نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء الثاني والثلاثون

الى أين: الدولة العربية الموحدة – “الديموقراطية” البريطانية

انتهيت في الجزء السابق واعدا بعرض نشوء وتطور “الديموقراطية” في بريطاينا مثالا من أجل فهم طبيعتها وما يراد للعرب أن يفعلوه في نقلها الى الدولة العربية المرجوة.

فليس موضع جدل أن نبدأ بالقول إن النظام السياسي القائم اليوم في بريطانيا هو نتيجة تطور استغرق قرونا. ويمكن لنا أن نتخذ عددا من المواقف الحاسمة كبداية لهذه النظرة.

بعد أن أحتل وليام الفاتح إنكلترة عام 1066 قام بتقسيها الى اقطاعيات بين اصحابه من القادة حيث منح كل واحد منهم، والذي أصبح يدعى (لوردا) أي سيدا، أرضا بمن فيها من السكان لتصبح ملكه ويصبح سكانها عبيدا له. وقد أجاز الملك ويليام لكل من أولئك السادة الحق المطلق للتصرف بالأرض واهلها كما يشاء لقاء دفع الضريبة وتزويد الملك بالرجال في حالة الحرب. وحيث إن نظام الأرض الذي ساد في بريطانيا لألف سنة قضى بأن إقطاعية اللورد تعود لأكبر الأولاد الذكور من بعده فإن كثيرا من تلك الإقطاعيات ما زالت بأيد العوائل كما استحدثها وليام عام 1066.

وتشكلت طبقة النبلاء من هؤلاء الإقطاعيين. وتعاقبت على حكم انكلترة في القرون الوسطى عوائل متعددة من هؤلاء النبلاء. ولم تكن الفترة خالية من الصراعات لكنها كانت صراعات بين النبلاء والملك حول تقاسم السلطة. فلم يكن لعامة الناس أي دور أو رأي.

ويتحدث كثير من الناس عن الوثيقة المهمة الموقعة يوم 15 حزيران عام 1215 والمسماة (ماغنا كارته) أي (الميثاق الكبير) والتي أعطت النبلاء حقوقا محددة لمنع استبداد الملك خصوصا في باب الضرائب لكنها لم تعط الرعية أي شيء على أنها شاهد كبير على حقوق الإنسان في انكلترة. لكنها لم تكن وثيقة حقوق للإنسان بل كانت وثيقة إنتصار الإقطاعيين النبلاء على الملك.فقد أجبرت الملك على تشكيل مجلس يستشار في أمور الضرائب مما أعطى النبلاء سلطات جديدة.

وقد مر وقت طويل حتى أصبح هذا المجلس يعرف في منتصف القرن الرابع عشر بـ (البرلمان) وكان يتألف من رجال الدين والفرسان وممثلي المجالس البلدية. كان المجلس لا ينعقد بشكل منتظم بل يلتقي أحيانا ليعطي شيئا من النصح غير الملزم للملك. ولم يكن هناك إجراء لإنتخاب أو تعيين أعضاء ذلك المجلس مما يعني أن الملك كان يمدد فترة عمل أي مجلس كما شاء.

فقد شهدت العلاقة بين الملك والبرلمان مراحل متعددة يمكن لها أن تحدد مفهوم التطور السياسي التي أنتج ما يعرف بالديموقراطية اليوم. فقد تحكمت الملكة اليزابيث الأولى بين الأعوام (1558 – 1603) بالبرلمان بشكل كامل. فإضافة لتعيينها من تشاء في مجلس اللوردات الذي كان يتقاسم السلطة مع مجلس العموم فإنها كانت تتحكم بانعقاد المجلس وبجدول أعماله. لذا فإن المجلس لم يجتمع سوى 15 مرة طيلة فترة حكمها البالغة 45 عاما.

وقامت في بريطانيا بين الأعوام 1640 و 1688 اكبر اضطرابات سياسية مما لم تشهده بريطانيا لا من قبل ولا من بعد. فقد قامت حروب أهلية أكثرها على أسس مذهبية في الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت. ويجري تحليل تلك المرحلة بناء على نظرة الدارس لها. فقد حل الملك تشارلس الأول البرلمان ثلاث مرات ثم حكم فرديا بين الأعوام 1629 و1640. فقامت الحرب الأهلية بين الملك والبرلمان فانتصر البرلمان وأعدم اللك عام 1649 وتولى أوليفر كرومويل باسم البرلمان الحكم المطلق. وتوج ذلك الإضطراب بحركة عام 1688 والتي جاءت بالملكة ماري والتي ثبتت الملكية الدستورية وغيرت النظام الذي كان قائما على هيمنة النبلاء الى مشاركة الأغنياء من خارجهم مدعومين بنشوء حركة الأحرار والتي أصبحت منافسا لحكومة المحافظين التي كانت مهيمنة على مجلس العموم.

