نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء السادس عشر

أزمة المتعلم العربي – 1
كنت قد استعرضت في الأجزاء السابقة كيف انتهت الأمة العربية لما هي عليه اليوم وذلك عن طريق عرض موجز للحركات السياسية الفاعلة في المنطقة في القرن العشرين.
وأريد اليوم أن أكتب عما أطمح أن يكون السبيل لهذه الأمة في المستقبل.

ولا بد للمرء الذي يفكر في ما سيكون عليه حاله في المستقبل أن ينظر بعناية لما هو عليه. وليس من السهل للمرء أن يلقي نظرة ذاتية إلا على نفسه ومن هم على شاكلته. إذ ليس من السهل علي أن أفهم حقا ما يحس به العامل أو الفلاح لأني لم أعش تجربة أيا منهما. ولا شك عندي أن المتعلمين العرب في القرن العشرين الذي ادعوا تمثيلهم للطبقة الكادحة من العمال والفلاحين لم يكونوا موفقين في ذلك. لذلك جاءت التجربة السياسية في إدعاء تمثيلهم تجربة خائبة كما شهدنا.

لست ممن يقولون بأن الجماهير تصنع التأريخ، لم أكن كذلك يوما ولا أعتقد أني سأكون كذلك غدا. ذلك اني أعرف أن الجماهير تقاد ولا تقود وان الذي يصنع التأريخ في كل مجتمع هم النخبة واذا لم تكن تلك النخبة من الحكماء كما أراد لها أفلاطون فإنها ولا شك من المتعلمين في كل مجتمع
وحين كانت منطقتنا تحت الحكم العثماني فإن التعليم كان محصورا بمن أرادت لهم الدولة العثمانية أن يتعلموا وهذا كان يعني انه لم يكن هناك حقا تعليم لعرب المنطقة. وحين انتهى الحكم العثماني فإن المنطقة انتقلت من هيمنة الأتراك الى هيمنة الأوربيين. ولم يكن المستعمرون الجدد أحرص علينا من سابقيهم من العثمانيين، فالحال كما وصفه المتنبي قبل ألف عام:
وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ
وَماتُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَمُ

