أين أخطأ بوتن وأين أصاب؟ (3)

الحرب في أوكرانيا

قد اختلف مع أكثر العرب في نظرتي لما يجري في أوكرانيا، ذلك أن أغلب العرب المتابعين لما يحدث في أوكرانيا ينقسمون الى قسمين: قسم مندفع في تأييد بوتن لقناعة مغلوطة في أن بوتن يقف مع العرب دون أن يكلف نفسه التأمل الدقيق في موقف بوتن من قضايا العرب، وقسم يعارض بوتن بالكلية لأن قلبه في الغرب، وأهل هذا القسم في عمى عن الحقائق فما أن تقوم بتذكيرهم في أن الغرب فعل في العراق أكثر بكثير مما يفعله بوتن في أوكرانيا، ما أن تفعل ذلك حتى ينتقل حديثهم الى جرائم إيران في العراق!

إن نظرتي لما يحدث في أوكرانيا مبنية على فهمي لحقيقة سياسية وتأريخية عمرها قرون حاول بوتن أن يقفز فوقها أو يتناساها لكنه فشل وأقر أخيرا بها ضمنا، وإن لم يكن صراحة. وقد وجدت صعوبة في إقناع أصدقائي ومحاوري بها برغم اطلاعهم وفهمهم. حيث يعتقد أغلب العرب المتابعين بأن الصراع الذي قام في أوربا كان بين الشيوعية والراسمالية، وربما بدا كذلك. لكنه في حقيقة الأمر أعمق من ذلك فربما صبغه الإختلاف الإقتصادي بتلك الصبغة فغطى على حقيقة جذر الصراع. 

إن هناك انقساماً كبيرا في أوربا بين مجموعة القبائل الجرمانية التي استوطنت وسط وغرب أوربا، ثم انتقلت للتطهير العرقي للقارة الأمريكية واستراليا ونيوزلندة، وبين مجموعة القبائل السلافية التي استوطنت شرق أوربا. وبدون حاجة للنظر في مراحل التأريخ لهذا الصراع نكتفي بايراد أربعة أمثلة، حديثة في وقوعها، تدل في حصيلتها على أن هذا هو جوهر الصراع لأنه واضح من أنه برغم إختلاف الأسباب الظاهرية له إلا أنه واحد في جوهره. 

فقد حشد نابليون في 1812 أكثر من نصف مليون أوربي وزحف يريد خراب موسكو دون أن يكون هناك سبب، حيث لم تكن موسكو تهدد فرنسا أو أطماعها في العالم.

وشاركت بريطانيا وفرنسا المسيحيتين بجيشيهما عام  1853 لدعم الدولة العثمانية المسلمة في صراعها مع روسيا المسيحية للسيطرة على شبه جزيرة القرم دون أن يكون لأي من الدولتين أي شأن بما يجري في البحر الأسود (وهو في الحقيقة شبه بحيرة كبيرة) بين دولتين جارتين عليه.

 وأعلن هتلر الجرماني في عام 1941 حربه المدمرة على روسيا السلافية والتي انتهت بانتصار الأخيرة بعد واحدة من أكبر الخسائر في التأريخ ولم يكن هتلر ليخفي كرهه للسلاف حتى يحتاج الأمر لكثير عناء في التفكير.

وأخيرا وليس آخرا شنت، القبائل الجرمانية، التي أصبح يقودها الأنكلوساكسون، بواسطة أداتها العسكرية في حلف شمال الأطلسي، بين آذار وحزيران 1999، حربا مدمرة على صربيا السلافية وخربتها وقتلت أهلها دون أن تكون هذه الأخيرة قد اعتدت أو هددت أيا من القبائل الجرمانية.

ونحن نعرف هذه الحقائق سواء ذكرتنا بها أم لم تذكر وسائل الإعلام الروسية كما تفعل اليوم حين تعيد للذاكرة تلك الحروب وأكاذيب الغرب عن العراق وسورية. فنحن نفهم كل ذلك من خلال فهمنا لحقيقة أن الصراع سببه اصرار الصهيونية العالمية، والتي عرفناها بانها القوة السياسية التي تمثل نظام الإقتصاد اللبرالي الجديد الذي حل محل الرأسمالية والذي يحكمه رأس المال اليهودي، على الهيمنة المطلقة على العالم. ولم يخف الصهاينة ذلك حين صرحوا أخيرا بأن مساعي روسيا والصين اليوم هي لتغيير النظام الدولي الذين يعدونه ملك أيديهم ولا يجوز تغييره. لكن قيادة بوتن لا تفهم ذلك أو لا تريد الإعتراف بهذه الحقيقة، فتجد لها شعارات بائسة مثل محاربة النازية.

