أين أخطأ بوتن وأين أصاب؟ (4)

ما الذي سينتج عن الحرب؟

إن بوتن لم يدخل الحرب إلا بعد أن تيقن أن الذين كان يسميهم هو ولافروف لسنوات بـ “الشركاء”، ولعمري لا أدري ما كان يريدهم شركاء في أي شيء سوى مشروع الصهيونية للهيمنة على العالم، تيقن أولاً أنهم لا يريدون الروس شركاء معهم. وثانيا وهو الأهم أدرك بوتن أنهم ليسوا فقط لا يريدون الروس شركاء ولكنهم جادون في العمل على تفتيت، ليس حلفاء روسيا فحسب، بل على تفتيت الشعب الروسي نفسه الى دويلات يمكن دعم بعضها ضد بعض للإبقاء على الهيمنة، كما فعلوا في القرون الثلاثة الماضية في السيطرة على العالم. إن هذه الحقيقة التي أدركها بوتن في عام 2022 هي من بديهيات السياسة التي يعرفها اي مراقب في الدول النامية التي خضعت لهيمنة الأنكلوساكسون.  وقد أكدها أكثر من مسؤول غربي وعلى الأخص الأنكلوسكاسون منهم خلال هذا العام حين أكدوا أن ما تفعله روسيا يهدد النظام العالمي. فقد أعمتهم وقاحة الإستكبار لحد الإعتراف بأنهم يؤمنون بأن لهم الحق في الهمينة على العالم،  وأن أية محاولة لتغيير ذلك سوف تغير النظام العالمي دون أن يعطوا اي مسوغ لهذا الحق أو وجوده أو ديمومته. فكيف غابت هذه الحقيقة عن بوتن بعد كل خبرته وممارسته؟ أليس هناك تصور أنه كان حقاً يعتقد أن القواعد التي طبقت على العالم الجنوبي لا تطبق عليه لأنه أوربي بينما لا يعرف الغرب أن هناك أوربيا سوى القبائل الجرمانية وكل بقية العالم ثانوي لها بما في ذلك الروس ومن معهم من السلاف!

لقد كان بوتن مصيبا في دخوله أوكرانيا من أجل الدفاع عن شعبه الذي كان يواجه امتحانا في وجوده. لكن الأهم عندي هو أن بوتن في عمله العسكري قام بأكبر من مجرد الدفاع عن شعبه وإنما أعاد الحياة لحقيقة مهمة غطى عليها التفاهم الدولي منذ الحرب العالمية الثانية. فقد قررت الصهيونية منذ الحرب العالمية الثانية أن حدود الدول التي رسمتها هي لا يمكن تغييرها إلا بموافقتها هي متى شاءت. فحين قررت تغيير خريطة يوغسلافيا فإنها جعلتها دولا متناحرة وأعادت رسم خريطة وسط أوربا بالدم والنار. أما حين حاول العراق استعادة الكويت، التي اقتطعتها الصهيونية، فإنها عدت ذلك تجاوزا لا يمكن أن يحدث فإوقعت في العراق دمارا وخرابا لم يشهده بلد آخر. ولما كنت على يقين بأن روسيا بوتن لا يمكن أن تخسر هذه الحرب في أوكرنيا فإن أية نتيجة لها سوف تكون بتعديل الحدود التي قسمت الشعب الروسي والتي رسمت في ظروف فقدان الشعب الروسي لحريته في تقرير مصيره بعد عبث وفشل مخلفات الشيوعيين. وهذا يعني أن بوتن نسف قاعدة عمرها عقود تقضي بقدسية الحدود التي رسمتها الصهيونية وبعث الحياة في القاعدة القديمة والتي تقضي في أن لا قدسية للحدود والتي يكفي النظر الى خريطة أوربا لثلاثة قرون لفهمها حيث يتضح كيف تغيرت حدود أوربا خلالها.