وجاءت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر لتنتج ظروفاً اجتماعية مثل التطور التقني وإعادة هيكلة نظام العمل والتغير في الخريطة السكانية في تزايد الهجرة للمدينة مما اقتضى تدخلا أكبر من الحكومة. ونتج عن الثورة الصناعية ولادة طبقة وسطى جديدة لم تكن معروفة في عصر الإقطاع والعبيد. وهذا استدعى تعديلا في نظام البرلمان لأخذ هذه التغيرات في الحسبان.

فولد قانون الإصلاح لعام 1832 والذي نتج عنه أن نسبة من يحق لهم المشاركة في الإنتخابات ارتفع من أربعة بالمائة الى سبعة بالمائة من السكان وذلك من خلال خفض مساحة الأرض التي يجب أن يمتلكها الفرد كي يحق له التصويت ذلك ان التصويت كان مقصورا على مالكي الأرض فمن لا يملك أرضا فلا حق له في التصويت. كما سمح القانون لمالكي الدكاكين والمزارعين من غير الملاك حق التصويت. وأدى هذا التوسع الى استحداث 67 دائرة انتخابية جديدة، حتى اصبح قانون الإصلاح لعام 1832 يعد ولادة الديموقراطية في بريطانيا. وكانت هي ولادة فقط وليست كما نعرفها اليوم.

وأعطت قوانين الإصلاح في عامي 1884 و 1918 حق التصويت لكل الرجال ممن كانوا فوق الخامسة والعشرين. كما سمح للنساء، ممن كن فوق الثلاثين، للتصويت للمرة الأولى. ثم سمح عام 1928 لكل النساء فوق الحادية والعشرين من العمر بالتصويت.

وشرع البرلمان في عام 1969 قانونا أجاز فيه لكل من هو فوق 18 من الرجال والنساء حق التصويت.

هذه النظرة السريعة لأهم مراحل نشوء الديموقراطية تخبرنا أن “أم الديموقراطية” الأوربية كما تسمي نفسها، ويسميها الآخرون، أخذت ثمانية قرون كي تصل لما وصلت اليه من الإعتراف بالحقوق وذلك بعد صراعات وحروب مذهبية وطبقية واجتماعية.

فأية مرحلة من مراحل ذلك التطور يريد المطالبون اليوم بنقل الديموقراطية تطبيقه في أرضنا؟

أهم يريدون تطبيق حق الإقتراع لمالكي الأرض فقط، كما كان الحال في بريطانيا عام 1832؟

أم هم يريدون تطبيق الديموقراطية البريطانية كما كانت عليه عام 1922، أي قبل قرن، حين لم يعط النساء دون العشرين من العمر حق التصويت؟

أم هم فقط يتحدثون في عالم فارغ من المحتوى لا لشيء سوى لأننا، كما اعترف به صاحبي، نعيش في عالم ينادي أغلبه بالديموقراطية ولا يمكن الوقوف في وجه هذا التيار حتى إذا كنا نجهل ما نريد؟

إن من لا يقدر أن يفهم أن ما أخذ الإنكليز ثمانية قرون كي يتطور لا يمكن أن يتحقق عندنا في سنوات، لا يحق له حتى أن يتحدث عن النظام السياسي المرجو لأنه يعيش خارج الحدث. ولست أنكر أن الوقت نسبي وأن ما أقوله لا يعني أننا بحاجة لثماينة قرون كي نصل لما وصل اليه الإنكليز، هذا على افتراض أني اريد الوصول لما وصلوا اليه ولست كذلك. لكني برغم ذلك أفهم أن تطور كل مجتمع له خصوصيته مما يحكم نتيجة ما يمكن أن يؤول اليه الحال.

إن من العبث الحديث عن نقل المثال السياسي البريطاني، أو أي مثال أوربي آخر فهي جميعها نتيجة تطورها الفردي، للتطبيق في المجتمع العربي الذي ما زال جزء كبير منه في حوار حول حقيقة ما دار في بيعة “السقيفة”، أو ما إذا كان “زواج المتعة” هو لون آخر من ألوان الزنا، أو أن الأرض مسطحة أم مكورة، أو غيرها مما يدعو للتوقف والتفكر في ما إذا كان المنادي بالتقليد الأعمى للنظم السياسية الأوربية معزولا حقا عن الواقع السياسي والإجتماعي العربي.

ليس سرا اني لست ممن ينادي بنقل الديموقراطية الأوربية للمجتع العربي. فلم أدعو لذلك يوما وإن كان أغلب من هم حولي يقولون بذلك!

سأحاول أن أكتب لاحقا عما أراه طريق الأمة السياسي الممكن.

فللحديث صلة…..

عبد الحق العاني

لندن في 31 كانون الأول 2022

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image