نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء العاشر

أزمة الانتماء عند العربي

حين سقطت بغداد بيد هولاكو عام 1258 بدأ العصر الذي دخلت فيه المنطقة قروناً من الجهالة والأمية ولولا القرآن لضاعت العربية  كذلك ولأصبحنا اليوم غير قادرين حتى على قراءة تراثنا. وحدث لعرب المغرب ما يشابه ذلك حين طرد العرب من أسبانيا بشكل نهائي عام 1492. وتوزع أهل المنطقة في دويلات متصارعة أحياناً تستمد شرعيتها من انتماء مذهبي أو عشائري. وبرغم كون التغيير السياسي وقع عند الغزو إلا ان الثقافة والفكر تتأخر في تأثرها عن التغيير السياسي. لذا فإن الفكر والثقافة في بغداد لم تتوقف يوم دخلها هولاكو بل كان الانحطاط تدريجياً.

وضعت الدولة العثمانية حداً للدويلات في خلقها الدولة القوية التي فرضت سيطرتها على المنطقة بشكل أو بآخر. واهتمت الدولة العثمانية بالغزو والتوسع والتطلع لبناء مجد لم يكن لها معتمدة على تراث الدولة العربية العباسية ومدعية وراثة الإسلام. غير إن هناك فارقاً كبيراً بين الدولة العباسية والدولة العثمانية، فحيث لم تكن الدولة العباسية بحاجة لإثبات ارتباطها بالقرآن لأن أداتها في التعبير عن الفكر كانت هي أداة القرآن، فإن الدولة العثمانية لم تتمكن من تحقيق ذلك الارتباط لأن اصرارها على استعمال اللغة التركية قطع علاقتها الحقيقية بالقرآن. ولن أدخل هنا في علة فشل الدولة العثمانية في خلق حضارة متممة لما أنتجه سكان الدولة العباسية، لكني لا بد أن أوضح ان عدم استعمال العربية في التعليم أدى الى أن تخرج الأمة العربية بعد قرون من الحكم العثماني بشيء واحد مشترك هو الجهل والأمية. فباستثناء المراكز الدينية وعدد من المواقع في سورية الكبرى ومصر فإن الأمية كانت هي السائدة في القرن التاسع عشر حين أوشكت الدولة العثمانية على الانتهاء.

هكذا خرج انساننا في بداية القرن العشرين وسمته الأولى الأمية والجهل. لكن السمة الثانية وهي الأهم كانت أزمة الإنسان العربي في عدم المقدرة على تحديد معنى الانتماء ولمن. وسمة عدم المقدرة على الانتماء معقدة في طبيعتها لأنها نتيجة لأكثر من سبب كما أنها في غاية الخطورة لأنها لعبت وما زالت الدور الرئيس في سلوك العربي مما أوصلنا لما نحن فيه. وقد يكون لبقية البداوة في نفس المدني دور في الانتماء لكن هذا ليس العامل الحاسم إنما هو ما أنتجه الإسلام من دولة ونظام دفع العربي للاختيار وللحيرة أحياناً. ذلك ان ابن منطقتنا لم يعرف في تأريخه السحيق مفهوم الدولة الوطنية التي أنتجها الصراع السياسي في أوربا وجعلها المقياس السائد في العالم بحكم هيمنته عليه عن طريق الغزو والاستعمار والاستيطان. فالعربي الذي عاش في الدول السامية التي سبقت الإسلام لم يعرف إلا دولة ممتدة تغطي المنطقة وخارجها. وحين لم يعش في ظل تلك الدولة فإنه كان تحت احتلال أجنبي روماني أو فارسي ليس مهماً إذا كان منتمياً له أم لم يكن. وحين ولد الإسلام فإن تغيراً جذرياً حدث ذلك ان الإسلام أعطى العربي فرصة أن ينتمي لدولة إسلامية بهوية عربية فلم يعد محتاجاً أن يختار بين الانتماء للإسلام أو الانتماء للعروبة فقد أصبحت عروبته والإسلام واحداً. هكذا انتمى العربي وساهم وابدع في ظل الهوية العربية التي فتح لها الإسلام الأبواب.

لكن هذا تغير حين أصبح العربي تحت حكم الدولة التركية التي ادعت انها تستمد شرعيتها من الإسلام. فقد اصبح أمام العربي أن يختار الانتماء للدولة التركية الإسلامية أو ألا ينتمي. ومن هنا بدأت الأزمة ذلك ان الانتماء للدولة التركية أفقده هويته العربية التي كانت جزءا لا يتجزأ من إسلامه. فالذين انتموا للدولة التركية أصبحوا أتراكاً وانتهى ارتباطهم بالعروبة وحين انسلخت الدولة التركية عن الإسلام فإنهم فقدوا كذلك ارتباطهم بالدين مع الأتراك. أما الذين انتموا للعروبة فقد أصبحوا خارج الحدث والتأريخ. وحين سقطت الدولة التركية خرج العربي منها أمياً جاهلاً لا يعرف لمن ينتمي. إن كارثة الحكم التركي للعرب لم تكتف في أنها منعته لغته وتراثه وإنما تركته أسوأ ضحايا حربها الأخيرة. فحين حصل الأتراك من مخلفات الدولة العثمانية على دولة تركية مستقله فإن العربي وجد نفسه يخرج من استعمار الأتراك الى استعمار الأوربيين.

