نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء الثالث عشر

ماذا فعل القوميون من العرب – 1 ؟

 

إن الحديث عما فعله القوميون من العرب أصعب وأطول وأعقد من الحديث عما فعله الإسلاميون أو الشيوعيون لسبب واضح هو إن القوميين من العرب لعبوا دوراً أساساً ليس فقط في الصراع السياسي في المنطقة وإنما في حكم جزء كبير منها والتاثير في الباقي بشكل مباشر أو غير مباشر. فتكون دراسة تأريخ المشروع القومي العربي بذلك دراسة لتأريخ المنطقة بشكل أدق.

لا بد أن نذكر أنفسنا بأن نظام الدولة الوطنية السائد اليوم في العالم هو نظام سياسي حديث نسبياً لم يكن معروفاً قبل ثلاثة قرون حين كان العالم كله يعيش في ظل امبراطوريات أو دول كبرى ليست قائمة على قاعدة مشتركة. ثم اعتقد الأوربيون أنهم سوف يقللون من شر الحروب المستمرة بينهم إذا ما أقاموا الدولة على أسس وطنية وهكذا كان. لكن هذه التجرية إذا كانت قد نجحت في أوربا الى حد ما فإنها لم تكن موفقة حين طبقت في آسيا وكانت كارثية النتائج حين طبقت في القارة الأفريقية.

وهكذا كان عالمنا العربي جزءً من حقيقة العالم في القرن  التاسع عشر ومطلع القرن العشرين جزءً من الإمبراطورية العثمانية والتي كانت قد قاربت نهايتها كما تنتهي أية امبراطورية. لم يكن للعثمانيين هدف سوى الإبقاء على سلطتهم وما كان ذلك ليتم دون التجاوز على حقوق الشعوب الخاضعة لهم. وأدرك شباب الأتراك قبل غيرهم الخطر الذي ينتظرهم عند الإنهيار المقبل. فانتظموا في حركة سياسية جديدة تهدف للحفاظ على الهوية التركية حتى إذا كان ذلك على حساب الشعوب الأخرى، فكانت حركة “تركيا الفتاة”.

ولم يكن الشباب العربي في بلاد الشام بعيدين عن حركة الشباب التركي وطموحها وأهدافها كما انهم لم يكونوا بعيدين عن نشوء المفهوم الوطني في أوربا والذي بنيت عليه الدولة الوطنية. وقد كان لبلاد الشام ظرف خاص ميزها عن بقية أرض العرب وذلك للوجود الكثيف للنصارى العرب في أرض الشام من الذين احتكوا لفترة طويلة بالأوربيين، وهو الإحتكاك الذي كان جزءً متمماً لنشاط الترجمة والنشر والطباعة. كانت هذه من الأسباب الرئيسة التي أنتجت الشعور القومي العربي الأول في بلاد الشام الكبرى أن قبل أن يقسمها الأوربيون بعد الحرب العالمية الأولى الى دويلات اليوم.

وكان نصارى بلاد الشام في طليعة المنادين بوحدة مصير العرب وتبعهم عدد من المسلمين المتنورين والذين ملوا من النفاق العثماني في الإدعاء بحماية الإسلام. فولدت حركة فكرية تدعو للتفكر في وحدة مصير هذي الأرض. فتبلورت عن هذه الحركة فكرتان احداهما تؤمن بوحدة الهلال الخصيب الجغرافي بما في ذلك جزيرة قبرص، وهذه أنتجت الحزب القومي السوري لاحقاً. والفكرة الثانية تؤمن بوحدة كل أرض العرب بما فيها شمال أفريقيا وعلى الأخص مصر، وهذه مثلها لاحقا حزب البعث العربي الإشتراكي والذي حكم العراق وما زال يحكم في سورية.

