نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء الثاني عشر

فماذا فعل الشيوعيون العرب؟

كتبت في الجزء السابق عما فعله الإسلاميون العرب في مواجه الدولة الوطنية التي أوجدها الاستعمار في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وأعرض اليوم فهمي لما فعله الشيوعيون العرب في تعاملهم مع الدولة الوطنية.

إن هناك فرقاً رئيساً بين المشروعين الإسلامي والقومي من جهة والمشروع الشيوعي من جهة ثانية من حيث إن المشروع الشيوعي لا يستمد أي جذر تأريخي من منطقتنا قبل القرن العشرين. فالحركة الشيوعية في العراق وبلاد الشام ومصر ولدت بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 على يد الثائر الروسي فلاديمير لينين الذي تبنى ما فهمه من مادية كارل ماركس فجاء بمشروع سياسي سماه ستالين لاحقا بـ “الماركسية اللينينية”.

فوجد عدد من شباب منطقتنا في الفترة ما بين الحربين في الفكر الشيوعي الجديد الذي جاء به لينين إجابة على العديد من المشاكل التي تلف منطقتنا. فهو يدعو للتحرر والسلم وتوزيع الأرض على زارعيها ونزع وسائل الإنتاج من يد الاستغلال. ومنطقتنا كانت تعاني من هذه فهي لم تكن حرة ولم تكن تمتلك قرار الحرب والسلم كما إن الأرض بيد الإقطاع المستبد. أما وسائل الإنتاج، إن وجدت، فهي بيد الأوربي المتحكم أو وكلائه. هكذا نشأت الحركة الشيوعية عندنا من شباب يطمح الى الحرية ويدعو للسلم والعدالة.

وهكذا يصبح الحديث عن الشيوعيين العرب أصعب من الحديث عن الإسلاميين أو القوميين لأنهم لم  يكونوا يمتلكون حرية القرار السياسي بتلك الدرجة التي كان يمتلكها زملاؤهم من القوميين على سبيل المثال. وهذا جعل مصيرهم أحياناً خارج حدود مقدرتهم لأن الحركة الشيوعية العالمية كانت تدير عملها على وفق توازنات وحسابات سياسية عالمية لم تكن تتفق دائماً مع أفق وتصور الشيوعيين العرب. وهذا يعني بالضرورة ان أية دراسة للحركة الشيوعية بين العرب يجب أن تأخذ في الحسبان الحدث السياسي العالمي عنصراً اساساً وهو أمر لم يدرسه أحد حتى اليوم حسب علمي. ولهذا فإن أي تقويم للحركة الشيوعية بين العرب لن يكون كاملاً ولا منصفاً في ظل هذا العجز عن النظر لها من خلال فهم الصراع الرئيس بين الإتحاد السوفيتي والمعسكر الرأسمالي الاستكباري في واشنطون خصوصاً لما بعد الحرب العالمية الثانية.

لكن هذه الملاحظة برغم أهميتها لا تمنع من تحديد عدد من الملامح الإيجابية والسلبية في مسيرة الحركة الشيوعية. فقد لعب الشيوعيون العرب دوراً مهماً في دعم حركات التحرر في الوطن العربي وتثوير الأرض في جزء منها كما أثروا بشكل كبير في التنوير للتخلص من الإقطاع. وبرغم إن مشروع التخلص من الإقطاع لم يأت ببديل للنظام الإقطاعي مما قاد لفشل البديل إلا انه كان سليماً في المبدأ والهدف.

لكن الشيوعيين  العرب كانوا يعانون من مشكلة كبيرة من الفراغ الفكري. فلو استثنينا عدداً محدداً من المتعلمين منهم فإن الجمع الأكبر منهم لم يعرفوا من الماركسية سوى اسمها وحتى المتعلم الذي يدعي انه ماركسي كان لا يحيط حقيقة بالفكر الماركسي وذلك لسببين أولهما هو ان الماركسية فكر معقد وفلسفة صعبة الفهم وثانيهما هو ان ما يوجد في العربية عنها محدود جداً مما يجعل الإلمام بها صعب المنال. وانتهى الأمر بأن ما توفر عن الماركسية كان ما تترجمه موسكو مما ينسجم مع مشروعها في التثقيف اللينيني. إن الحقيقة هي أن الذين فهموا الماركسية من بين العرب لم يكونوا في الغالب شيوعيين.

