قل ولا تقل / الحلقة الحادية والأربعون بعد المائة

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

هذه حلقة خاصة أعيد فيها التذكير بمفردات غير سليمة تستعمل في الإعلام العربي بشكل مستمر

قل: تدرس الولايات المتحدة خطط سَوْق جديدة للشرق الأوسط
ولا تقل: تدرس الولايات المتحدة إستراتيجية جديدة للشرق الأوسط
كما شاع استعمال كلمة “استراتيجية” الأعجمية في وسائل الإعلام حتى لا يمكن أن يتحدث محلل أو كاتب في شأن سياسي دون أن يستعمل هذه الكلمة. بل ذهب البعض أبعد من ذلك فاتخذ لنفسه صفة “الخبير الإستراتيجي”، ولعمري لا أدري إذا كان من يدعي تلك الصفة أو من يقدمه للناس يعرف حقاً ما يعني أن يكون المرء “خبيراً إستراتيجياً”.
والكلمة الدخيلة على العربية هي الإنكليزية (Strategy) والتي أستعملت لأول مرة في الإنكليزية عام 1810 مأخوذة عن الكلمة الإغريقية stratēgos رغم أن الإغريق لم يستعملوا الكلمة بالمعنى الذي يستعمل اليوم. ويعرف معجم Merriam Webster وهو المرجع المعروف كلمة (Strategy) كما يلي:
“هي علم أو فن استخدام القوى السياسية أو الإقتصادية أو النفسية أو العسكرية للأمة أو مجموعة أمم لتحقيق الدعم الأكبر للسياسات المتبناة في الحرب أو السلم”.
وحيث إن المتحدث العربي يستعمل الكلمة الإنكليزية دون أن يُعَرّفها فلا بد أن يستعملها بالمعنى الإنكليزي للكلمة.
فهل يعقل أن جيوش المسلمين من جيوش النبي الأكرم (ص) حتى سقوط بغداد في 1258 لم تكن بحاجة لهذه العمليات، وإذا كانت لها حاجة لذلك، ولا شك، فهل يعقل أنها لم تعبر عنها بلسانها؟
لقد كان من جملة مساهمات الجيش العراقي المشهودة في عصره الذهبي في القرن العشرين قبل أن يحله المغول الأمريكيون تعريف المصطلح. وهكذا عرب الجيش العراقي كلمة (إستراتيجية) بـ ( خطط السّوْق).
ويؤيد هذا الإختيار الجيد ما جاء في لسان العرب في باب (سوق):
وسُوقُ القتالِ والحربِ وسوقَتُه: حَوْمتُه، وقد قيل: إن ذلك مِنْ سَوْقِ الناس إليها.
وقال ابن فارس في مقاييس اللغة في باب (سوق):
“قال رؤبة: وسُوق الحرب: حَومة القِتال”
ولا شك بأن استعمال كلمة “سَوْق” هو أخف على الأذن العربية وأوضح في نقل المعنى من استعمال (استراتيجية).
هذا وإن التعريب لأية كلمة أو عبارة يؤدي وظيفة أخرى لا تؤديها إستعارة الكلمة من لغة أخرى وتلك هي أن اختيار الكلمة العربية البديلة يفتح الباب لإشتقاق استعمالات أخرى تتعلق بتلك الكلمة، فمن ذلك نجد أن تعريف “إستراتيجية” يمكننا من استعمال الفعل “ساق” كي يؤدي معنى عملية تنفيذ “خطط السوق” وهو ما لا يمكن في اللغة الإنكليزية لأن اللغة الإنكليزية ليست لغة اشتقاقية كاللغة العربية فهي حين تستعير كلمة من اللاتينية أو الإغريقية تجد نفسها غير قادرة على إشتقاق فعل منها. وهكذا تثبت العربية مرة أخرى جمالها وعبقريتها.
فقل: خطط سَوْق
ولا تقل: إستراتيجية.