ذلك أن بوتن يتحدث عن أن الحرب في أوكرانيا والتي تواجه فيها روسيا حلف شمال الأطلسي وأوربا الغربية بأجمعها عسكريا وسياسيا واقتصاديا هي حرب ضد النازية أو الفاشية، وهذا اليوم هو شعار الدولة الروسية واعلامها. وهو أمر يدعو للسخرية. أليس هذا الإدعاء يعني أن حلف شمال الأطلسي، الذي صنف روسيا عدوا رئيسا له، والإتحاد الأوربي والذي هو في أغلبه في الحلف، هي أداوت فاشية أو نازية؟ وهل يوجد مراقب في العالم يقبل بهذا الهراء؟ فأين هي الفاشية في حلف شمال الأطلسي؟ نعم هناك حركات فاشية في كل دولة أوربية بما في ذلك روسيا نفسها. لكن هذا لا يعني أن هناك مشروعا فاشيا أو نازيا يقاتل روسيا اليوم.

وهذه الحقيقة هي محنة بوتن التي لا يجد لها حلاً. فهو يعرف أن حربه مع حلف الأطلسي، والتي يعترف الحلف وروسيا أنها قائمة، ليست بين روسيا والنازية، وإنما هي بين روسيا والصهيونية العالمية. لكنه في الوقت ذاته لا يقدر أن يعترف بذلك لأنه إن فعل ذلك فسوف يجب عليه أن يتخلى عن مبدأ الدفاع عن الروس في إسرائيل أولا وأن يتخذ موقفا معاديا لإسرائيل ثانيا وأن يواجه قوة اليهود التي تمسك بمرافق الدولة الروسية ثالثاً، لكن الأهم من كل ذلك هو أن اعترافا كهذا سوف يتناقض مع قلبه المتعاطف مع الصيهونية. من أجل ذلك لم يجد سوى عذر واه كخيط العنكبوت في إدعائه أنه يحارب الكتائب النازية في أوكراينا والعالم يعرف أنه يحارب التجمع الأوربي الذي يقوده الأنكلوساكسون الصهاينة!

إن قبول هذا الإستنتاج يقود لفهم مواقف بوتن وسياسة روسيا من قضايا العرب في العراق وليبيا وسورية واليمن وفلسطين. فسكوت بوتن عن قصف اسرائيل لسورية ليس بسبب أنه لا يستطيع أن يعترض على ذلك بسبب قصفه هو لأوكرانيا ذلك ان قصف اسرائيل لسورية حدث منذ سنوات قبل قصف أوكرانيا ولم يأت كرد فعل على قصف سورية لإسرائيل كما هو الحال في أوكرانيا. وسياسة روسيا حول فلسطين عارية بشكل لا تستحق أي تعليق. وقد لخصها لافروف في المؤتم الصحفي يوم 9 آذار 2023 مع وزير خارجية السعودية الحريصة جدا على مصالح الفلسطينيين!

وبرغم كل ذلك فإن الحرب القائمة بين روسيا والصهيونية العالمية، سواء أقر بوتن بذلك أم لم يقر، يمكن أن تنتهي بسياسة جديدة لروسيا تقر فيه هذه الحقيقة. وقد يتم هذا على يد بوتن الذي سيجبر على قبولها والإقرار بها وسحب مبدأ الدفاع عن اليهود في اسرائيل. أو قد يتم ذلك على يد من يخلف بوتن من الوطنيين الروس (باستثناء مدفيدف).  ذلك لأن الحرب، أي حرب، تأتي بحقائق جديدة وتخلق واقعا قد لا يتطابق مع ما كان قائما قبل بدايتها. وهذا يشير عندي الى حتمية إقرار اي زعيم لروسيا، سواء أكان بوتن أم غيره، بأن صراع روسيا التأريخي هو ليس ضد النازية أو الفاشية كما يحلو لبوتن اليوم وصفه بل هو صراع بين المشروع الصهيوني الذي يقوده الأنكلوساكسون وبين روسيا السلافية كجزء رئيس من صراع الأول ضد أي وجود في العالم يرفض هيمنته تماما كما هو الحال في الصراع مع العرب الرافضين لهيمنته. يومها سوف يكون هناك توافق بين روسيا وبين الأمة العربية على مشروع نظام عالمي يحترم حق الشعوب في حرية القرار السياسي.

هل أصاب بوتن في دخول أوكرانيا 

قد  أجد أني اختلف مع بوتن  في سياسته وأهدافها لأني أراها متماشية مع المشروع الذي يهدد وجود الأمة العربية، لكني في موضوع دخوله أوكرانيا أتفق معه. وقد يكون ما يريد بوتن تحقيقه ليس متفقا مع ما أريده لكني أتفق معه لأني أرى أن عمله قد يحقق ما أصبو اليه من تغيير في النظام العالمي.

