نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء التاسع عشر

إلى أين: ما هي البداية؟

كنت قد دونت في الأجزاء السابقة ملاحظاتي حول واقع العرب اليوم وهي ليست سوى نظرة سريعة وعابرة تهدف لتحديد مواضع الخلل ولا شك تدفع للتفكر. لكني أود أن أنتقل لمرحلة ثانية أبني فيها، كما أعتقد، ما يجب علينا أن نسلكه من أجل الخروج من دوامة الضياع والجهل والعبودية. فحين اقول: إلى أين! فإني أعني إلى اين أريد أن نسير.

وحتى لا نضيع في التعاريف وندخل في دوامة خلاف حول المفاهيم أود أن أذكر بما سبق لي وقلته إني حين أتحدث عن العرب فإني أعني بهم الفوم الذي يعيشون على أرض تمتد من سواحل المحيط الهندي في أقصي شبه جزيرة العرب حتى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب والذين هم اقوام من قبائل عربية أصيلة ومن أقوام وشعوب مختلفة اختلطوا معهم وتزاوجوا فاستعربوا، تجمعهم لغة واحدة ويشتركون في ثقافة وتأريخ فيه ترابط أكثر مما هو موجود في أكثر أقوام أهل الأرض اليوم. ولا أغالي اذا قلت إن ما يجمع بين مواطن من مدينة (مسندم) في عمان ومواطن من مدينة (سجلماسة) في المغرب هو أكبر وأمتن مما يجمع مواطنا في مدينة لوس أنجلس الأمريكية مع مواطن من مدينة ميامي الأمريكية، خصوصا إذا امتحنت هيمنة الدولار على العالم. لقد قضيت أربعين عاما في بريطانيا وما زلت أُذكَّر كل يوم بأني غريب، وحين نزلت مسقط أحسست في الأسبوع الأول كأني عدت لبيتي!

نحن لم نختر أعداءنا إنما أعداؤنا هم الذين اختارونا. ولن أبحث في هذا فقد سبق وكتبت فيه لكني ربما أعرض لشيء من ذلك في سياق هذا البحث. إلا ان المهم هو أن أعداءنا أشركونا في عدائهم حتى ونحن في فرقتنا، اي ان أعداءنا اثبتوا وحدتنا في عدوانهم علينا جميعاً للهدف ذاته. وقد عرف أعداؤنا خطورة تقاربنا على مشروعهم منذ زمن طويل سبق حتى اكتشاف النفط فقد كتب السفير البريطاني في القاهرة الى لندن أن أخطر ما يهدد مصالح بريطانيا هو الوحدة بين مصر وسورية وذلك إثر ارسال محمد علي ابنه على رأس جيش الى سورية. وكتب السفير البريطاني في بيروت لاحقاً الى وزارة الخارجية في لندن أن مطالبة عبد الكريم قاسم بالكويت تشكل خطرا حقيقيا على مصالح بريطانيا اذا تحققت حيث إنها ستقود للمطالبة بكل ساحل الخليج الذي كان يشكل جزءا من الحدود السياسية للعراق قبل الحرب العالمية الأولى التي رسم بعدها البريطانييون الخريطة السياسية الجديدة لمنطقتنا.

وقد تعلمت من التأريخ أن كل ما يرفضه عدوي لا بد أن يكون فيه صالحي. لذا فإن مجرد محاولة الصهيونية العالمية منذ مائتي عام منع أي تقارب بين العرب دليل لي على أن تقارب العرب وتوحدهم لا بد أن يكون فيه خيرهم. وقد أثبت إنفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة هذه الحقيقة.

ولا يحتاج الأمر الى جهد وعناء كي يدرك العربي أن قوته وكرامته لا بد ستصان في وحدته. فلو توقفنا لحظة وتخيلنا الأرض الناطقة بالعربية اليوم بلدا موحدا يمتد جسرا وممرا مائيا بين ثلاث قارات رئيسة في العالم ويمتلك طاقات بشرية هائلة وخزين طاقة، تحت الأرض وفي الشمس، ومعادن غير محصاة وثروة زراعية تكفيه طعاما أكان يمكن لأحد من خارجه أن يستبيحه ويحتله ويعبث بمقدراته ويسرق ثرواته كما حدث ويحدث اليوم؟ إن الجواب على هذا لا يحتاج لتفكر كبير.

