؤا بغريب الإشتقاق ومغلوطه أحياناً. ثم أخذ بعض المتأدبين هذه اللفظة فاستعملوها في النقد والأدب ظناً منهم أنهم يحسنون صنعاً.

فما معنى هذه الكلمة وما هو المعنى العربي الصحيح والفصيح المرجو من الأصل اللاتيني؟

فقد كتب سليمان أبو عيسى مقالاً قصيراً تحت عنوان “معنى كلمة التماهي وأصلها اللغوي” فقال إن علماء النفس يعرفون التماهي على أنه:

“سَيْرُورَة سيكولوجية في بناء الشخصية، تبدأ من المحاكاة اللاشعورية، وتتلاحق بالتمثيل ثم الاجتياف (الاستدخال أو التَّقَمُّص) للنموذج”.

وأستميح القارئ الكريم عذراً أن محدودية فهمي لم تسعفني في فهم هذا التعريف الملتف على نفسه.

ثم حاول الكاتب بعد ذلك أن يرجع كلمة التماهي لأصل عربي حين عجز أن يجد لها جذراً أو ذكراً في أي من المعجمات العربية القديمة بل وحتى الحديثة منها. فاعتمد “أماه” ومعناها في تاج العروس في شرح القاموس فلم يكن أكثر توفيقاً من شرحه الأول للكلمة. فليست هنالك أية علاقة بين الجذر العربي وبين كلمة “التماهي” موضع البحث. ذلك أن الفعل “أماه” كما جاء في لسان العرب تعني “أنبط الماء”. وليس بين هذا وبين التماهي علاقة أو صلة. ذلك لأن اشتقاق الفعل “تماهي” يقضي أن يكون هناك فعل “ماهى” كما هو الحال في “نادى تنادى”، “عادى تعادى”. لكن العرب لم تعرف الفعل “ماهى”.

ويبدو لي ان كلمة “التماهي” تم اشتقاقها من كلمة “الماهية” وهي مصطلح فلسفي استعمله فلاسفة العرب حين درسوا الفلسفة اليونانية. ولا غبار على استعمال كلمة “الماهية” حيث إنه اشتقاق عربي سليم فقد ولدت كلمة “الماهية” عن كلمة “ماهو” كما ولدت “الهوية” عن “هو” و “الأنانية” عن “انا”.

وقد يسأل سائل إذا كنت لا تعترض على إشتقاق “الماهية ” من “ماهو” فلماذا إذن تعترض على إشتقاق “التماهي” من الماهية. وهو سؤال مشروع ومقبول. فلست ممن يدعو لجمود اللغة بل على العكس من ذلك لأني أعتقد أن من عبقرية اللغة العربية أنها لغة إشتقاقية وان روعتها تمكنها من إيجاد كلمة لكل جديد ينتج عن تطور أو إكتشاف أو حاجة. فقد عرف الفلاسفة العرب “الماهية” على أنها ” ما به الشّيء هو هو”. فهي أقرب ما تكون لجوهر الشيء وإن كان الفصل بينهما مهماً لعدد من الفلاسفة فقد بين الفارابي أن كل جوهر له ماهية ولكن ليس كل ماهية بجوهر.  وسواء أكانت الماهية جوهر الشيء أم أختلفت عنه قليلاً فإن ما يعنينا هنا هي أنها حقيقة الشيء وجوهره. وهذا هو السبب الذي منع ابن سينا والفارابي وكل من خاض في الموضوع الفلسلفي أن يستعمل الفعل “ماهى” أو “يماهي” للتعبير عن هذا التماثل أو التداخل وذلك “لاستحالة إمتزاج جوهرين”. فالذي يقول بالتماهي أو أن شيئاً يماهي شيئاً آخر فإنما يقول بجواز تداخل جوهرين وهذا ممتنع. وهذه هي علة عدم استعمال فلاسفة العرب الأولين لهذا الفعل أو للمصدر. فلو أنهم اعتقدوا بجواز ذلك لما ترددوا في ذلك  الاشتقاق. وقد يعذر كتاب القرن العشرين العرب إذا لم يحيطوا أو يدركوا حقيقة فلسفية كهذه فذلك مبلغهم من العلم لكن حبذا لو لم يكتبوا فيما يجهلون ويشوهوا اللغة ويفسدوا عقول الناس وأذواقهم!