لن أتحدث كخبير من خبراء “المقاعد المريحة” الذين يتحدثون عن الحرب ومراحلها وما سيحدث وما كان يجب أن يحدث. فذلك حديث يحتاج للنظر في عشرات العوامل التي هي ليس بين أيدي الناس. لكن عندي ثلاث ملاحظات على وضع روسيا في الحرب أجد من المهم الإشارة اليها لأنها تعكس حقيقة مقدرة روسيا العسكرية والإستخباراتية كما تعكس أفكار بوتن حتى لحظة بداية العملية العسكرية.

فالملاحظة الأولى هي سؤال مشروع يدور على الألسن: لماذا لم تدخل روسيا الى اقليم الدونباس عام 2014 حين بدأت قوات كييف القصف والقتل؟ فقد كانت كييف لا تمتلك السلاح ولا الإستحكامات التي امتلكتها عام 2022 بعد أن قضت الصهيونية العالمية ثمانية أعوام من الإعداد والتموين والتحصين مما جعل الحرب أعلى كلفة بكثير لروسيا كما نشهد اليوم. إن الإدعاء بأن روسيا كانت تعتقد بجدوى الإتفاق مع الأوربيين يدعو للسخرية حقا، فمتى احترمت الصهيونية أي التزام لها! إن السبب الحقيقي لتأخر بوتن في انقاذ الدونباس هو انه كان ما زال يطمح حقا في أن يقبله النادي الصهيوني عضوا فيه لذا فإن التأخر في أي عمل عسكري كان بمثابة أوراق اعتماد لحسن السلوك والنية الحسنة. وحين تأكد أن هذا لم ينفع بعد ثلاثين عاما من الأمل والسعي اضطر للتحرك وكان مع ذلك ما زال يعتقد أن هناك أملاً في القبول، لذا فهو يتحرك ببطء وتوجس تاركا كل الأبواب مفتوحة برغم تأكيد الصهيونية أن لا عودة عن مشروعها في اسقاط روسيا وتفتيتها.

أما الملاحظة الثانية فتدور حول ضعف الإستخبارات الروسية: فبرغم التأريخ الطويل لروسيا في أوكرانيا فإن من الواضح أن الإستخبارات الروسية لم تكن بالمستوى المطلوب عشية الدخول إلى أوكرانيا. ولا أريد الدخول في تفاصيل طويلة عن هذا الفشل لكن يكفي التذكير بأن روسيا لا تمتلك معلومات جيدة عن طرق نقل السلاح والعتاد من حدود بولندة الى داخل العمق الأوكراني. فالقوات الروسية التي تمتلك الطائرات المتقدمة ومنظومات الصواريخ الدقيقة لم تتكمن من إيقاف نقل السلاح والعتاد الأمريكي من حدود بولندة الى مدينة خأركوف التي تقع على مرمى حجر من روسيا في غرب أوكرانيا وعلى بعد مئات الكيلومترات من حدود بولندة. وهذا لا يمكن أن يفسر إلا بفشل الإستخبارات في تحديد سبل وطرق التموين. وهذا يؤكد لي أن روسيا قد تمتلك صواريخ أسرع وأدق مما تمتلكه الصهيونية الأمريكية مثلاً لكنها تفتقر الى الرصد والإستكشاف الذي عند الأخيرة والذي يوضع كل دقيقة في خدمة القوات الأوكرانية والذي يمكنها بدوره، برغم كل قصور أوكرانيا العسكري، من تحقيق ضربات دقيقة ومدمرة أحياناً كما حدث في إغراق الطراد “موسكو”.

والملاحظة الثالثة تترتب على الملاحظة الثانية: فإذا كان ضعف المخابرات الروسية سبب عدم مقدرة الجيش الروسي على رصد نقل السلاح والعتاد فإن هذا لا يجيب عن سؤال آخر ليس أقل تردداً على الألسن. فبعد مضي عام على تحرك القوات الروسية ما زلنا نسمع ونرى فاعلية معينة للقوة الجوية الأوكرانية مما يعني أن أوكرانيا ما زال فيها حتى اليوم مطارات عسكرية يمكن فيها للطائرات أن تقلع وتهبط. فكيف يعقل ان روسيا، التي تمتلك أفضل الصواريخ والطائرات، لم تتكمن بعد عام من تدمير المطارات العسكرية الأوكرانية لتأمين هيمنة مطلقة لقواتها على الأرض. إن بامكان أوكراينا أن تخفي طائراتها في مخابئ تحت الأرض لكنها لا تستطيع أن تخفي مطاراتها!

بعد هذا يمكنني الحديث عما يريده بوتن من الحرب وما أطمح أنا أن ينتج عنها. هذا ما سأكتب عنه في الجزء القادم.

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

10 آذار 2023

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image