إن أهم ظاهرة عامة مشتركة للمشروع القومي العربي والتي تشترك فيها الحركات الشيوعية والإسلامية في أرض العرب هي تميز قاداتها بالسذاجة بل وحتى بالطفولة السياسية في التعامل أحياناً مع الحدث المحلي أو الدولي. ولا عجب في ذلك حيث كان القادة السياسيون في الغالب من الشباب من طلاب الجامعات أو من المهنيين الذين تخرجوا فيها حديثاً. وثبتت تلك السذاجة حين اختلف واقتتل القوميون السوريون مع البعثيين في سورية لأن كلاًّ منهما كان يعتقد أن مشروعه يعيق الآخر. ولم يدرك الإثنان ان أياً من مشروعيهما يعيقه الأجنبي الجالس على الحدود والذي قسم البلاد في الأساس.

وتبينت تلك السذاجة السياسية حين اقتتل القوميون في العراق مع الشيوعيين لأن القوميين كانوا يريدون الوحدة الفورية مع مصر بينما دعى الشيوعيون العراقيون الى اتحاد مع مصر. ولم يدرك الإثنان أن ربع إتحاد مع مصر كان هدفاً طموحاً لو سمح به الأعداء في تلك المرحلة الأولية من مسيرة حركة التحرر العربي.

وما أن أزيح الشيوعيون بدموية عن المسرح السياسي حتى قادت الطفولة السياسية الى صراع ما بين القومين من العرب أنفسهم. فقد اعتقد البعثيون أنهم أقدر من جمال عبد الناصر على قيادة المشروع  القومي العربي. أما عبد الناصر فقد اعتقد أن أي حزب قومي من خارج مصر لن ينفع. وأخطأ الإثنان. فلا جمال عبد الناصر استطاع أن يبعث في مصر شعوراً قومياً يحمي مشروعه بعده فما أن رحل حتى قلب أنور السادات النظام وأوقفه على راسه منذ ذلك اليوم فتعاقب خدام الصهيونية على حكم مصر. أما البعثيون فقد فشلوا في فهم الإنسان العربي المعاصر في حدود دولهم مما ادى الى الفشل في قيادته برغم أي نجاح في الحكم يمكن أن يكون قد تحقق.

إن الحديث عن فشل قيادة حركة ما في فهم التأريخ أو في التعامل مع اي حدث ليس مما يدعو بالضرورة الى الحكم بخلل في المبادئ التي تقوم عليها تلك الحركة. ذلك أن فشل قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي في التعامل مع النظام الرأسمالي الصهيوني ليس إدانة للمبادئ اللينينة الماركسية التي قامت عليها الدولة. وكذلك الحال بالنسبة للمشروع القومي العربي فإن فشل القيادات في إدارة الصراع مع الصهيونية لا يصح أن يقود للقول بفشل المشروع القومي العربي، وهو الشعار الذي اقام الصهاينة عليه حملتهم الموسومة بؤساً بـ (الربيع العربي).

إن النظرة الموضوعية التي تبحث عن فهم ما حدث وما يمكن أن يحدث يجب أن تدرس المبادئ بمعزل عن السلوك وأدوات تطبيقها. وقد لا يكون هذا سهلاً في كل الأحوال لكنه أمر لا بد منه إذا أريد فهم الحال على حقيقته.

إن هذه السلسلة ليست دراسة تأريخية سياسية لمرحلة مضطربة ومعقدة من تأريخ منطقتنا حيث إن محاولة كهذه لا يمكن أن تتم إلا في عدة كتب وكل مقال في هذه السلسلة قد يحتاج لفصل من كتاب. إنما الهدف من هذه السلسلة هو تحديد معالم مهمة في مسيرة مائة عام من أجل بعث الرغبة للبحث والجدل لفهمها وذلك بهدف تعلم الأخطاء إن أمكن ووضع تصور لما نطمح أن يكون عليه مستقبل الأمة.

فما هي المعالم الرئيسة لما فعله القوميون من العرب؟

هذا ما سأحاول بحثه في القادم..

فللحديث صلة…..

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image