وحين بدأ العربي بالتعلم فإنه وجد أمامه مثالاً للدولة أنتجته أوربا حلاً لحروبها الطاحنة التي استمرت لقرون والذي سمته “الدولة الوطنية”. لكن الحدث التأريخي الذي تبع الحرب العالمية الأولى أثبت لنا ان العربي لم يكن مقتنعا بالدولة الوطنية الأوربية التي جاء بها المستعمر وقسم منطقتنا كما يشاء على أساسها. فاقتطع ما شاء من العراق السياسي وقسم سورية الكبرى أربعة أقسام ثم خلق دويلات وهمية على طول ساحل الخليج ومكن الأعراب من مكة والمدينة.

فولدت أزمة حقيقية عند العربي فهو لم يكن راغباً للانتماء للدولة الوطنية التي صنعها له المحتل كما انه لم يكن أمامه خيار الدولة الإسلامية العربية التي عاش وأبدع سلفه في ظلها. وهكذا كانت الأحزاب السياسية التي ولدت في الدولة الوطنية الجديدة كلها قائمة على أسس الاختلاف في الانتماء.  فقد توزع المتعلم العربي المتطلع لحياة حرة جديدة بشكل اساس في ثلاثة محاور من الانتماء يمثل كل منها ما يؤمن به ذلك العربي من طريق للخلاص.

فالعربي الذي آمن بأن الإسلام هو الحل انتمى للحركات الدينية ونشط في العمل على تقويض الدولة الوطنية الني أنشأها المستعمر من أجل إقامة الدولة الإسلامية المرجوة. لكن هذا الطموح لإقامة الدولة الدينية كان مذهبيا في نتيجته لأنه برغم ان المسلمين في غالبيتهم على مذهب أهل السنة والجماعة إلا أن كون الشيعة المسلمين يشكلون نسبة عالية في منطقة الهلال الخصيب جعل المشروع الإسلامي في منطقتنا يتحول الى مشروعين إسلاميين سني وشيعي. وليس عسيرا على أي مراقب للحدث أن يدرك ما لعبه الخلاف السياسي بين الحركة الإسلامية السنية والحركة الإسلامية الشيعية في الصراع السياسي في العراق وسورية ولبنان واليمن وجزيرة العرب. إن حقيقة هذا الخلاف لم تغب عن العدو الذي احسن استعمالها لما يخدم مصلحته في تأجيج الصراع أو تسخيرها لمصلحته عن طريق اختراقه لتلك الحركات.

أما العربي الذي اعتقد أن دولته المرجوة يجب أن تكون أممية في إطار نظام اشتراكي عالمي موحد فإنه انتمى للحركة الشيوعية العالمية. لكن هذا العربي برغم كل اخلاصه اكتشف انه في حقيقة الأمر لم يمتلك الحرية في تقرير خطوته حيث إن حركته الأممية العالمية كانت محكومة في الغالب بقرار سياسي لا دور له في طريقة اتخاذه مما جعله عاجزاً في بعض الأحيان عن التعبير عن وطنيته ونظرته الإنسانية للحدث.

ومن عرب منطقتنا من اعتقد أن مستقبل الأمة لن يتحقق إلا في ظل الدولة القومية العربية الموحدة فانتمى لواحدة من الحركات القومية التي تمثلت في حركة البعث وحركة القوميين العرب وحركة الناصريين بشكل رئيس. إلا أن هؤلاء برغم إدعائهم الإيمان بمشروع واحد انتهوا يتقاتلون في ما بينهم ووصل حد خلافهم الطفولي في بعض الأحيان حول تقديم كلمة على أخرى في الشعار السياسي. ولم يفت على العدو استغلال جزء من تلك الطفولة السياسية في اختراق تلك الحركات القومية وتحريك بعضها ضد بعض.

إن القاسم المشترك بين الانتماءات الثلاثة الآنفة الذكر هو أنها جميعاً رفضت نظام الدولة الوطنية التي نصبها المستعمر وإن كان لكل حركة منها سبب يختلف عن الأخرى.

فما الذي حدث لهذه الانتماءات وما الذي أوصلتنا اليه.

هذا ما سأحاول بحثه في القادم..

فللحديث صلة…..

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image