قل: فالإعتراض على مشروع ناجح هو موقف فاشل دوماً
ولا تقل: فالاعتراض على مشروع ناجح تكتيك فاشل دوماً
وإنتشر بين المتعلمين من العرب وليس فقط رجال الإعلام إستعمال كلمتي “إستراتيجية” و “تكتيك”. حتى إن السياسي او الصحفي لا يعد نفسه متعلماً إذا لم يستعمل إحداهما أو كلتيهما في اي تحليل أو حديث. فمن اين جاءت وما هي وكيف نتخلص من هذه العجمة؟ وحيث إني كنت قد كتبت عن إستعمال “إستراتيجية” في الحلقة الثامنة من هذه السلسلة فسأكتفي اليوم بالحديث عن كلمة “تكتيك”.
فقد دخل اللغة الإنكليزية وغيرها من اللغات الأوربية إستعمال كلمة “تاكتيكس” من الأصل اليوناني “تاكتكوس” والتي تعني ترتيب الشيء أو تهيئته. ثم سرعان ما أصبح استعمالها في الإنكليزية مقبولا في المصطلح العسكري مترافقاً مع إستعمال “إستراتيجي” حيث يعني اللفظ الأول الخطط المحلية في تهئية الجيوش وتعبئتها بينما تعني الثانية وضع خطط السوق الرئيسة للدولة في استعدادها للمواجهة. ثم ساد إستعمال الكلمتين ليشمل النشاط العام والفردي خارج الإستعمال العسكري فغدى كل سلوك فيه إستعداد أو تهيئة يقال له “تاكتك” في اللغة الإنكليزية على سبيل المثال.
وقد كان من مساهمات الجيش العراقي في خدمة الأمة العربية في القرن العشرين، وذلك قبل أن تحله الصهيونية العالمية في غزوها البربري عام 2003، أنه عَرَّب كل المصطلحات المستعملة في الجيش بما في ذلك أسماء السلاح والعجلات وأجزائها. فكان تعريب الجيش العراقي لكلمة “تاكتك” هو “تعبئة”، وهي ترجمة موفقة.
فقد كتب الجوهري في الصحاح:
“أبو زيد: عَبَأْتُ الطيبَ عَبْأً، إذا هَيَّأتُه وَصَنَعْتَهُ وَخَلَطْتَهُ. قال: وعَبَأْتُ المتاع عَبْأَ، إذا هيأته وعَبَّأْتُه تَعْبِئَةً وتعبيئاً. قال: كُلٌّ من كلام العرب. وعَبَّأْتُ الخيل تعبئة وتعبيئاً. قال: والعِبْءُ بالكسر: الحِمْلُ، والجمع الأعباء.”
أما ابن منظور فقد كتب في لسان العرب:
” وقيل: عَبَأَ المَتاعَ يَعْبَأُه عَبْأً وعَبَّأَه: كلاهما هيأَه، وكذلك الخيل والجيش.
وكان يونس لا يهمز تَعْبِيَةَ الجيش. قال الأَزهري: ويقال عَبَّأْت المَتاعَ تَعْبِئةً، قال: وكلٌّ من كلام العرب. وعَبَّأْت الخيل تَعْبِئةً وتَعْبِيئاً.
وفي حديث عبدالرحمن بن عوف قال: عَبَأَنا النبيُّ، صلى اللّه عليه وسلم، ببدر، لَيْلاً. يقال عَبَأْتُ الجيشَ عَبْأً وعَبَّأْتهم تَعْبِئةً، وقد يُترك الهمز، فيقال: عَبَّيْتُهم تَعْبِيةً أَي رَتَّبْتُهم في مَواضِعهم وهَيَّأْتُهم للحَرْب.”
مما يبين بوضوح سلامة التعريب لكلمة “تاكتك” الذي أثبته الجيش العراقي.
أما ما يخص تعريب إستعمال “تاكتك” السائد في اللغة الإنكليزية والذي أخذه الكاتب العربي في تغربه الفكري فيجب أن يكون متفقاً مع المقصود في الجملة. فقد يكون تهيئة أو موقفاً أو سلوكاً أو ممارسة اياً كان الحال. ذلك لأن غنى اللغة العربية تمكن الكاتب والمتحدث العربي أن يعدل عن إستعمال كلمة “تاكتك” للتعبير عن كل هذه حين يمكنه أن يستعمل لفظاً مختلفاً في كل حال يعبر فيه عما يريده.