 

وبرغم قناعة بوتن السابقة في أن مستقبل روسيا يكمن في الإلتحاق بمشروع الرأسمالية الصهيونية التي كان يشير لأهلها على أنهم “شركاء”، برغم ذلك فإن الشعب الروسي لن يسمح لا لبوتن ولا لمن يأتي بعده أن يسير في طريق أية شراكة مع  الصهيونية التي قتلت وجرحت الآلاف من أبنائه الذين قاتلوا في أرض روسيا الوطن الأم.  وهذا يعني أن بوتن سوف يلزم، وان رغب خلاف ذلك، بعدم مسايرة الصهيونية بعد اليوم في العدوان على دول عالم الجنوب أو الدول النامية، او العالم الثالث كما كانت تسميه الصهيونية حين كانت تقرر حتى مسميات أطراف الأرض، ومن ذلك تسميتها منطقتنا بالشرق الأوسط وهي في الحقيقة مركز الأرض ولكنها “أوسط” بالنسبة لعاصمة الصهيونية العالمية في لندن. سوف يصبح لزاما على بوتن أن يقف موقفأ متطابقا مع ما يكشفه إعلام روسيا عن تجاوزات الصهيونية خلال السبعين عاما الماضية. 

 

فلن يعود بمقدور روسيا أن تسكت على تجاوزات إسرائيل على جيرانها. لكن الأهم في نظري هو ليس فقط عدم السكوت على تجاوزات إسرائيل على كل من حولها بل وربما أبعد من ذلك. إنما هو موقف روسيا الصريح من السلاح النووي الإسرائيلي. فلن يعود بامكان روسيا أن تفعل ما فعلت في نزع سلاح العراق وليبيا وسورية وتظل صامتة عن السلاح الإسرائيلي المدمر، وكأن الأمر لا وجود له.  إن روسيا تدرك يقينا أن سبب سعي دول في منطقتنا لإمتلاك أي من اسلحة الدنار الشامل هو كون إسرائيل تمتلكها كلها. فإذا أرادت روسيا حقا منع الإنتشار فإن الحل الوحيد هو الإلتزام بقرار أممي، كما فعلت في حال العراق، لجعل المنطقة خالية من كل اسلحة الدمار الشامل ونزع سلاح الدولة التي ترفض ذلك بالقوة.

 

ولكن حتى يحين ذلك ويتحقق فإن هناك أمراً آخر لا يقل خطورة يجب على بوتن فعله كي يثبت للعالم قناعته في أنه يسعى حقا لخلق نظام عالمي جديد. فقد أعلن بوتن قبل أيام أنه يريد أن يضم السلاح النووي البريطاني والفرنسي في أية جولة جديدة للمباحثات مع الولايات المتحدة. وذلك مطلب طبيعي بحكم أن سلاح هاتين الدولتين هو متمم لسلاح الولايات المتحدة في أي اشتباك محتمل.  لكن ما أغفله بوتن، وما كان له أن يغفله، هو أنه أهمل الإشارة الى ضرورة ضم السلاح النووي الإسرائيلي الى جانب الولايات المتحدة. إذ انه من غير المعقول أن يعتقد بوتن أن اي صدام نووي بين الولايات المتحدة وأية جهة أخرى في العالم سوف لن تشارك فيه إسرائيل الى جانب الأخيرة. إن من لا يعتقد أن هذا هو حال التحالف داخل الصهيونية العالمية لا علاقة له بالسياسة ولا بالتأريخ!

 

النظام الدولي الجديد 

إن ما نريده نحن العرب أن تؤدي حرب أوكرانيا الى نظام دولي جديد يمكن دول الجنوب بما فيها نحن من المقدرة على العيش على وفق ما تختاره تلك الدول وليس كا يقرره آخرون لها. إن ما نطمح فيه هو أن أية تسوية بين روسيا والصهيونية تؤدي بشكل موجز الى ما يلي.

  1. تشكيل منظمة جديدة تحل محل منظمة الأمم المتحدة التي لم تعد صالحة للهدف الذي يعتقد أنها أنشأت من أجله. ففي أعقاب الحرب العالية الثانية لم يكن عدد الدول المستقلة ليتجاوز الخمسين وهي اليوم توشك على المائتين. فالميثاق الذي صادقت عليه أقل من خمسين دولة لم يعد يصلح للمائتين التي لم تشارك في اعداده.
  2. يجب ألا تضم الهيئة الجديدة مجلس أمن كما هو  قائم الآن. وإذا وجدت دول العالم أنها ترغب في هيئة تمثل الأمم المتحدة في حماية الأمن والسلم العالمي فإن مجلس الأمن الجديد لا يمكن أن يعيد عيوب مجلس الأمن الحالي. ومنها:

1. لا يمكن أن يكون لمجلس الأمن الجديد أعضاء يمتلكون حق النقض الذي يمنح دولة واحدة سلطة تعطيل راي دول العالم الآخرى مجتمعة.أ

2. ن تكون عضوية مجلس الأمن الجديد دورية فلا أعضاء دائميين وأعضاء مؤقتين حتى يمكن لكل دول العالم أن تشارك في عضويته لتحقيق قاعدة التساوي في المسؤولية.

3. أن تخضع قرارات مجلس الأمن للجمعية العامة في القبول والنقض خلاف ما هو الحال في مجلس الأمن القائم.

4. ألا يشارك عضو في مجلس الأمن في التصويت على أي قرار يتعلق بذلك العضو.

5. أن تشكل محكمة العدل الدولية من قاض من كل دولة وتنظر كل هيئة من المحكمة في قانونية أي قرار يصدر عن الجمعية العامة أو مجلس الأمن. وأن يكون للمحكمة سلطة الحكم في أية خصومة بين اي عدد من الدول الأعضاء  وتكون أحكامها ملزمة وتنفذ بالطريقة التي  تقررها المحكمة.

6. أن تكون العضوية في هيئات اللجان المنبثقة عن الجمعية العامة ممثلة للقارات والدول وليست أوربية في الغالب كما هو الحال الآن.

7. ان يحرم الميثاق الجديد فرض عقوبات جماعية على أي بلد وأن يجعل أية محاولة لدولة ما فرض عقوباتها بالقوة أو إجبار دول أخرى على فعل ذلك جريمة.أ

8. ن يمنع الميثاق قيام الأمم المتحدة أو مجلس الأمن في تفويض أية دولة أو عدد من الدول القيام بغزو دولة أخرى أو القيام باي عمل عسكري ضدها. فإذا وجد مجلس الأمن أن الأمم والسلم الدولي تقتضيان القيام بعمل عسكري محدود فيجب أن يتم ذلك بإشراف الأمم المتحدة وبقيادتها وبقوة تفوضها هي فقط.أ

9. ن تخضع قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن لقواعد القانون الدولي التي أعترفت بها وقبلتها دول العالم.

10.لا يحق للجمعية العامة ولا لمجلس الأمن اتخاذ قرار أو إجراء بنزع سلاح دولة ما حيث إن حق الدولة في التسلح جزء اساس من السيادة ولا يمكن لدولة إلغاء سيادة دولة أخرى في نزع سلاعها.

11. لا يحق للجمعية العامة أو مجلس الأمن اتخاذ قرار أو إجراء بمنع أسلحة الدمار الشامل ضد دولة ما في وقت تمتلك دول أخرى سلاحا مشابها. إن نزع أسلحة الدمار الشامل يجب أن يكون مهمة عالمية تنفذها كل الدول وتطبق على كل الدول بالتساوي والتزامن.

12. تثبيت حق الشعوب في تقرير مصيرها برغم الحدود التي أفرزها النظام الإستعماري في القرنين التاسع عشر والعشرين.

13. يجب العمل الجدي على اقامة نظام مالي عالمي متحرر من قيود عملة واحدة أو دولة واحدة من أجل الخروج بنظام لا يمكن فيه لطرف أو دولة أن تتحكم بسوق المال والتجارة مما يمكن طرفا من فرض حصار على طرف آخر.

هذه أمثلة من التغيير الجذري الذي يتطلع عالم الجنوب له، ويأمل أن العمل العسكري الذي بدأه بوتن قبل عام سيقود لعالم تكون هذه ضوابط العلاقات فيه. فإذا نجح بوتن في تحقيقها أو تحقيق عدد منها فسوف يكون إدعاؤه صادقا ويكون قد اصاب، أما إذا فشل فسوف يكشف عن نفاق يخفي محاولة لإيجاد استعمار جديد لا ينفع أحدأ في عالم الجنوب المستغل والمستضعف.

 

عبد الحق العاني

18 آذار 2023

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image