نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء الثالث والثلاثون

إلى أين: الدولة العربية الموحدة – “الديموقراطية” البريطانية (ثانية)

حاولت في الجزء السابق أن ألقي نظرة سريعة على نشوء وتطور الديموقراطية في بريطانيا من أجل البحث عن إمكانية نقلها لعالمنا ووعدت أن أكتب لاحقا عن ما أرجوه من نظام سياسي للأمة العربية. لكن ما كتبت حظي باهتمام قاد لأكثر من سؤال وتعليق مع طلب للتوسع في جوانب لم أتحدث عنها تخص الديموقراطية في بريطانيا فوجدت أن الموضوع يحتاج لأكثر من النظرة السريعة التي القيت. وها أنذا أعود للتوسع في الموضوع.

وأول اضافة لما كتبت يجب أن تبين حقيقة مهمة، ألا وهي أن الديموقراطية في بريطانيا هي شعار وليست حقيقة. فالمواطن الذي يعتقد أنه يمارس حقه الديموقراطي إنما يخدع نفسه إذا ظن أنه اذا اقترع فقد أثبت صدق الديموقراطية. فقد كان النظام السياسي في بريطانيا وما زال منذ قرون قائم على أساس صراع بين حزبين كانا حزب المحافظين وحزب الأحرار ثم تحول في القرن العشرين الى صراع بين حزب المحافظين وحزب العمال. وهكذا فان سلطة الحكم حكر على هذين الحزبين. والعضوية في أي من الحزبين لا تتجاوز مائتي ألف. ونتيجة كل ذلك هو أن أي حزب يختار زعيمه بطريقة لا يفهمها المواطن وبصفقات بين مصالح متعددة. وينتهي الأمر في أن المواطن العادي لا دور له في اختيار زعامة أي من الحزبين المتنافسين، كما ان المواطن العادي لا دور له في البرنامج السياسي الذي يعلن عنه الحزب في حملته الإنتخابية. لذا فإن الناخب حين يصوت لأحد الحزبين إنما يختار بين أحد اثنين لا دور له في طريقة اختيارهما بالأساس ولا دور له في ما يمثلان. ولن أبحث في سبب عدم نشوء أحزاب جديدة فهذا موضوع لا يسعه مقال واحد، لكني لا بد أن أنتهي بالسؤال: ترى أين تمارس الديموقراطية حقا في ظل هذا الواقع، خصوصا إذا كان بالإمكان أن ينتخب لحكم البلاد من لا يمثل حتى أغلبية السكان؟

وكثيرا ما تشهد بريطانيا انتخابات تأتي برئيس وزراء يمتلك أغلبية كبيرة في البرلمان ويحدث هذا على الأخص بعد حكم أحد الحزبين لفترة طويلة فتسوء الأمور وتتعب الناس من الوجوه وتطمح في تبديلها. فيتمكن رئيس الوزراء في حالة كهذا، وهي ليست حالة نادرة، أن يمرر أي قانون يشاء لأن أكثر النواب معه يحرصون على دعمه لضمان مواقعهم ومصالحهم الذاتية في البقاء في الحكم. فتولد قوانين ظالمة لكنها تولد في النظام الديموقراطي وتكتسب ذات القدسية والقوة كأي قانون آخر، ولا ينتقد أحد أيا منها كما يحدث في حال صدورها في دولة من الدول النامية. ومثال ذلك ما حدث في قانون مكافحة الإرهاب فقد جرم القانون دعم الحركات الإرهابية أو حتى التعاطف معها عن طريق الإتفاق مع أفكارها، أي بمعنى أدق جرم القانون النية وليس العمل وهي حال لا وجود لها في بقية الجرائم. فحكم على عدد كبير بهذه الشكل. فإذا علمنا أن القانون أجاز لوزير الداخلية سلطة إضافة اية حركة أو حزب الى قائمة الإرهاب فإن بالإمكان أن تقوم حالة يدان فيها الفرد ويُحْكمُ عليه لمجرد أنه وجد على حاسوبه فلم أو بيان يمجد حركة “حماس” أو “حزب الله” على سبيل المثال. ولو قام بلد مثل السعودية أو إيران بفرض عقوبة كهذه على حركة سياسية لأقام الإعلام البريطاني الدنيا ولم يقعدها. لكنه حين يحدث في بريطانيا فإنه يحدث في ظل النظام الديموقراطي وعلى وفق القانون فيسكت عنه!