وحسبنا في اللغة العربية ما يغني عن إشتقاق لا يجوز لعلة فلسفية. ذلك لأن ترجمة المصطلح اللاتيني الذي ذكره الكاتب (Identification)  نجدها في الجذر العربي (مثل) فقد جاء في مقاييس اللغة لأبن فارس قوله:

“الميم والثاء واللام أصلٌ صحيح يدلُّ على مناظرَة الشّيءِ للشيء”

وذكر ابن منظور في لسان العرب تحت باب “مثل”:

“مِثل: كلمةُ تَسْوِيَةٍ. يقال: هذا مِثْله ومَثَله كما يقال شِبْهه وشَبَهُه بمعنى؛ قال ابن بري: الفرق بين المُماثَلة والمُساواة أَن المُساواة تكون بين المختلِفين في الجِنْس والمتَّفقين، لأَن التَّساوِي هو التكافُؤُ في المِقْدار لا يزيد ولا ينقُص، وأَما المُماثَلة فلا تكون إِلا في المتفقين، تقول: نحوُه كنحوِه وفقهُه كفقهِه ولونُه كلونِه وطعمُه كطعمِه، فإِذا قيل: هو مِثْلة على الإِطلاق فمعناه أَنه يسدُّ مسدَّه، وإِذا قيل: هو مِثْلُه في كذا فهو مُساوٍ له في جهةٍ دون جهةٍ”.

وهكذا يتضح أن العربية الثرية أغنتنا في “المماثلة” العربية الأصيلة عن “التماهي” الدخيلة والتي لاجذر لها.

فقل: مماثلة ولا تقل: تماهي

قل: كَبَتَ اللهُ عَدٌوَّكَ
ولا تقل: أكْبَتَ اللهُ عَدٌوَّكَ

كتب الكسائي: “ويقال كَبَتَ اللهُ عَدٌوَّكَ بغير ألف. قال الله تعالى: “كبتوا كما كبت الذين من قبلهم”.

قل: كان أبَاً حنونا
ولا تقل: كان أبَّاً حنونا

وكتب الصفدي: “ويقولون: الأبُّ والأخُّ، يشددونهما. والصواب بالتخفيف، وذكر ابن دريد أن الكَلْبيَّ قال: يقال: أخٌّ، مثقل، وأخَّة، قال ابن دريد: وما أدري ما صحته.

قلت: الأبُ، مخففاً، أصله أبَوٌ على فَعَلٍ، مُحَرَّك العين لأنّ جمعه آباء، مثل قَفاً وأقفاء ورَحىً وأرحاء، والذاهب منه الواو، لأنك إذا ثنيته قُلتَ فيه: أبَوانِ، والجمع والتثنية يردانِ الأشياءَ الى أصولها، وبعض العرب يقول: أبانِ على النقص، وفي الإضافة أبَيْكَ، وعلى هذا قرأ بعضهم: “… إلهَ أبِيكَ إبراهيم وإسماعيلَ وإسحاقَ…”. وقال بعضهم يوماً لشهاب الدين القُوصي: أنتَ عندنا مثل الأبِّ، وشدّد باءَها، فقال: لا جَرَمَ أنّكم تأكلونني! يعني أنهم بهائم لكونهم شدّدوا الباء، والأبُّ هو التِّبن.”

قل: كلمت فلانً فاحتلط
ولا تقل: كلمت فلاناً فاختلط

كتب الحريري: “ويقولون: كلمت فلانا فاختلط، أي اختل رأيه وثار غضبه، فيحرفون فيه، لأن القول فاحتلط بالحاء المغفلة لاشتقاقه من الاحتلاط، وهو الغضب، ومنه المثل المضروب: إن أول العي الاحتلاط، وأسوأ القول الإفراط.”

