قل ولا تقل / الحلقة الرابعة والأربعون بعد المائة 

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

قل: أمر مُهم وقد أهمَّه الأمر

ولا تقل: أمر هام وقد همَّه الأمر

كتب الدكتور مصطفى جواد: “قال الراغب الأصبهاني في مفردات غريب القرآن: وأهمّني كذا أي حملني على أن أهم به، قال تعالى: “وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم”. فالأنفس مهمَّة إذن لا هامَّة فالشيء المهم هو الذي يبعث الهمة في الإنسان ويجعله يهم ويقلقه أحياناً. ونقل اللفظ من الوصفية الى الإسمية فقيل له “المُهم” وجمع على “المهام” تكسيراً وعلى “المهمات” تصحيحاً. وهو بالبداية اسم فاعل من أهمّه يُهمّه إهماماً.

والهام هو المحزن وهو من همَّه أي أحزنه حزناً يذيب الجسم، ولا محل له في تلك الجملة. وقال ابن السكيت وهو الدليل الخريت في اللغة العربية، قال في كتابه اصلاح المنطق: “ويقال قد أهمّني الأمر: إذا أقلقك وأحزنك، ويقال قد همّني المرض اي أذابني….ويقال همّك ما أهمّك”.

وجاء في لسان العرب: “ويقال: همَّك ما أهمّك، جعل “ما” نفياً في قوله ما أهمك اي لم يهمك. ويقال: معنى ما أهمك اي ما أحزنك أو ما أقلقك أو ما أذابك، يريد أن “ما” في الوجه الثاني تكون إسماً موصولاً، ومرادنا من إيراد هذه الجملة المبهمة هو فعلها الرباعي “أهمك يهمك إهماماً” فهو المستعمل عند العرب في مثل هذا المعنى.

وجاء في لسان العرب ما يُلبس المعنى على القارئ غير الفطن، قال: “الهمُّ: الحزن وجمعه هموم، وهمّه الأمر همّاً ومهمّة وأهمّه فاهتمّ واهتمّ به”. أراد بقوله: همه الأمر: أحزنه لأنه بدأ المادة بتفسير الهم، مع ان قولنا أهمني الأمر يُهمني يعني جعلني أهم به بدلالة ما نقل صاحب اللسان بعد ذلك، قال: “وفي حديث سطيح (شمر فانك ماضي الهم شمَير) أي إذا عزمت على شيء أمضيته والهم ما هم به الإنسان في نفسه تقول: أهمني هذا الأمر”. هذا ولو صحت دعوى أن “همه الأمر” بمعنى “أهمّه الأمر” الذي اشتق منه المهم وجمعه المهام والمهمات لسمت العرب “المهم” باسم “الهام” ولجمعته على “هوام وهامات”، ولكن هذا لم يكن ولم يُصر اليه قط. فالهام لم يرد في لغة العرب بمعنى المهم.

ثم أن “همَّ” بهذا لو كان فصيحاً لأستعمله الفصحاء في كلامهم وخطبهم ورسائلهم ولورد في القرآن الكريم، فالوارد فيه هو الرباعي. قال تعالى في سورة آل عمران: “وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء”.

نضيف الى ذلك أن “همّ” لو صح بمعنى “أهمّ” في المعاني المشار اليها لفضله الفصحاء على الرباعي لأن قاعدة الفصاحة العامة في ذلك تفضيل الثلاثي على الرباعي إذا كانا بمعنى واحد إلا إذا نُبّه على العكس بالنص والتصريح، فنعشه أفصح من أنعشه، ورجعه أفصح من أرجعه، ووقفه أفصح من أوقفه، ونقصه أفصح من أنقصه، وعاقه أفصح من أعاقه، ونتجه أفصح من أنتجه، وغاض الماء يغيضه أفصح من أغاض الماء.

أما الشواهد على رجحان “أهمّه يُهمّه فهو مُهم” على قولهم “همّه يهمه فهو هام” بعد شواهد القرآن الكريم فكثيرة، كقول ابن المقفع في كليلة ودمنة “ويرتاح اليه في جميع ما أهمّه” وقوله “فأهمّه ذلك وقال: ما كان للأسد أن يغدر بي”.

وجاء في نهج البلاغة “ما أهمّني أمر أمهلت بعده حتى أصلي ركعتين وأسأل الله العافية”. وقال أبو زينب بن عوف يخاطب عمار بن ياسر: “وما احب أن لي شاهدين من هذه الأمة شهدا لي عما سألت من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما”. ذكر ذلك نصر بن مزاحم في أخبار صفين وقال البراض على رواية الفصحاء:

وداهية تُهمّ الناس قبلي        شددت لها بني بكر ضلوعي

هدمت به بيوت بني كلاب    وأرضعت الموالي بالضروع

وقال عمر بن الخطاب (رض): “دلوني على رجل استعمله على أمر قد أهمّني”، ذكر ذلك البهيقي مؤلف المحاسن.” إنتهى

وكان الشيخ إبراهيم اليازجي قد سبق أستاذنا الفاضل مصطفى جواد حين كتب في “لغة الجرائد”: “ان الكتاب يستعملون لفظة (هامّ) ثلاثيًّا لا يكادون يخرجون عنها في الاستعمال، والأفصح: مهمّ الرباعي، وعليه اقتصر في الصحاح والأساس”. 