لكن الأوربيين أدركوا أنه لا بد من التعليم فأنشأوا نظاما قائماً على التعليم بلسانهم وليس بلسان العرب، فأوجدوا البذرة الأولى لأزمة المتعلم العربي القائمة اليوم.
ذلك أن من يتعلم بلسان غيره يمكن أن يصبح منتجاً ولكنه من الصعب أن يصبح مبدعاً. وقد يبدو هذا القول غريبا فقد دأب المتعلم العربي على الفخر والإعتزاز في أنه تعلم في جامعة أوربية معينة وأصبح الناس يعدون التعلم في هذه الجامعات معيار الثقافة ولهم العذر في كل ذلك لأنهم لا يعرفون غير ذلك ولم يكن بين أيديهم غيره.
لكن الحقيقة غير ذلك. فالعقل البشري لا يعمل بهذه الآلية البسيطة. إن من يتعلم بلسان غيره يفكر بذلك اللسان ومن يفكر بذلك اللسان فإن مقدرته على الإنتاج والإبداع تصبح محددة وقاصرة. ولا أريد أن أدخل في موضوع فلسفي هنا لأني على يقين أن عشرات من الذين تعلموا مثلي سوف يطلعون علي بأفكار غربية تقول خلاف ذلك. وهم يتجاهلون بأن الإحتجاج بما هو مطعون فيه ليس ممكنا. لكني سوف أكتفي بشواهد عملية من التأريخ والواقع تدل وتسند ما ذهبت اليه من أن من يتعلم بلسان غيره يتغرب عن قومه ولا يقدم جديدا بل يصبح ناقلا ومقلدا.
والشاهد الأول نأخذه من تأريخ العرب. فليس هناك خلاف بين الناس أن العرب أنتجوا وأبدعوا وقدموا الكثير للفكر الإنساني أثناء ازدهار الدولة العباسية في بغداد والدولة الأموية في الأندلس. والعلة التي تتميز به تلك الفترة هي إن الإبداع كان باللغة العربية حيث كان العالم يجتهد ويفكر بالعربية وليس بالهندية أو اليونانية وإن كان قد أخذ عن الأقوام الأخرى ما قدمته، لكنه نقلها للعربية وفكر بالعربية فأبدع بها. وحيث إن التعليم كان كله بلسان القوم فقد تمكن القوم من اشتقاق المصطلح الذي يتطلبه البحث للتقدم والإستمرار. فلم يكن أحدهم يجهد في أن يفكر بما تعنيه كلمة يونانية كي يعبر عن حالها حين تنتقل من محل لها في الطبيعة الى محل ثان إذ كان يقول بذلك بالفكر العربي الذي ينساب دون عناء أومشقة.
ولا أعتقد أن أحدا يمكن أن يقول لنا ماذا كان حال الحسن بن الهيثم لو أنه اضطر ان يفكر باليونانية!
ويدعم هذه النظرة عن قيمة التعليم بلسان القوم وما تؤدي اليه من ابداع وتطور شاهدان من العصر الحديث لا بد من التوقف عندهم في كل من إسرائيل وفلنده.
لا تعد اللغة العبرية من اللغات الحية بل الأصح انها كانت من اللغات الميتة حيث لم يكتب بها شيء لقرون. لكن اليهود الذين استوطنوا أرض فلسطين منذ بداية القرن العشرين وأقاموا دولتهم في منتصفه، في خزي العرب وجهلهم وتفرقهم، أحيوا تلك اللغة وحولوها الى لغة تعليم وثقافة. وبرغم أن اليهود الغزاة جاؤا من كل أطرف الأرض بألسنة مختلفة، غلبت عليه لغتهم في اوربا الشرقية (لغة اليدش)، إلا أنهم تمكنوا من تأسيس نظام تعليمي باللغة العبرية الجديدة وعلموا ثلاثة أجيال من ابنائهم بها. فلم يعد اليهودي يفكر باللغة البولندية أو الإنكيزية أو العربية التي تكلم بها أبوه أو جده، بل غدا يتعلم ويفكر وينتج بالعبرية. وقد يقول قائل إن عددا كبيرا من مستوطني اسرائيل جاؤها متعلمين، وهو كذلك لكن الذين ولدوا في فلسطين وتعلموا وتخرجوا في جامعات اسرائيل لم يعرفوا غير العبرية وتعلموا في كل مراحل الدراسة بها. وهم ليسوا بشراً مختلفين عن أقرانهم في الدول العربية المجاورة لكنهم سبقوا طلاب وخريجي جامعاتنا في الإنتاج فلا يكان يخلو مؤتمر علمي في العالم اليوم إلا وفيه بحث مشارك من إحدى الجامعات الإسرائيلية، فكم من الجامعات العربية تشارك في أي مؤتمر؟ ولا أعني بهذا أن تقوم جامعة في جزيرة العرب باستدعاء أوربي أو أمركي كي يقوم ببحث لقاء مبلغ مغر من المال ثم تلحق اسم أحد منتسبيها بالبحث لتدعي أنه من نتاجها، فالكل يعرف زيف هذا!
إن انتاج وابداع اليهودي الصهيوني في فلسطين اليوم يقوم اساساً بسبب أن الجيل الجديد ممن ولدوا وتعلموا في فلسطين المحتلة يفكرون بلسانهم العبري فيبدعون بينما يضيع جيرانهم العربي وهو يفكر بالإنكليزية أوالفرنسية أو الروسية التي لا يحس بها بل يجهد أن يفهم جذورها وهو يحاول أن يتصور أفكاره العلمية.
وقد تكون فلندة، وهي المثال الثاني الذي أسوقه، أقرب لدعم نظرتي لعلة تغرب المتعلم العربي وأزمته من مثال أسرائيل وان كان ذلك المثال حجة قوية. ولا يعرف العرب الكثير عن فلندة فهي بلد حديث بمفهوم الدول. فلم يكن الشعب الفلندي سوى قبائل صغيرة تتكلم لساناً واحدا وتسكن تلك الأرض في أقصى شمال الأرض. ولم تقم لهم دولة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى حين وفى لينين بعهده لشيوعي فلندة الذي دعمو الثورة البلشفية بمنحها الإستقلال عن روسيا. وكان الفلنديون قبل حكم الروس تحت حكم ملك السويد لقرون.
ولم تدع قلندة برغم غاباتها الواسعة أنها كانت تصنع الورق في القرن العاشر الميلادي كما تفخر بغداد. ولم تدون اللغة الفلندية إلا في القرن الخامس عشر الميلادي، حيث كانت لغة التعليم للفلنديين سويدية أو روسية أو ألمانية حتى لما بعد الإستقلال.
وخرحت فلندة من الحرب العالمية الثانية جريحة مخربة حيث دفعت ثمنا باهضا لوقوفها مع ألمانيا. لكن الذي تغير في فلندة هو أنها أدركت في وقت مقارب لولادة اسرائيل قيمة التعليم بلسانها فاسست نظاما تعليميا متينا في كل مراحله بلسانها والذي كان ينطق يه عدد يقل عن أربعة ملايين شخص، وليس ثلاثمائة مليون كما هو حال العرب، وترجمت العلوم للغتها وعلمت أبناءها بها. فتخرجت ثلاثة أجيال من الفلنديين يقرأون ويفكرون بالفلندية. واصبحت فلندة الصغيرة مضرب الأمثال لنجاح التعليم وتوافدت عليها وفود العالم تدرس تجربتها في التعليم. وانتقلت فلندة التي لا تمتلك أيا من مصارد الطاقة، من فحم أو نفط أو غاز، الى طليعة دول أوربا الغربية في الإنتاج والعلم والتقنية. ويكفي شاهد ذلك أن أول هاتف نقال في العالم صدر عن شركة “نوكيا” الفلندية على أيدي المبدعين الفلنديين الذين درسوا الهندسة بلسانهم!
حدث كل ذلك ليس لأن شعب فلندة اكتشف فجأة أنه يختلف عن باقي شعوب أهل الأرض، ولكن لأنهم علموا أبنائهم بلسانهم فأبدعوا لأنهم ستروا عن التغرب الفكري تماما كما حدث للعرب في الدولة العباسية التي سترت العرب.
إن الدرس الذي يمكن استخلاصه من هذا هو أن أية أمة لا تتعلم بلسانها سوف لن تتمكن من التقكير بلسانها، وأية أمة لا تفكر بلسانها لا يمكن لها أن تأتي بجديد لأن الناقل قل ما يبدع.
وهكذا فإن المتعلم العربي في أزمة الضياع الفكري لا يقدر أن يأتي بجديد. وهذا الضياع الفكري أنتج بعدا جديدا في ضعف أو انعدام الإنتماء ليس فقط لمفهوم الأمة بل الإنتماء لأي شيء.

هذا ما سأحاول بحثه في القادم..
فللحديث صلة…..
عبد الحق العاني
لندن في 28 تشرين الثاني 2021

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image