وكتب أبو الثناء الآلوسي مضيفا: ويقولون (اختلط) بالخاء المعجمة يريدون بهِ غضب في قولهم كلمته فاختلط وهو تحريف (احتلط) بالحاء المهملة. لاشتقاقه من الاحتلاط وهو الغضب. ومنه المثل أو العي الاحتلاط. وأسوأ القول الإفراط. ورواه في الأساس أول العي الاحتلاط. وأوسع الرأي الاحتياط. وأول من قاله علقمة بن علاثة. والعي بكسر العين المهملة، وإنما كان أول العي الغضب؛ لأن من اشتد غضبه لا يقدر على إلزام خصمه غالبًا لشدة تهوره كما لا يخفى. واشتقاق (اختلط) بالمعجمة من (الاختلاط) وهو اختلال العقل. وتعقب بأن الغضبان لشدة غضبهُ ربما يعرض لهُ ذلك أو ما يشبهه فيجوز أن يكنى بالغضب عنه أو يتجوز مع أن صاحب القاموس ذكره وأثبته أيضًا فاندفع عدُّ ما ذكر من الأغلاظ، وبأن الاحتلاط من الاختلاط. ويقولون أدمعهم بفتح الميم في تأكيد نحو القوم. ويدخلون باء الجر عليه.

قل: لقيته لقية واحدة
ولا تقل: لقيته لقاة واحدة

كتب الحريري: ويقولون: لقيته لقاة واحدة، فيخطئون فيه، لأن العرب تقول: لقيته لقية ولقاءة ولقيانة، إذا أرادوا به المرة الواحدة، فإن أرادوا المصدر قالوا: لقيته لقاء ولقيا ولقيانا ولقى على وزن هدى، وعليه أنشد الكسائي:

وإن لقاها في المنام وغيره ** وإن لم تجد بالبذل عندي لرابح

وأنشدني بعض شيوخنا رحمهم الله لبعض العرب في الشيب:

 ولولا اتقاء الله ما قلت مرحبا ** لأول شيبات طلعن ولا أهلا

وقد زعموا حلما لقاك ولم أرد ** بحمد الذي أعطاك حلما ولا عقلا

وأضاف ابوالثناء الآلوسي فكتب: (ويقولون لقيته لقاه) بفتح اللام (واحدة فيخطئون) فيه (لأن العرب تقول لقيته لقية ولقاة ولقيانة) بضم اللام في الجميع (إذا أرادوا المرة) الواحدة (وإن أرادوا المصدر قالوا لقيته لقاء) بالكسر (ولقيانا ولقيا) بضم اللام فيهما وبتشديد الياء في الثاني (ولقى) كهدى ولم يجيء من المصادر على فعل بضم ففتح غيرهما وغير برى وتقى وبكى مقصورا (وعليه أنشد الكسائي

فإن لقاها في المنام وغيرهوإن لم تجد بالبذل عندي لرابح

 وصرح ابن السكيت بأن لقاة بالفتح مولدة ليست من كلام العرب، وتخطئة القائل لقاة واحدة ليست إلا من جهة الفتح لا من جهته وجهة ضم الواحدة فإنه للتأكيد كما في قوله تعالى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة:13] (وأنشد بعض شيوخ الحريري) صاحب الأصل (لبعض العرب في الشيب

ولولا اتقاء الله ما قلت مرحبالأول شيبات طلعن ولا أهلا
وقد زعموا حلما لقاك ولم أردبحمد الذي أعطاك حلما ولا عقلا

وهو معنى حسن، ومما يعجب فيما يضاهيه قول التهامي من شعراء العراق

وما كل حزني للشباب وإن هوىبه الشيب عن طود من الأنس شامخ
ولكن لقول الناس شيخ وليس ليعلى نائبات الدهر صبر المشايخ

ومن لطيف ما يحكى أن أبا العباس السرقسطي من المغاربة قال في هذا المعنى وظن أنه مما ابتدعه

وقالوا لي خضبت الشيب كيماتراك الغانيات من الشباب
فقلت لهم مرادي غير هذاولم يك ما حسبتم في حسابي
خشيت يراد مني عقل شيخولا يلفى فملت إلى التصابي

ثم ذهب إلى بعض المجالس فأنشده بعض شعرائهم لنفسه

ولست أرى شبابا بان عنييرد علىّ بهجته الخضاب
ولكني خشيت يراد منيعقول ذوي المشيب فما تصاب

فعجب من حسن الاتفاق وللخفاجي فيه

يقول الشيخ إن سودت وجهيخضابا أن لي وجه اعتذار
فإن الشيب قد قالوا وقاروأخشى أن أشيب بلا وقار

وأصله كما حكى عن أبي حيان التوحيدي في كتاب الحكم من كلام بعض الحكماء قيل له: ما بال فلان يخضب لحيته؟ فقال: مخافة أن يطالب بحنكة المشايخ أي إحكام التجارب إياهم.

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image