الصراع الإيراني الصهيوني على العراق – 8

انتهيت في الجزء السابق بالسؤال: كيف دعمت إيران الفساد؟

إن ولادة الفساد في العراق بعد الغزو والإحتلال تُدرك من طريقين أولهما سلوك المحتل وثانيهما تشريعاته. ولن أبحث في تفصيل هذا لكني أكتفي بشاهدين.  أولهما أنها أعطت الغوغاء اشارة في أن لهم أن يفعلوا ما يشاؤون بالمال العام والخاص كما حدث في المتحف العراقي، ولو أراد المحتل أن يصرح بنيته في منع الفوضى، وهي أم الفساد، لفرض نظام منع التجول كما هو الحال في كل غزو واحتلال أو حتى في انقلاب عسكري داخلي. وثانيهما هو قرار بريمر اعتماد أفراد المنظمات العراقية المسلحة في إيران نواة القوات العسكرية والأمنية للعراق المحتل. 

فماذا فعلت إيران؟ وحيث إني سبق لي أن بينت أن إيران عندي هي دولة عميقة ومعقدة بل هي واحدة من أعقد النظم السياسية في العالم لتعدد مواقع صنع القرار وطبقات الإشراف، حتى إذا كان شكلياً، والتي لا يوجد لها شبيه حتى تقاس به. وهي في هذا التعقيد تبدو وكأنها دولتان: إحداهما إيران الدينية والأخرى إيران السياسية. فلا بد أن يكون هناك، كما سبق وأشرت، موقفان إيرانيان من الفساد في العراق.

فإيران الدينية المتمثلة في مرجعية السيد علي الخامنئي احتضنت الفاسدين من السياسيين الشيعة في العراق ورفعت شأن عدد منهم وسكتت عن آخرين أساؤوا للدين والمذهب والناس والأرض. فليس كافيا أن يقول قائل إن السيد الخامنئي لا يرضى بالفساد ما دام الناس يرونه يستقبل عددا من العراقيين الذين أرسلتهم إيران الى العراق حفاة عام 2003 وهم يعودون لمقابلته بثراء قارون الملعون في القرآن. لقد كان حريا بالسيد الخامنئي، والذي لم يجد حرجا في انتقاده العلني للمرجعية الشيعية التي تهادن أمريكا، أن يرفض الفساد في العراق صراحة وعلنا وأن يرفض مقابلة أي فاسد مهما قدم من خدمة لإيران. وقد كان واجبا على إيران الدينية أن ترفض أي موقف سياسي أو فتوى، من أي مدع للإفتاء لصالح حركة سياسية في العراق، يجيز السرقة ما دام خمسها  قد دفع، وقد أنزل عليكم في الكتاب: “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما”. فكيف أصبحت السرقة غنيمة حتى تجوز تحت حكم الخمس؟

لا أعتقد أن أحدا ينكر أن الفساد مرفوض داخل أيران الدينية إذ لو كان خلاف ذلك لشهدنا جميعا آثاره في إيران فاسدة. فكيف والحال كهذا ترضى إيران الدينية أن يكون أتباعها ومقلدوها في العراق من أفسد الناس؟ أو بمعنى أدق كيف لا تفقد المرجعية في إيران مصداقيتها إذا كانت ترضى عما يخالف القرآن وشرع أهل البيت الذين تدعي تقلديهم واتباعهم؟

ما أنت إذ لا تصدعين فواحشا //  إلاّ كراضية عن الفحشاءِ

إن من أخطر نتائج دعم ايران الدينية للفاسدين في العراق، أو السكوت عنهم في أدنى حال، يتجاوز الضرر المباشر للعلاقة ولمستقبل العراق. حيث إنه يعرض الإدعاء الذي يمثله السيد علي الخامنئي في أنه امتداد لثورة الخميني. ذلك ان حركة الخميني كانت تقوم على أساس فشل العرب في القيام بواجب نقل رسالة الإسلام بشكل سليم للعالم وعلى أن الفرس أولى بتلك المهمة من العرب. فإذا أصرت إيران الدينية على دعم الفساد وتبني الشيعة الفاسدين في العراق فإنها سوف تكشف عن زيف الحركة في إدعائها حمل رسالة الإسلام لأن الفساد لا موقع له في الإسلام. فقد جعل رب العزة الفساد في أعلى درجات الإثم والجريمة فوضع القتل عقوبة له فقال عز من قائل: “ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الآرض”.  وقال تعالى: “وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد”. وقال: “تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين”. 

