نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء السادس والعشرون

إلى أين: ما لنا وللأمم المتحدة؟ -2

يبدو ان الدنيا قد تغيرت حيث إن إستفساري الأخير عن حاجتنا للأمم المتحدة لم يثر ذلك الإستغراب الذي تعودت عليه في السابق، بل على العكس من ذلك فقد دفع لأكثر من سؤال، من الذين يهمني كثيرا ما يفكرون به، مما شجعني على المواصلة في الحديث في هذا الباب.

وحيث إن ملاحظاتي السابقة حول سلبية ميثاق منظمة الأمم المتحدة، الذي رسمه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية لضمان هيمنتهم على المنظمة، حظيت بالإهتمام فلا بد لي من إضافة ملاحظتين حول الميثاق. أولاهما هي تعديل الميثاق. فقد ضمن المؤسسون الكبار جعل تعديل الميثاق من الصعوبة حتى يكاد يكون مستحيلاً إذ تنص المادة (108) من الميثاق على:

“التعديلات التي تدخل على هذا الميثاق تسري على جميع أعضاء “الأمم المتحدة” إذا صدرت بموافقة ثلثي أعضاء الجمعية العامة وصدق عليها ثلثا أعضاء “الأمم المتحدة” ومن بينهم جميع أعضاء مجلس الأمن الدائمين، وفقا للأوضاع الدستورية في كل دولة. ”

وهكذا تمكن الكبار الخمسة أن يكون لكل منهم حق إيقاف أي تعديل للميثاق. فإذا أرادت مجموعة من الدول تعديل الميثاق من أجل تصحيح الخلل أو انعدام التوازن في المنظمة فإنها سوف تفشل في فعل ذلك لأنه سيضر بهيمنة الدول الكبرى أو أية واحدة منها. وهذا التهيؤ للقادم الممكن أعيد تطبيقه حين أعد الصهاينة دستورا للعراق عام 2005 بعد غزوه واحتلاله. فقد كتب بطريقة تجعل من شبه المستحيل تعديله لتأمين بقاء العراق اسير القيد الذي وضعه المحتل.

أما الملاحظة الثانية فهي تعنى بالمواد التي تعرف محكمة العدل الدولية وصلاحياتها. فلا بد أن يظن كل من يسمع اسم هذه المحكمة أنها محكمة كبيرة كما يوحي اسمها وان لها سلطات واسعة. لكنه ما أن يقرأ مواد الميثاق حولها حتى يرجع بخيبة كبيرة. فلا بد أن من يقرأ أن في مجلس الأمن محكمة يتوقع أن تكون هذه المحكمة هي الأمينة على سلامة قرارات مجلس الأمن ومطابقتها لقواعد القانون وأن تكون لهذه المحكمة سلطة الطعن في القرارات التي تصدر عن سلطة سياسية مثل مجلس الأمن. وأن تكون هذه المحكمة صاحبة السلطة والحق في الحكم في الخصومات وتنفيذ أحكامها. إلا أن هذه التوقعات لا وجود لها. فمحكمة العدل الدولية لا سلطة لها في البت في قانونية قرارات مجلس الأمن، بل هي تمتنع عن النظر في أية قضية أو خصومة ما دام مجلس الأمن قد وضع يده عليها. كما أن المحكمة لا سلطة قضائية لها إذا رفض طرف في خصومة الإعتراف بولايتها القضائية. وحتى حين تكون للمحكمة تلك الولاية القضائية فإن لأي طرف أن يرفض الإعتراف بها. فإذا وقع رفض لقبول حكم لها فإن عليها أن تعيد الأمر الى مجلس الأمن كي يبت فيه. وهكذا ينتهي الأمر في أن المحكمة هي ليست سيدة القضاء وإنما هي واحدة من الأدوات بيد مجلس الأمن.

هذه نماذج من الخلل الجذري في الميثاق أولا وفي تنفيذ الميثاق ثانيا. وحيث إننا العرب من بين الذين تضرروا أكثر من غيرنا لأسباب ساسية عدة ليس هذا مكان بحثها، إذ سبق كتابتي عن شيء منها ولا بد أني سأكتب عن كثير غيرها فيما يأتي، فإننا لا بد أن نسأل إذا كنا في تعاقد ينفعنا بشيء.

