نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء الحادي والثلاثون

إلى أين: الدولة العربية الموحدة

انتهيت في الجزء السابق سائلا عن النظام السياسي والإقتصادي الذي أرجوه للدولة العربية الموحدة.

لا شك عندي أن آلاف العرب الذين درسوا علوم الإقتصاد ودرسوا القانون ونظريات السياسة في الغرب انتفعوا بما تعلموه وحاولوا نقل تلك المعرفة الى أرض العرب كجزء طبيعي من رغبة انسانية لنقل المعرفة والمشاركة في تعميمها. لكني في الوقت ذاته لا شك عندي في فشل المتعلم العربي هذا، والمتغرب في فكره، في القيام باي نشاط سوى النقل الأعمى والذي قاد في أغلب الأحيان للضرر لا للمنفعة. ولست أريد البحث في أسباب هذا لأن الهدف من هذه المقالات هو ليس بحث تغرب العقل العربي وعجزه عن الإبداع، وإنما هو تلمس المستقبل. فقد يكون عجز الفكر العربي ناتجا عن عقدة النقص التي أورثها الحكم العثماني الغبي وقد يكون عجز العقل العربي إنعدام الثقة بالنفس، وقد يكون لقصور فهم اللغة العربية كأداة سليمة للتعبير عن الفكر والتي لا يمكن للجاهل بها أن يؤتي الفكر حقه. لكن هذا يحتاج لبحث مستقل لسنا بصدده هنا.

وهكذا نجد الخبير الإقتصادي أو مدرس السياسة حين يكتب للعرب فهو لا بد أن يثبت مرجعيته المستندة لكاتب أوربي، أيا كان، وذلك عن طريق الإستشهاد بشيء مما قاله هذا الأوربي أو ذلك حتى إذا كان ذلك الكاتب نكرة في بلده. ولا أغالي إذا قلت أني نادرا ما أقرا لكاتب عربي يخاطبني دون أن يستشهد بمقال أو كتاب لأوربي، وكأنه يريد أن يقول: إذا كنت لا تثق بي فاقرأ ما يقوله هذه الأوربي العبقري! ولست أحاول هنا التقليل مما يكتبه الأوربي لكن ما يهمني هنا هو أنه ليست كل قضية تخصني لا بد أن يستند حلها لمرجعية فكر أوربي! فليس كل من فهم نظرية “فائض القيمة” سيقدر على حل مشكلة الفقر والبطالة في مجتمع لا يمتلك أية قاعدة صناعية.

لقد كان لا بد من هذه المقدمة القصيرة قبل أن أتحدث عن عجز العربي المتعلم، وعلى الأخص ذلك العربي الذي درس علوم السياسة والعلاقات الدولية والإقتصاد، في عرض تصور للنظام السياسي الصالح أو المرجو للعرب. فليس ينفع العربي الباحث عن حلول أن يقرأ مقالا يشرح فيه الكاتب ما قاله الأوربيون حول النظام السياسي في بلد أوربي ما مستشهدا بواحد أو أكثر منهم دون أن يعطي ذلك الكاتب العربي ما علاقة البحث بالمجتمع العربي وحاجته الآنية والناتجة عن تطور سياسي واجتماعي لا علاقة له بأوربا وما مرت به من مراحل تطور قد تخصها وحدها.

وحتى لا يطول الأمر لنأخذ مثالا على ذلك مما أصبح ديدن العصر في الحديث عن خرافة “الديموقراطية” والتي يرددها العرب سواء أكانوا متعلمين أم غير متعلمين. فالكل ينادي بالديموقراطية وإن كنت أشك أن أغلبهم سيطبقها حقا إذا تمكن من الأمر. والحجة الغالبة في سبب المطالبة بها هي أن الغرب ابتدعها واتبعها فلا بد أن تكون صحيحة وسليمة لنا كي نتبعها. والطعن في سلامة هذا الإستنتاج عندي يقوم على قاعدتين. أولاهما هو انعدام وجود مفهوم واحد للديموقراطية وثانيهما هو عدم ثبات وجود نظام سياسي يصلح للعالم أجمع.