ثم ينتقل أثر رعاية إيران الدينية للفساد في العراق لأبعد من انصراف الناس عن ثورة الخميني إلى انصراف الجيل الجديد عن الإسلام بالكلية. ذلك أن الجيل الذي يشهد الفساد ومشاركة المرجعية الدينية فيه عن طريق الدعم أو التستر أو السكوت لا يمكن أن يعتقد بأن الدين الذي يمثله هؤلاء هو رسالة سماوية. ولا ينفع أن يقال له إن هؤلاء لا يمثلون الدين وإنهم دخلاء عليه. إن جيلاً جديدا من العراقيين سوف ينشأ وهو غير معني بالإسلام وقيمه السامية ذلك لأن الرسالة تفهم عن طريق الرسول فإذا كان ممثلو إيران الدينية في العراق فاسدين فإن جيل العراق القادم سيقتنع أن الرسالة فاسدة وحيث إنه ليس لديه بديل فهو لا شك أن ينتهي وهو غير راغب في هذا الدين.

أما إيران السياسية فهي معنية بإقامة دولة إيرانية تهيمن على المنطقة ما دامت تلك المنطقة والتي يقطنها العرب بشكل رئيس أرض مستباحة. وهي ترى أنها أولى أن تعبث بأرض العرب من الأطلسيين الذين يتحركون بكل حرية في أرضها وبحرها وجوها. وهكذا فإن الصراع السياسي بين إيران وإسرائيل هو التعبير الحقيقي عن صراع لهيمنة أحدهما دون الآخر على المنطقة ذلك أن تأريخ منطقتنا يثبت في أنها لا تسمح بوجود قوتين بين جبال زغروس وساحل بحر الأبيض المتوسط. وإيران السياسية وجدت أن العراق هو الساحة الطبيعية لهذا الصراع لعدة أسباب، فهو الحدود التي تفصلها عن غريمها وهو التأريخ والجغرافيا والمجتمع الوحيد بينها وبين غريمها الذي يمكن أن يقال أن له وزنا في الصراع، وهو الذي سبق أن قاتلها لسنوات وأعاق مشروعها وهو الذي أثبت أنه الدولة التي يمكن أن تشكل عائقا جديا إذا سمح لها أن تنهض. لذلك فإن إيران السياسية اقتنعت بأن عراقا فاسدا مقسماً متخلفاً هو الساحة الأفضل لها في صراعها مع إسرائيل للهيمنة على المنطقة. وهكذا دعمت الفاسدين الذين آوتهم أثناء الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي وعرفتهم حق المعرفة، بل ربما أفسدت صحيحهم إن كان بينهم صحيح. فإيران السياسية جعلت من العراق الذي يديره خدمها من الفاسدين منفذا لكل سلوكها للتخلص من العقوبات والإجراءات المعيقة التي فرضتها عليها الصهيونية العالمية بكل أشكالها. وحيث إن أجراء إيران من العراقيين الفاسدين ليس لديهم مشروع بناء دولة في العراق فإنهم كانوا خير من يقوم بخدمة الدولة الإيرانية على حساب العراق ومصالحه الوطنية الحقيقية ما دام أولئك الفاسدون يحصلون على حصتهم من الغنائم تماما كما فعلوا حين سمحوا لبول بريمر أن يسرق ما شاء من العراق واحتياطه النقدي ما دام يعطيهم من فتات المائدة كما شاء على قدر نفوسهم الذليلة، وكلهم أذلاء!