وقد سألني أكثرمن سائل كيف يمكن لنا أن نكون خارج منظمة الأمم المتحدة ونتعامل مع دول العالم الأخرى. وعندي هو أن السؤال لا يجوز أن يصاغ بهذا الشكل ذلك لأن منظمة الأمم المتحدة هي تعاقد بين دول وليست قدرا لا مفر منه. والسؤال الذي يجب أن يسأل هو ما هي الموازنة بين الأرباح والخسائر في الحالين. أي ما الذي نخسره إذا لم نكن فيها وما الذي نربحه إذا كنا أعضاء فيها؟ وهذا السؤال ليس نظريا في موضوعه لأن لدينا تجربة تجاوزت سبعين عاما من العضوية والتعامل مع الأمم المتحدة. فيكون السؤال هو: ما الذي حصلنا عليه من تلك العضوية وما الذي خسرناه؟

فقد وقعت خمس دول عربية (مصر والعراق وسورية ولبنان والسعودية)، من أصل خمسين دولة، ميثاق تأسيس الأمم المتحدة، حيث إن شمال أفريقيا كان أغلبها محتلا أما جزيرة العرب فلم تكن دويلاتها قد شكلت بعد. فما الذي تمكن عُشْرُ الأمم المتحدة من فعله؟

فقد جاء أول اختبار للأمم المتحدة في خلق دولة إسرائيل. وحيث إني لا أريد أن أدخل في تفاصيل ما حدث وكيف تخلت بريطانيا عن التزامها كدولة إنتداب في فلسطين وكيف اتفق السوفيات والأوربيون على خلق دولة إسرائيل وإن كان بمنظار وتطلع مختلف، إلا أني أريد أن أخلص بما حدث في ما فعلته الأمم المتحدة والدرس الذي كان على العرب تعلمه. فقد اتخذت الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947 قرارها رقم 181 بتقسيم فلسطين، منح بموجبه شعبها الأصلي اقل من نصف الأرض ومنح المستوطنون الأوربيون أكثر من نصفها الأفضل.

وبرغم كل ما حدث بعد فلسطين في أرض العرب، والتي لا بد من التأكيد على أنها في جوهرها جميعا مترتبة على خلق إسرائيل أو ذات علاقة مباشرة بها، برغم كل ما حدث فإن درس فلسطين للعرب هو المؤشر الرئيس على إنحياز الأمم المتحدة ضد وجود العرب. وبرغم أن قرار التقسيم لم ينفذ فقد تجاوزته الأحداث، لكن الذي حدث بعد ذلك أن كل قرارات الأمم المتحدة حول فلسطين لم تنفذ، بل إن قرارا واحدا حول فلسطين لم ينفذ. بينما نفذت جميع قرارات مجلس الأمن التي أتخذت ضد العراق!

وإذا لم تكن هذه الحقيقة كافية فإن ما يجعلها أكثر وضوحا هو أن جميع القرارات التي اتخذت بحق العراق كانت تحت الفصل السابع من الميثاق في الوقت الذي لم يتخذ قرار واحد بحق اسرائيل، برغم كل غزوها لأرض العرب، تحت الفصل السابع. وعلة ذلك تتضح حين نعلم أن القرارات التي تتخذ تحت الفصل السابع هي وحدها التي يمكن تنفيذها بالحصار أو العمل العسكري كما حدث بالنسبة للعراق. بينما كانت القرارت التي اتخذت بحق اسرائيل لذر الرماد في العيون حيث إنه ما دام لا يوجد طريق لتنفيذها فقد ظلت حبرا على الورق في الوقت الذي كانت فيه اسرائيل تخلق المزيد من الحقائق على الأرض والتي كان بدورها تستدعي قرارات ورقية جديدة تضحك فيها الأمم المتحدة على العرب.

فماذا كان سيحدث لو أن العرب تركوا الأمم المتحدة بعد اعترافها بخلق دولة إسرائيل التي جاءت بأوربيين واسكنتهم أرض فلسطين وحولت أهلها الى لاجئين في دول الجوار التي وقعت ميثاق الأمم المتحدة والذي إدعى أنها قامت لتحقيق السلم والأمن في العالم؟ أي بمعنى أدق ما الذي كانت دول العرب ستفقده أكثر لو أنها لم تستمر في منظمة خرقت عقدها منذ اليوم الأول؟ وبرغم اني لا أريد أن أجعل هذا المقال عرضا تأريخيا لقرارات الأمم المتحدة إلا أنه لا بد من التذكير بأهمها حتى يمكن لنا أن نتوقف لنرى ما الذي فعلته الأمم المتحدة بنا وما الذي نفعله في عضويتنا فيها.