ونبدأ في محاولة فهم ماذا تعنيه الكلمة وما ينطوي عليه النظام الذي يبنى عليها. وكلمة “الديموقراطية” هذه كما هو معروف هي مستقاة من كلمتين اغريقيتين إذا جمعتا كونتا كلمة “حكم الشعب”. وهكذا اعتقد متبنوها أنهم أسسوا لنظام سياسي يقوم على حكم الشعب لنفسه. لكن هذا التعبير لا يكفي في ذاته للتعريف بما يعنيه النظام السياسي الذي يقوم على تطبيق “الديموقراطية”. ذلك أن حق الشعب في اختيار ممثليه الذين يختارون الحكومة التي تدير الدولة تختلف من مكان لآخر وليس هناك من قانون طبيعي يحكم أيها أصوب وأحق بالتسمية. ذلك أن “الديموقراطية” في أوربا هي ليست الديموقراطية التي تدعي الصين أنها تطبقها وهي ليست تلك التي تطبق في الهند حيث يوجد أكبر نظام طبقي في العالم وهي ليست ما تدعيه إيران من “ديموقراطية” ضمن النظام الإسلامي. أي بمعنى أدق لا وجود لمفهوم سياسي واحد يعرف النظام “الديموقراطي”. وحتى في أوربا التي تدعي أنها تمثل ذلك النظام أصدق تمثيل فإن “الديموقراطية” ليست متماثلة فهي في فلندة ليست كما هي في بريطانيا على سبيل المثال. ففي حين تعتمد فلندة التمثيل النسبي في انتخاب نوابها تعتمد بريطانيا النظام الأغلبي وحده وهذا يعني أن مجلس النواب الفلندي يجلس فيه نواب يمثلون تمثيلا حقيقيا آراء أكبر شريحة من الذين شاركوا في التصويت أما مجلس العموم البريطاني فإنه لا يجلس فيه إلا الذين حصلوا على نسبة تتجاوز نصف المقترعين في أي مقعد مما يعني احتمال أن يقوم حال لا تتمثل فيه نسبة كبيرة من الشعب في مجلس العموم.

ولا ينفك دعاة “الديموقراطية” الأوربية في عالمنا العربي من الإشارة الى ظاهرة حقوق الإنسان المتممة للنظام الأوربي المثالي مؤكدين على أهمية ضمان حق المعتقد وحرية التعبير والكلمة. لكن الداعين للبدعة الأورببة ينسون حقيقة مهمة تتعلق بعهود حقوق الإنسان والعديد من الحريات التي تدعي تلك العهود حمايتها. ذلك أن عهود حقوق الإنسان وما ينتج عنها هي من وضع مجالس نواب، فاذا قرر مجلس للنواب الذي شرع ذلك العهد أن يغيره بل وحتى يلغيه فليس هناك من سلطة تمنعه من ذلك. وهذا يعني أنها ليست حقوق فالحقوق ثابتة وليست ملك أحد كي يمنحها ويسلبها متى شاء. ونذكر مثالا على ذلك الحق الفردي لممارسة الإنتكاس النوعي (الشذوذ الجنسي). فقد كان ذلك يعد جريمة في القانون الإنكليزي يعاقب عليه بالسحن. لكنه اليوم أصبح حقا من حقوق الإنسان يصونه القانون بل إن القانون ذهب أبعد من ذلك حيث أصبح رفض “الإنتكاس النوعي” أو حتى انتقاده قد يؤدي للسجن. فلو كان حقا مقدسا من حقوق الإنسان لما تحول من جريمة الى حق مصون كما قرره مجلس العموم البريطاني. أما حرية المعتقد والتعبيرعنه فهي الآخرى نموذج آخر للإستخفاف بالحقوق إذا كانت حقا كذلك. فقد قررت فرنسا منع المرأة المسلمة من إرتداء الحجاب، على وفق قناعتها الدينية، في مكان عملها. فخرقت فرنسا في ذلك العمل قاعدة أساس من قواعد ميثاق حقوق الإنسان الأوربي، أي بمعنى أدق هي قررت أن الحق المنصوص عليه في الميثاق غير ملزم وأيدت محكمة حقوق الإنسان الأوربية قرار فرنسا.

وفرنسا هذه التي تدعي أنها مثال للعدالة والحقوق وتشير لذلك في ألوان علمها هي نفسها تجرم كل من يطعن أو يشك بتفاصيل “المحرقة” التي أوقعها الألمان باليهود على أن ذلك ليس جزءا من حرية المعتقد والتعبير لكنها تعد الإستخفاف والتشهير بنبي المسلمين على أنه ليس جريمة أو إساءة تستدعي المنع أو العقوبة لأنها من حقوق التعبير عن الرأي.

وحيث إن جوانب النظام “الديموقراطي” الأوربي متعددة فقد وجدت أن من أفضل سبل شرح النظام وأهم مظاهره وكيفية وصوله لما هو عليه اليوم أن أعرض ببعض التفصيل كيف وصل النظام لما هو عليه في بريطانيا كمثال لا تختلف بقية دول أوربا الغربية عنه، خصوصا وان بريطانيا تدعي أنها أم “الديموقراطية” في العالم!

هذا ما أروم فعله في الجزء القادم بإذن الله..

فللحديث صلة…..

عبد الحق العاني

لندن في 5 تشرين الثاني 2022

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image