هكذا دعمت إيران الدينية وإيران السياسية الفساد الذي أسسه وخطط له الصهاينة في العراق. وهكذا سلمت الصهيونية من تحمل مسؤولية الفساد في العراق، وتحملتها إيران وحدها، واقتنع العراقيون بأغلبيتهم أن إيران هي المسؤول عن كل ما يحل بهم.

فهل تدرك إيران أثر ذلك، ليس على العراق وحده بل، على مستقبل المنطقة التي تشكل هي جزءاً منها؟ وإذا أدركت ذلك فهل يمكن لها تلافي الضرر الذي سيعم الجميع؟

لست أقدر أن أجيب على الجزء الأول من هذا السؤال حيث إني لا أعرف كيف يفكر القادة الدينيون أو السياسيون في إيران الآن. لكني أقدر أن أجيب على الجزء الثاني من السؤال. 

ذلك أن كون إيران والعراق جارتان هي حقيقة تأريخية وجغرافية لن يغيرها شيء. فلا العراق سيرحل ولا أهله راحلون وكذلك الحال مع إيران. والعقل والحكمة تقضيان أن يتعلم الأثنان العيش كجارين متفاهمين لا متصارعين. فليس في مصلحة العراق في أي وقت أن تكون إيران ساحة يدخل منها الغزو من المشرق كما حدث حين دخلها هولاكو. وليس في مصلحة إيران أن يكون العراق ساحة للتآمر عليها من الغرب كما هو الحال اليوم حيث تعمل كل أجهزة مخابرات الصهيونية الأطلسية بحرية لم تعرفها في أي بلد آخر. وحيث إن عراق اليوم عاجز عن عمل أي شيء لآنه لا يمتلك حرية اي قرار لذا فإن الخطوة العاقلة يجب أن تأتي من إيران إذا أدركت ما أوجزت في أن من مصلحتها أن يكون العراق ساحة آمنة. والعراق لن يكون ساحة آمنة إلا إذا كان فيه نظام سياسي قوي ومتماسك كما كان في كل تأريخه منذ عشرينيات القرن الماضي حتى غزوه واحتلاله.

إن الحل كله بيد إيران إذا أرادت مصلحتها حقا والتي تترتب عليها مصلحة العراق. وأول ما على إيران أن تفعله هو أن تتخلى المرجعية الدينية عن الفاسدين من أتباعها وأجرائها. ذلك أن الواجب الشرعي والعقلي يقضي أن تلتزم المرجعية بالقرآن وسنة النبي وما تتناقله هي نفسها عن سيرة العترة النبوية وأهل بيته من الأئمة الأطهار.

إن على المرجعية أن تتخلى عن الفاسدين ليس باعلان عام وغامض وإنما بتسمية أولئك الفاسدين ورفض لقائهم. إن المرجعية إذا فعلت ذلك فسوف تجد شعب العراق صديقاً متقربا لا عدواً شاتماً لاعناً كما هو الحال اليوم. وهي إن فعلت هذا فسوف تستعيد موضعها الديني في كل العالم الإسلامي وليس العراق وحده. أي إن هذا السلوك سيكون خدمة للإسلام والتي لا أشك في أن المرجعية تؤمن يقينا أنها في خدمته.

فإذا سلكت المرجعية هذا السبيل فسوف يكون عسيرا على إيران السياسية أن تبقي على دعمها للفاسدين العراقيين. إن أي إختلاف بين إيران الدينية وإيران السياسية في العراق لا بد أن يحسم كما تريده المرجعية لأن تعاطف شيعة العراق، وهم العنصر الفاعل في هذا، هو تعاطف مذهبي مع المرجعية وليس تعاطفا سياسيا حتى يلتقي مع الدولة الإيرانية.

هذا هو الطريق الوحيد لإنقاذ العراق وإيران. اما إذا لم يحدث هذا فإن العراق سيكون ضحية كبرى، وتتبعه إيران ضحية صغرى في صراعها الدموي المقبل مع الصهيونية.

 

عبد الحق العاني

10 أيلول 2022

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image