فرد على “لغة الجرائد” الأستاذ سليم الجندي ، وهو أحد علماء الشام، فذكر ما عده أغلاط اليازجي في كتيب نشر في دمشق عام 1935 بعنوان: “إصلاح الفاسد من لغة الجرائد”. ومنها رده على هذا الرأي بما جاء في القاموس والتاج، “وهو: همّه الأمر كأهمه، فقد جعلوا الثلاثي والرباعي متماثلين ولم يذكروا أن أحدهما أفصح من الآخر”. وحين عدت للقاموس وجدت فيه قول الفيروزأبادي: “وهَمَّه الأَمْرُ هَمّاً ومَهَمَّةً: حَزَنَه، كأَهَمَّه فاهْتَمَّ”. وقد يجد القارئ الفطن ما شرحه العالم مصطفى جواد كافياً للرد على الجندي. فإن لم يكن ذلك كافياً فإن صاحب القاموس قد لا يكون صائباً في إنفراده في أن “همه” و “أهمه” واحد. وفوق كل ذي علم عليم. 

قل: أزمعتُ المَسيرَ

ولا تقل: أزْمَعْتُ على المَسير

كتب الصفدي:”ويقولون: أزْمَعْتُ على المَسير. ووجه الكلام: أزمعتُ المَسيرَ، كما قال عنترة: 

إنْ كُنتِ أزمعتِ المَسيرَ وإنّما

زُمّتْ رِكابُكُمُ بلَيْلٍ مُظـلـمِ”

وعلق أبو الثناء الآلوسي على ما كتبه الصفدي وما كتبه الحريري قبله فكتب: “ويزيدون على في قولهم أزمعت على المسير ووجه الكلام أزمعت المسيرَ بدون على (كما قال عنترة) العبسي في معلقته المشهورة

(إن كنت أزمعت المسير فإنما

ذمت ركابكم بليل مظلم)

وروي بدل المسير الفراق والرحيل، وإنكار أزمعت على المسير حكاه أبو عبيد عن الكسائي وقال إن ابن بري أجاز الفراء أزمعت الأمر وعلى الأمر وأما الكسائي فلم يجز إلَّا أزمعت الأمر، والحجة للفراء أن الأفعال قد يحمل بعضها على بعض إذا تقاربت معانيها كقوله تعالى: “فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ”[النور:63] فعّدَّى خالف بعن من جهة أن المخالفة خروج عن الطاعة، وكذا الإزماع هو المضاء في الأمر والعزم عليه.

وكتب الجوهري في الصحاح: “قال الخليل: أَزْمَعْتُ على أمرٍ فأنا مُزْمِعٌ عليه، إذا ثَبَّتَ عليه عزمك…. وقال الكسائي: يقال: أَزْمَعْتُ الأمرَ ولا يقال أَزْمَعْتُ عليه. وقال الفراء: أَزْمَعْتُهُ وأَزْمَعْتُ عليه، مثل أجمعته وأجمعت عليه.”

قل: شَغَلته بكذا

ولا تقل: أشْغَلته بكذا

كتب الصفدي: “العامة تقول: أشْغَلته بكذا فهو في شُغْل مُشغِل. والصواب: شَغَلْته بكذا فهو في شُغل شاغِل. قلت: يحكى عن الصاحب بن عباد، رحمه الله تعالى، أنه وقف له كاتب وقال له: إن رأى مولانا إشْغالي في شيء أرتزق به. فقال: مَنْ يقول إشْغالي لا يصلح لأشْغالي. ويقولون: أشْحَنتُ السفينةَ. والصواب: شحَنْتُها.”

قل: تَيَمَّنْتُ برؤيتك

ولا تقل: استَيْمَنْتُ برؤيتك

كتب الصفدي: “ويقولون: استَيْمَنْتُ برؤيتك، واستطرت برؤية فلان. والصواب تيمَّنْتُ، وتطيّرْتُ.”

قل: استَرَحْتُ من كذا

ولا تقل: استرِحْتُ من كذا

كتب الصفدي: “ويقولون: استرِحْتُ من كذا. والصواب استَرَحْتُ بفتح الراء.” 