غزت الصهيونية العالمية (إسرائيل وبريطانيا وفرنسا) مصر في عام 1956 واحتلت قناة السويس. فكافأت الأمم المتحدة المعتدي بمنحه حقوق ملاحة جديدة. فهل فكرت مصر بالإنسحاب من الأمم المتحدة ردا على العدوان ومكافأة الأمم المتحدة للمعتدي؟ وما الذي كانت ستخسره مصر لو فعلت ذلك؟

وغزت إسرائيل كل جيرانها عام 1967 وهزمت جيوش العرب واحتلت كل فلسطين وأرضين من تلك الدول وما زالت تحتفظ بنتائج ذلك الإحتلال. وكافأت الأمم المتحدة المعتدي بقرار 242 البائس والذي صدر تحت الفصل السادس غير قابل للتنفيذ وصيغ بلغات أوربية مختلفة لتعمد الإبهام والإختلاف في التأويل. وخسر العرب كل شيء في عام 1967 أرضهم وجيوشهم وكرامتهم وكان الوقت الأفضل للإنسحاب من الأمم المتحدة فلم يكن قد بقي ما يمكن فقدانه. ولو أنهم هددوا بترك الأمم المتحدة وقطع ضخ النفط ربما كان العالم حسب لهم حسابا آخر وفكر في مشروع إعادة الأرض وليس مجرد الوعد بها في القرار المهلهل والذي ظل العرب يرددون ذكره بعد أن توقفوا عن ذكر القرار 181 لعام 1947. لكن العرب لم ينسحبوا من الأمم المتحدة بل إنهم حتى لم يهددوا بذلك. ترى أكان العرب سيخسرون أكثر مما خسروا لو أنهم فعلوا ذلك؟ وهل لو فعلوا ذلك لتغير التاريخ؟

ثم جاءت حرب 1973 وصدر في نهايتها قرار مجلس الأمن رقم 383 فنسي العرب القرار 242 وأصبحوا يطالبون بتنفيذ القرار الجديد. وأتيح للعرب فرصة أكبر في التهديد في الإنسحاب مع وقف النفط وكانت أوربا تعاني حقيقة من نقص في الطاقة. ترى ماذا كانت أوربا ستفعل لو أن العرب أوقفوا ضخ النفط وانسحبوا من الأمم المتحدة عام 1973 حتى تنسحب إسرائيل من أرض العرب؟

لم يجتمع مجلس الأمن فور إحتلال إسرائيل لبيروت عام 1982 وحين أجتمع فإنه لم يصدر قرارا يدعو للإنسحاب الفوري كما فعل عند دخول الجيش العراقي لأرض الكويت التي اقتطعها مجلس الأمن من العراق السياسي برغم قاعدة “الرافض المستمر” القائمة في القانون الدولي والتي تقضي بعدم شرعية الحدود التي ترسم في ظل رفض مستمر لقبولها. وحتى حين اجتمع مجلس الأمن بعد غزو بيروت فإنه لم يقم بادانة احتلالها وإنما تعامل مع الغزو على أنه خلاف بين طرفين!

أما حصار الإبادة الذي فرضه مجلس الأمن على العراق عام 1990 بحجة عقوبته على إستعادة كويته، والذي لم يسبق فرضه على دولة قبل ذلك ويستحيل أن يمكن إعادته، فإنه يكفي وحده معبرا عن مدى الحقد الأوربي، المهيمن على مجلس الأمن، على العرب. فما الذي كان العراق سيخسره أكثر مما خسره لو أنه انسحب من مجلس الأمن الذي رفضه وعزله وأجاعه وأذله؟

وغزت الصهيونية العراق عام 2003 واحتلته صراحة دون سبب أقنع حتى حلفائها، ولم يجتمع مجلس الأمن لبحث غزو بلد عضو مؤسس للأمم المتحدة. وحين اجتمع لاحقا فكان ذلك بطلب من المحتل من أجل إعطاء تخويل للصهيونية في أن تحتل العراق وتسلمه للصوص، علما بأن القانون الدولي لا يعطي مجلس الأمن سلطة كهذه!

وحين أتيحت الفرصة لمجلس الأمن أن يمعن في الإساءة فإنه أجاز لأدواته المدمرة في خراب ليبيا وهكذا تحول البلد الآمن الى ساحة عصابات متصارعة ودويلات متقاتلة.

إن هذه الأمثلة لسلوك الأمم المتحدة تعطي صورة عن حقيقة أن ما ناله العرب من الأمم المتحدة خلال سبعين عاما لم يكن سوى الإساءة والأذى والعدوان. فهل يمكن في حساب الربح والخسارة القول بأن عدم المشاركة في الأمم المتحدة بعد نكبة فلسطين كان سيضر بالعرب أكثر مما لحقهم من ضرر؟

ولم يتوقف الضرر في القرارات التي أصدرتها الأمم المتحدة ضد العرب، بل لحق العرب ضرر بليغ آخر سوف أعرض له في الجزء القدم.

فللحديث صلة…..
عبد الحق العاني
لندن في 8 حزيران 2022

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image