والحديث عن وحدة العرب الذين يعيشون على هذه الأرض ليس حديث عاطفة ولا حنيناُ لتأريخ غابر، حيث إني لست ممن يعتز بالغزو والعدوان، لكنه ضرورة حتمية للوجود والديمومة. فلو نظرنا الى العالم الذي نعيش فيه لوجدناه يتألف من دول عظمى وكتل اقتصادية كبرى وأحلاف عسكرية جبارة. وهذه هي القوى الفاعلة فيه. فكيف يمكن لنا أن نعيش فيه إذا كانت كل مجموعة من الناس تعتقد أنها قادرة على أن تحفظ نفسها لمجرد أنهم خدعوا بأن سموا دولة وأعطوا علما وفتحوا لهم مطارا دوليا. هذه أوربا شاهد حي على ما أقول. فما أن خرجت دولة مثل لثوينيامن الإتحاد السوفيتي حتى سارعت للإنضمام للإتحاد الأوربي والذي يمثل تجمعا وحدويا اقتصاديا وسياسيا، وعسكريا إلى حد كبير، بين دول أوربية يربطها القليل من الوشائج إذا ما قيست بما بين العرب. ولم يكن دافع هذه الدولة الصغيرة (أقل من ثلاثة ملايين نسمة) سوى الإحتماء بما يعطيها الأمن والديمومة في عالم يسير في طريق الصراع بين عمالقة. ترى ماذا ستفعل دولة من بضع مئات من الألوف على ساحل الخليج، ولو اشترت كل الدفاعات الجوية والطائرات المسيرة، اذا وقع صدام دولي في أرض العرب؟

لا شك ان هناك من يقول إن أحداً ممن استوطنوا ساحل الخليج منذ مائة عام أو ما شابه ذلك لا يوافق على أن يشاركه مواطن من مصر أو لبنان في وارد نفطه. وهو اعتراض مفهموم لكونه يتعلق بالحاجة الآنية والخوف من ضياع أو هدر ما أصبح يعده ذلك الحريص حقاً له. لكن هذا يمكن الرد عليه من بابين، أولهما هو أن نقبل مبدأ يقول إن ما فوق أرض العرب هو لكل العرب اينما وجدوا خصوصا إذا كان ذلك الوجود عرضيا ومتعلقا بأين كانت قوافل البدو حين اكتشف حقل النفط أو الغاز فجيء بها كي تراقبه وتحرسه. فقريش نزحت من أرض العراق واستوطنت الحجاز وغدا لها حق في كل أرض العرب. أليست هذه السابقة التأريخية تبيح لأي عربي أن يستوطن جزيرة العرب إذا شاء، كما يحق لأي من أهل الجزيرة أن يسيح في أرض العرب؟ هذه هي القاعدة التي يجب أن تبنى عليها كل سياسات المستقبل في أرض العرب.

أما الباب الثاني فهو إفهام المعترض الحريص على ماله في أن مهمته في الحياة ليست للحفاظ على ما لديه للسنين التي له على الأرض وإنما هي لعمارة الأرض وصلاح أهلها كما أمره تعالى وهذه لا يمكن أن تقوم إلا إذا عمل من أجل المستقبل وهذا المستقبل هو للذين سيأتون بعده، وسيكون في مصلحتهم أن يتوحد الناس على هذه الأرض ليبنوا لهم بلدا آمنا. ولنأخذ عبرة من التأريخ. فقد كان سكان ولاية تكساس الأمريكية غير راغبين أن يشاركهم أهل ولايات الشمال بما لديهم من خيرات فثاروا وقاتلوا وقتلوا وانتهى الأمر بتوحيد أمريكا. ثم أصبحت أمريكا من أكبر اقتصادات العالم وأوسعها قوة وجبروتا وهيمنة وذلك بعد أن تزاوج خير ولاية مثل تكساس مع طاقات وانتاج أهل ولايات الشمال مثل مشيغان. إن الأمم لا تبني دولها بمنظار الساعة القائمة وإنما تحسب أين ستكون غدا. واذا أدرك العربي أنه قد يجد مزاحمة اليوم في جزء من حياته بسبب هذه الوحدة فهو لا بد أن يدرك أن في غد ستكون هذه الأرض للجميع فيها خير أبنائه وأحفاده. هكذا فقط يمكن أن ينظر للمستقبل وهكذا فقط يصنع التأريخ الواعد.

