نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء العشرون

إلى أين: كيف تتحد الأمة؟ -1

كنت قد وعدت في الجزء السابق أن أرد على الإعتراضات التي من السهل توقعها ضد أية دعوة لوحدة الأمة. لكني وجدت من الضروري أن أتوسع قليلا في أمر ذكرته في الجزء السابق لكنه كان موجزا لحد جعله يغيب في معناه عن عدد من القراء. فقد كتبت: “إلا ان المهم هو أن أعداءنا أشركونا في عدائهم حتى ونحن في فرقتنا، اي ان أعداءنا اثبتوا وحدتنا في عدوانهم علينا جميعاً للهدف ذاته.”

إن الذي أردته من هذه العبارة هو أن أعداءنا كانوا ومازالوا يتعاملون معنا كأنا أمة واحدة رغم تفرقنا وسعيهم الدؤوب والمثمر للإبقاء على هذا التفرق. وقد تمثلت هذه القناعة لدى أعدائنا في إشراكنا في هدف العدون علينا. فالصهيونية، خلافا لما يقوله عدد من المتعلمين العرب والمتغربين بالكامل، ليست حريصة على بناء نظام سياسي في أي بلد عربي على اسس من الكرامة والعدالة والحرية والضمان للحقوق الأساس. إذ لو كانت كذلك لأعترضت على النظم السياسية التي أقامتها في شبه جزيرة العرب والخليج، فهذه الدول نموذج واضح، أمام العالم أجمع، للإستبداد والظلم وانتهاك الكرامة والحقوق. وحين أقول هذا فإني لا أعني أن غيرها من الدول العربية التي ادعت التقدمية أو القومية ليست دولاً ظالمة أو مستبدة. إن الذي أقوله هو أن عداء الصهيونية لهذه الدول الأخيرة له سبب غير انعدام الحرية وغياب حقوق الإنسان. وسبب هذا العداء هو ان تلك الدول رفضت الهيمنة الصهيونية السياسية والإقتصادية بينما رضيت دول مجلس التعاون الخليجي، على سبيل المثال، بتلك الهيمنة. ودعت تلك الدول الرافضة للهيمنة الصهيونية لوحدة العرب وتحقيق حد أدنى من العدالة الإجتماعية، سواء أنجحت في هذا أم لم تنجح. وليس من سبب آخر لعداء الصهيونية لهذه الدول! وشواهد ذلك حية أمام العيان، وأهم تلك الشواهد ما يلي:

غزت الصهيونية مصر عام 1956 لأنها تجرأت فأممت قناة السويس، الممر المائي في قلب مصر، وبدأت ببناء جيش صغير ودعت لوحدة العرب. ورفضت الإستيطان الصهيوني في أرض العرب.

فرضت الصهيونية حصار الإبادة على شعب العراق لمدة 12 عاماً لأن العراق، الذي أمم نفطه وبدأ ببناء دولة، تجرأ وكسر القواعد التي وضعتها الصهيونية في عدم المساس بالحدود التي رسمتها للدول المخترعة. ولأن العراق رفض الإستيطان الصهيوني في أرض العرب، ودعى لوحدة العرب.

غزت الصهيونية العراق واحتلته وخربته وتركته مجتمعا استهلاكيا تافها تتنازعه عصابات من اللصوص والأميين والخونة بعد أن فشل الحصار في كسر إرادته. وحولته لحليف للصهيونية راضيا بالإستيطان الصهيوني في أرض العرب. ثم أعادت نفطه لإيدي الرأسمالية الصهيونية.

جمعت شذاذ الأرض ومال الخليج وسلاح الصهيونية وزجت بالكل لتحويل سورية الجميلة، الخندق الأخير في رفض الإستيطان الصهيوني والمنادي الأول بوحدة العرب، الى خربة بعد أن رفض رئيسها القبول بشروط الصهيونية التي عرضت عليه.

عملت الصهيونية من خلال القبلية المتخلفة لتحويل ليبيا، الآمنة والمتطورة والرافضة للإستيطان الصهيوني في أرض العرب والداعية لوحدتهم، الى افتعال خلاف ثم طورته لغزو وخراب حَوَّل ليبيا الى دويلات قبلية مناطقية فاسدة ومتنازعة يستلب خيراتها النظام الرأسمالي الصهيوني الذي تقر كل الدويلات الليبية اليوم له بالولاء.

فلو افترضنا أن هذه الدول الأربع كانت مستبدة وظالمة كالنظام السعودي، فما الذي جمعها لتكون هدفا للعدوان والخراب بينما تتمتع السعودية ليس فقط بالدعم الصهيوني المطلق بل بالتستر على الجرائم؟ إن المشترك الوحيد بين هذه الدول التي استهدفت هو أنها رفضت الهيمنة الصهيونية وسعت لبناء دول منتجة، وليست أسواق استهلاك فحسب، قادرة أو قد تقدر على التطور وترغب في أن تمتلك القرار لتحديد نظامها السياسي والإقتصادي خارج النظام الرأسمالي. لكنها قبل كل هذا كانت تنادي بوحدة العرب. ولم يكن مهما للصهيونية أن هذه الدول لم تكن دائماً جادة في سعيها للوحدة لكن مجرد إبقاء الشعار حيا كان مصدر قلق للصهيونية إذ ان الهدف كان وما زال هو الإمعان في تمزيق هذه الأمة.