إن حقيقة جهل الشيوعيين العرب بالفكر الماركسي قادت لتخبط سياسي أساء للحركة الشيوعية العالمية ولفهم ما أراده كارل ماركس. حيث إنه غاب عن الشيوعيين العرب ان كارل ماركس حين كتب فإنه كان يعكس فهمه لحال أوربا في القرن التاسع عشر ووضع العامل بعد الثورة الصناعية وفائض القيمة الذي نتج عن استغلال اليد العاملة وفساد الكنيسة التي كانت تهيمن على حياة الناس. وهذا حال لا ينطبق على أرض العرب في القرن العشرين. فليست هناك ثورة صناعية في أرض العرب ولا تشكل الطبقة العاملة قوة لها أي حساب. أما المؤسسة الدينية في أرض العرب فهي تختلف عن المؤسسة الدينية في ألمانيا في القرن التاسع عشر. لذا فإن شعار “يا عمال العالم اتحدوا” كان يعني شيئاً في أوربا لكنه  لا وزن له في السودان مثلاً حيث لم تكن هناك طبقة عاملة. أما شعار “الدين افيون الشعوب” الذي أراد به كارل ماركس طغيان الكنيسة في أوربا وقتها ولم يرد به الهجوم على الدين كمفهوم فكري فلا ينطبق على أرض العرب. وكان جهلاً كبيراً في فهم التأريخ أن نقله عدد من الشيوعيين العرب ونادوا به في وقت لم يكن ليخدم مشروعهم بل كان في واقع الحال جهلاً بطبيعة الإسلام السائد بين الناس وجهلاً بالفرق بين الإسلام كدين في أرض العرب وبين الكنيسة كمؤسسة سياسية في أوربا في القرن التاسع عشر.

ولا بد أن يتحمل الشيوعيون العرب مسؤولية هذا الخلل ذلك إن موسكو لم تكن تشترط عليهم موقفاً كهذا من الدين بل هم الذين اختاروا تأليب مجتمع محافظ عليهم دون حجة أو سبب.

ولم ينجح الشيوعيون العرب في تطبيق المقاربة الماركسية لملكية وسائل الإنتاج في المجتمع العربي الذي لم يكن مجتمعاً صناعياً. وحين وقع الخلاف بين موسكو وبكين فإنهم انحازوا الى موسكو برغم ان تجربتهم كانت أقرب في واقعها الى التجربة الصينية التي قامت على أيدي الفلاحين الذين كانوا أغلب شعب الصين والذين هم في واقع الحال أغلب الجتمع العربي في القرن العشرين.

لكن الخلل الأكبر الذي وقع فيه الشيوعيون العرب كان في عدم مقدرتهم على فهم معنى الصراع العربي الصهيوني. ذلك انهم تصوروا فعلاً ان شعار موسكو حول تحقيق الأممية لم يكن مجرد مشروع سياسي وانما كان في الحقيقة مبدأ تسعى موسكو لتحقيقه. لذا فإن قبولهم للوجود الصهيوني في أرض العرب في دولة إسرائيل تماشياً مع قرار موسكو بالاعتراف بالدولة الصهيونية، أملاً في أن تكون نموذجاً للدولة الاشتراكية، كان خطئاً كبيراً لم يتمكن الشيوعيون العرب تجاوزه حتى اليوم.

ولن أدخل في حوار حول من فعل ماذا وكيف ولماذا. إذ ان الحقيقة القائمة والتي صدقها الناس هي ان الشيوعية العالمية بما فيها الشيوعيون العرب قبلوا بالدولة الاستيطانية الصهيونية. والتأريخ كما سبق وأكدنا هو ليس بالضرورة ما يقع فعلاً وانما هو ما يصدق الناس انه قد وقع.

إن قبول الصهيونية مشروعاً استيطانياً في أرض العرب سلب الشيوعيين العرب مشروعيتهم في الإدعاء بالتصدي للاستعمار وحق الفلسطيني في تقرير مصيره ورفض الهيمنة الأوربية على أرض العرب.

كما ان قيام اسرائيل وموقف موسكو منها بل الاعتراف بها في ساعتين من اعلانها وضع الشيوعيين العرب أمام امتحان عسير وجد عدد منهم صعوبة في اجتيازه ذلك لأن الشيوعي الوطني أدرك أن قرار موسكو لا يتفق مع وجوده ومستقبله. لكنه من جانب آخر كان ما زال يطمح في أن تكون موسكو رائدة لمشروعه العالمي في التحرر والاستقلال.

إن نهاية الإتحاد السوفيتي وموت الحركة الشيوعية أنهى هذا الاختبار أمام من تبقى من الشيوعيين العرب، والذين بقوا هم قلة ولا شك. لكن الشيوعي العربي ما زال غير قادر على أن يوفق بين موقفه من الاستيطان الصهيوني الرأسمالي  الذي أقرته له موسكو وبين موقفه من التطلع لوطن خال من الهيمنة الأوربية والاستغلال الرأسمالي.

فما الذي فعله القوميون من العرب؟

هذا ما سأحاول بحثه في القادم..

فللحديث صلة…..

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image