إن الخطوة الأولى لبناء مستقبل الأمة التي تعيش هذه الأرض هو تثبيت وتنمية مفهوم الوحدة بين أبنائها برغم أي اختلاف بينهم في الأصل أو العرق أو الدين أو المذهب ما دام الفرد على يقين بانتمائه للقوم بلسانهم وجذرهم الفكري وانه يطمع أن يعيش بينهم ويشاركهم في الصعب والسهل ويدفع عنهم السوء اذا اقتضى. وهذه الحقيقة يجب أن تكون قاعدة للتربية وفي سياسة أية دولة. وحين أقول إنها يجب أن تكون قاعدة للتربية فإن تلك التربية تبدأ في البيت اي ان المهمة هي مهمة كل مواطن تبدأ بتثبيت هذا المبدأ في بيته. وأكاد ألمح عددا كبيرا يهز رأسه وهو يوافقني في هذه الفكرة لكني أخشى أنه يكاد العمل بهذه الفكرة أن يكون معدوماً. لنتوقف قليلا عند ما تفعله حكومات دول مجلس التعاون الخليجي. ذلك ان هذه الأخيرة، والتي شكلتها بريطانيا وأدارتها لعقود، اتبعت سياسات أرادت فيها بريطانيا الإبقاء على حال شبه جزيرة العرب في وضع يمكنها من التحكم بها دون أن يكلفها ذلك أساطيل وقوات وقواعد. فهذه الدول تعتمد اسلوب الكفالة وهو اسلوب في جوهره انتهاك لكرامة الإنسان لا يليق بأحد أن يسكت عنه، وهو أسوء ما يكون حين يطبق على العربي القادم من خارج جزيرة العرب. فهو إضافة لكونه نفي لهوية الإنسان المكفول، أيا كانت المحاولة لإضفاء نوع من التسويغ البائس عليه، يثبت بشكل خطير أن هذا الإنسان العربي لا حق له في هذه الأرض وهذا ينفي عروبة جزيرة العرب أو ينفي حق ذلك العربي القادم في أن يعيش في أرض العرب. وكأن اسلوب الكفالة المذل ليس كافيا فقد قررت دول مجلس التعاون الخليجي، والتي تذكرنا دوما باهمية التأكيد على عروبة الخليج كما هو الحال في عروبة أبو موسى والطنبينوكأن العروبة هي حفنة تراب وليس انتماءا، في أنه حيث يجوز للأوربي أن يزورها بدون سمة فإن العربي لا يقدر أن يزورها إلا بالحصول على سمة مسبقة والتي لن يحصل عليها إلا بشق الأنفس!

ولا بد من الإستدراك هنا للتذكير بان العربي عومل بشكل مختلف في الدول الإشتراكية المتسبدة الظالمةمثل مصر والعراق وسورية حيث لم يجد أية مشكلة أن يعيش فيها أو يعمل أو يمتلك بينما لم يعامل كإنسان في الدول الحرة الرأسماليةمثل دول التعاون الخليجي.

لم أكن أتوقع سياسة مختلفة من حكام مجلس التعاون الخليجي فقد جيء بهم لهذا الهدف وهم مأمورون ينفذون ما عليهم. لكن الذي أحزنني كثيرا أني لم أشهد بعد خمسين عاما من التعلم بين سكان جزيرة العرب والخليج جيلا يدعو لتغيير السياسة بحق العرب الوافدين مما يدعونني للأمل بأن هذا الجيل يتطلع لبناء أمة. ام أن تعليمه لم ينقذه من التغرب البدوي حتى يدرك أنه لا مستقبل له سوى في أمة قوية موحدة. إن مستقل الأمة لن يتغير بآمال في الصدورمهما كانت مخلصة وما لم يولد جيل جديد يحمل هذا الشعور بإن الآباء الذين يدعون الإيمان بالعروبة في الجزيرة والخليج يكونون قد فشلوا في تربية الأبناء كما يراد لهم.

لا بد أن الرد علي سيأتي من أكثر من مصدر فكيف يمكن التعامل مع تلك الردود؟

هذا ما سأحاول بحثه في القادم..

فللحديث صلة…..

عبد الحق العاني

لندن في 30 كانون الأول 2021

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image