وهكذا فإن الصهيونية تعاملت معنا كأننا عدو واحد منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل. فنحن أمة واحدة في حساب الصهيونية. فهل يعقل أن يعدنا عدونا واحدا ونسعى نحن للتفرق؟

فما هي الردود المعروفة والمتوقعة على الدعوة لوحدة العرب؟

إن الرد هو أن الحدود المرسومة اليوم للدول العربية وضعها مجلس الأمن ولا يمكن مساسها أو التعرض لها لأنها تخل بالشرعية الدولية! وهذا ليس اعتراض افتراضي جئت به من اجل الجدل أو الحوار. بل هو اللغة السائدة في حديث الساسة العرب والإعلام منذ عقود. وأصلها غسيل الدماغ الذي نجح فيه الإعلام الصهيوني ايما نجاح خصوصاً في التاثير على المتعلم العربي. ذلك أن هذا الرد مشحون بالتناقض والنقص والوهم.

وأول وهم هو القول بقدسية الحدود التي رسمها الغزاة في منطقتنا. فليس هناك قدسية لأية حدود في العالم سواء أكانت تلك التي رسمها الغزاة أو حتى التي نشأت بشكل طبيعي أو تدريجي. فهذه أوربا التي يحلو لها أن ترسم حدود دول العالم خارجها ليس فيها دولة ما عدا بريطانيا لم تتغير حدودها ربما أكثر من مرة خلال قرنين. فيوغسلافيا التي رسمت حدودها بعد الحرب العالمية الثانية هي اليوم دول. وبولندة، الخبيرة في صنع المشاكل، تغيرت حدودها ثلاث مرات خلال قرن أما أوكرانيا، عصا الإبتزار الصهيوني اليوم، فلم تكن موجودة بحدودها اليوم قبل الحرب العالمية الأولى والتي عدلها خروتشوف ثانية بعد الحرب العالمية الثانية. هذه أمثلة محدودة من أوربا وليست تغطية شاملة.

أما آسيا فلا أعرف دولة لم تتغير حدودها خلال القرن الماضي. فالقارة الهندية اليوم هي دول. والصين ليست صين القرن التاسع عشر. واليابان فقدت الكثير من أرضها. وحال كوريا وفيتنام لا يحتاج لكثير من التوضيح.

لكن أهم مؤشر في موضوع الحدود وعدم قدسيتها هي القارة الأفريقية. حيث إن أفريقيا لم تكن فيها، جنوب الحصراء، دول ذات حدود عشية الحرب العالمية الثانية، فكل دولها خلقتها ورسمت حدودها دول الإستعمار الأوربي بطريقة عشوائية، سواء أكان ذلك عن عمد أم لا، وتركتها ارضاً لصراعات ناجمة عن تقسيم غير متجانس مع التوزيع القبلي الذي كان سائدا في القارة.

بعد كل هذا الإيجاز في عرض انعدام اي معنى لقدسية الحدود في العالم من حيث إنها كانت وما زالت تتغير في كل أركان الأرض، لماذا يراد منا أن نقبل أن الحدود التي رسمها الأوربي مقدسة لا يمكن تغييرها؟ أي لماذا يمكن أن تتغير حدود الدول خارج منطقتنا ولا يسمح بها في منطقتنا. فاذا حدث ذلك عندنا قامت الدنيا ولم تقعد كما حدث في الكويت. لكن الأوربي أجاز لنفسه أن يقتطع كوسفوويقسم يوغسلافيا كما شاء دون مشكلة تتحدث عن قدسية الحدود وعن نزع سيادة دولة موحدة معترف بها وعضوة في منظمة الأمم المتحدة. فلم تقم الدنيا لأن الأوربي يعتقد أنه هو الدنيا! وحين تحتل أجزاء من سورية فإن الدنياتبدو وكأنها لا تسمع ولا ترى! وحين يغتصب وطن بالكامل فإن أهله يصبحون لاجئين يستجدون عطف الدنيابينما تنشغل هذه الدنيابسلامة وأمن المستوطن الأوربي الغاصب! وحين تغزى اليمن ويموت أطفالها بالجوع والقنابل فإن هذه الدنياتتوعد بالدفاع عن الرياض وابو ظبي الغازية وليس حماية أطفال اليمن!

فهل يعقل أن المتعلم العربي لا يدرك هذه الحقائق. واذا كان يدركها فما سبب الحديث عن قدسية الحدود وعدم جواز المساس بها في رده على الدعوة لوحدة العرب والغاء الحدود المرسومة على أرضهم؟

فإذا كانت العلة في ذلك هو ما يسمى الشرعية الدوليةأو مجلس الأمن فلي حديث آخر في ذلك.

وهو ما سأحاول بحثه في الجزء القادم..

فللحديث صلة…..

عبد الحق العاني

لندن في 18 كانون الثاني 2022

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image