قل: الطبيب الخافِرُ وطبيب الخَفْر والجندي الخافِرُ وجندي الخَفْر
ولا تقل: الطبيب الخَفَر ولا الجندي الخَفَر
وكتب مصطفى جواد: “وذلك لأن الخافر أسم فاعل من خَفَرَه وخَفَرَ به وخَفَرَ عليه أي أمَّنه وحماه وأجاره وحرسه فيكون لفظ “الخافر” مستعملاً على سبيل المجاز للطبيب وعلى سبيل المجاز للجندي. أما “الخَفَر” فهو مصدر الفعل “خَفَرت المرأة تَخْفَرُ خَفَراً وخفارة أي استحيت أشد الإستحياء فهي خَفِرَة وخَفِير ومِخْفار”. ومن البديهي أن الذي يستعمل الخَفَر لا يريد خَفَر المرأة ولا يخطر ذلك بباله بل يريد صاحب النوبة والرقيب والموكل بالتدبر أو النظر أو الحراسة، ويجوز أن يكون الأصل في هذا الإصطلاح “الطبيب ذو الخَفْر” وهو بمعنى الطبيب الخافر باعتبار أن المراد باسم الفاعل هو النسبة الى الفعل، فقولهم “ذو الخفْر” هو رجوع الى الأصل، فينبغي أن يقال إذن “الطبيب ذو الخفْر” أو طبيب الخفْر باضافة الإسم الى فعل صاحبه وذلك أثقل من “الطبيب الخافر” وكذلك القول في “الجندي ذي الخفْر وجندي الخفْر”. فتسكين الفاء واجب لئلا يلتبس الخفْر الذي هو الحفظ والحراسة بالخَفَر الذي هو الحياء، ثم انه لا يجوز أن يكون الخَفَر جمعاً قياساً على حارس وحرس وخادم وخدم وطالب وطلب وقاعد وقعد وسامر وسمر وناشيء ونشأ، لأن المقصود خافر واحد لا جماعة ولا جمعية واستعمال الجمع مكان المفرد هو من اللغة العامية إذا كان المفرد غير مجزأ كقولهم، فلان أشقياء، وأبناء الثلاثين وفلان أرباب.”

قل: القَطّاع الصناعي
ولا تقل: القِطاع أو القُطاع الصناعي
فكتب مصطفى جواد: “وذلك لأن القطّاع من اصطلاحات الهندسة القديمة وقد استعير للتقسيمات الإقتصادية باعتبار أن مجموع الإقتصاد دائرة والقطّاع يقطع جزءاً منها ويفرزه. قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمي الكاتب من أهل القرن الرابع للهجرة: “الشكل القطّاع – بفتح القاف وتشديد الطاء – قطعة من دائرة، راسها اما على مركزها واما على محيطها مثل هذين الشكلين.”
وهذه التسمية من باب تسمية الكل بالجزء كما قالت العرب “الحائط” للبستان مع أن الحائط هو جداره، وكما سمى العصريون عدة أشياء بالمنطقة من غير أن يشترطوا الإستدارة في الشيء المسمى وذلك خطأ قبيح لأن المنطقة كالحزام فتستعمل للإستدارة لا للإنبساط، فقولهم “المنطقة الإستوائية” من الأرض صحيح، لأن الخط دائر مع خط الإستواء كالنطاق وإن كان متصوراً وقولهم “المنطقة المحرمة” من البلاد خطأ لأنها لا استدارة فيها.
أما القِطاع آلة القطع أو طائفة من الليل والدراهم فلا محل بها في إرادة هذا المعنى.”

وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

15 أيار 2022
www.haqalani.com

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image