وهذه السلطة المطلقة للبرلمان الذي يأتمر، في واقع الحال، بإمرة شخص واحد تمكن رئيس الوزراء من تغيير أي قانون يتعلق بحقوق الإنسان وحريته لأن تلك الحقوق والحريات في ظل النظام الديموقراطي ذلك هي هبة من السلطة وليست حقوقا ثابتة تتعلق بكرامة الإنسان وحريته. وما دامت هبة فإن البرلمان يمكنه أن يعدلها أو يلغيها. ولا ينفع الإدعاء بوجود قضاء عادل في تحجيم هذا الإستبداد لأن ذلك القضاء محكوم بسلطة وقوانين البرلمان المقيدة. وفي هذا يتساوى ضمان حقوق الإنسان بين النظم المستبدة وبين ديموقراطية بريطانيا.

ولعل من أكثر ما يدين ويشين نشوء وتطور النظام الديموقراطي في بريطانيا هو وضع المرأة. فقد كتبت في الجزء السابق كيف أن المرأة لم تعط حق التصويت إلا في القرن العشرين. ولم أوضح سبب هذا أو ما يلحق به أو ما يترتب عليه. فالسبب عميق عمق تأريخ المجتمع البريطاني. وهو أمر خطير ليس فقط في حد ذاته ولكن جهل العرب به يكاد يكون سببا للتوقف والتفكر في النقل والتقليد.

فالمرأة لم تكن تمتلك اية حقوق في المجتمع الإنكليزي قبل القرن العشرين. ذلك أن المرأة في بريطانيا كانت ملك الرجل بكل معنى الكلمة فهي تفقد اسمها عند الزواج وتأخذ اسم زوجها. وما ان تتزوج حتى تنتقل ملكيتها كلها لتصبح ملك زوجها أي أنها لا تعود تمتلك أي شيء باسمها، وهذا يبين سبب أن أكثر القصص تتحدث عن جهد الرجل الفقير للبحث عن زوجة ثرية ليتزوجها فيمتلك ثروتها فتصبح له مكانة إجتماعية. وقد يكون من باب السخرية أن المرأة اذا ما سرق منها شيء فأن السرقة ينادى بها في المحكمة على أنها ملك زوجها. لكنه هذا حال بريطانيا حتى بداية القرن العشرين. وفي نظر القانون كانت المرأة كالطفل لا تمتلك صفة الإستقلال الإجتماعي أو السياسي أو القانوني، وهذا يفسر أن أول امرأة دخلت البرلمان البريطاني كانت نانسي أستور 1919.برغم أن البرلمان ولد قبل قرون من ذلك.

وحق المرأة في الملكية متعلق بحقها في الإرث وهو الحق الذي عرفه نساء المسلمين منذ القرن السادس لكن المرأة الإنكليزية لم تكتسبه إلا في القرن العشرين. ذلك أن فقدان المرأة لحقها في التملك حتى لثروتها قبل زواجها قد مَرَّ بعدة تعديلات قانونية كان أولها قانون 1870 في عهد الملكة فيكتوريا والذي سمح لأول مرة للمرأة أن تمتلك المال الذي تكسبه بعد زواجها. ثم جاء قانون 1882 ليعدل ذلك فسمح للمرأة وللمرة الأولى أن تمتلك ثروتها بنفسها دون أن تعود الملكية للزوج كما كان سائدا حتى ذلك الوقت.

وجاء قانون الملكية لعام 1922 ليعطي المرأة حقها في أن ترث زوجها وأن تشاركه في إرث أولادهما.

وسمح قانون 1926 ولأول مرة، أن تتساوى المرأة مع الرجل في التملك والتصرف بالثروة.

إن الغاية من كل ما ذكرته في هذا الجزء والجزء السابق هو تبيان المراحل التي مر بها التأريخ الإنكليزي الذي أنتج النظام السياسي الموسوم بالديموقراطي والتي تجعل محاولة النقل غير عقلانية بل غير ممكنة. ولم أكتب تحليلاً عما أعتقده مصيبا أو غير مصيب ولم أحاول أن أعرض محاسن النظام أو عيوبه. إنما أردت أن أبين أن النظم لا تنقل للأسباب الواضحة كما بينت. واذا كان هناك من يريد نقلها فليقل لنا ما الذي سينقله ولماذا وكيف يتطابق مع حالنا القائم؟

سأحاول أن أكتب لاحقا عما أراه طريق الأمة السياسي الممكن.

فللحديث صلة…..

عبد الحق العاني

لندن في 20 كانون الثاني 2023

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image