قل: تأنق في الشيء

ولا تقل:  تنوق في الشيء

كتب الحريري: ويقولون: تنوق في الشيء. والأفصح ان يقال: تأنق، كما روي للمنصور رحمه الله:

تأنقت في الإحسان لم آل جاهدا ** إلى ابن أبي ليلى فصيره ذما 

فوالله ما آسى على فوت شكره ** ولكن فوت الرأي أحدث لي هما 

واشتقاق هذه اللفظة من الأنق، وهو الإعجاب بالشيء.

ومن أمثالهم: ليس المتعلق كالمتأنق، أي ليس القانع بالعلقة، وهي البلغة، كالذي يطلب النقاوة والغاية. ويضرب أيضا للجاهل الذي يدعي الحذق. 

وعلق أبو الثناء الآلوسي على الحريري فكتب:

” ويقولون تنوّق في الشيء والأفصح تأنق بالهمز كما روي للمنصور:

….

واشتقاق هذه اللفظة من الأنق وهو الإعجاب بالشيء. قال في القاموس أنق الشيء: كفرح بمعنى أحبهُ وبهِ أعجب. وأنق تأنيقاً: عجب وتأنق فيه، عمله بالاتقان والحكمة كتنوّق وللمكان أحبه. وقال ابن بري (تأنق في الشيء وتنوق) كلاهما مسموع. فتأنق مأخوذ من الأنق وهو الإعجاب بالشيء. وتنوَّق مأخوذ من النيقة. ومنهُ قولهم: (رجل نواق) إذا كان حسن الإصلاح للشيء. وفي الأمثال خرقاء ذات نيقة. أي هي مع انها خرقاء حمقاء محكمة لما تعاينهُ. وفي الأساس أن هذا المثل يضربُ للجاهل يدعي المعرفة. ومن المجاز (تأنق في عملهِ وفي كلامه)؛ أي فعلَ فعل المتأنق في الرياض يتتبع ما يوافقهُ من الأنق والأحسن. وقال علي بن حمزة (الوجه تنوّق في الشيء) من النيقة. ومنه قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنهُ: (صرت إلى روضات اتأنق فيهن). ومنه (أنقني الشيء): أعجبني. ومن التأنق في الشيءِ على المعنى الذي سمعتهُ عن القاموس قولهم في المثل ليس المتعلق كالمتأنق أي القانع بالعلقة كالذي يعمل على وجه الإتقان ولحكمة. ويطلب الشيءَ على أكمل وجه.”

قل: أشرف فلان على اليأس 

ولا تقل: أشرف فلان على الإياس

كتب الحريري: ويقولون: أشرف فلان على الإياس من طلبه، فيوهمون فيه، كما وهم أبو سعيد السكري، وكان من أجل النحويين وأعلام العلماء المذكورين، فقال: إن إياسا سمي بالمصدر من أيس، وليس كذلك، ووجه الكلام أن يقال: أشرف على اليأس، لأن أصل الفعل منه يئس على وزن فعل، كما قال تعالى: “قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور” فأما قولهم: أيس، بتقديم الهمزة، فإنه مقلوب من يئس. واستدل شيخنا أبو القاسم على صحة ذلك بأن لفظة يئس تساوي لفظة اليأس الذي هو الأصل في نظم الصيغة ونسق الحروف، لتكون الياء مبدوءا بها فيهما، والهمزة مثنى بها بخلاف تنزلهما في لفظة أيس، لأن الهمزة في أيس مبدوء بها والياء مثنى بها  فلهذه العلة حكم على لفظة أيس بأنها مقلوبة من يئس، والمقلوب لا يتصرف تصرف الأصل ولا يكون له مصدر، وأما إياس فهو عند المحققين مصدر أسته، أي أعطيته، والأسم منه الأوس الذي اشتقت منه المواساة، فكأنهم سموا إياسا بمعنى تسميتهم عطاء.

قال شيخنا أبو القاسم الفضل بن محمد النحوي رحمه الله: فأما قولهم: جذب وجبذ، فليست هاتان اللفظتان عند المحققين من النحويين من قبيل المقلوب، كما ذكر أهل اللغة، بل هما لغتان، وكل واحدة منهما أصل في نفسها، ولهذا اشتق لكل منهما مصدر من لفظه، فقيل في مصدر: جبذ جبذا، كما قيل في مصدر جذب: جذبا.

ومما يوهمون فيه أيضا من شجون هذه اللفظة قولهم للقانط: هو موئس من الشيء، والصواب أن يقال فيه: يائس، أو آيس، والأصل فيه يائس، ومنه قول مقرون بن عمر الشيباني :

فما أَنا، مِن رَيْبِ الزَّمانِ، بِجُبَّإٍ،   ولا أَنا، مِن سَيْبِ الإِلهِ، بِيائِسِ

فأما الموئس فهو الذي عرض لليأس، وألجىء إليه.”

(جبأ: جبان) 

 

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

15 تشرين الأول 2022

www.haqalani.com

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image