أتعاد كارثة العراق في سورية؟

أبتدأ اليوم من حيث انتهيت آخر مرة حين كتبت قبل عشرة أيام:

أما ما يمكن أن يحدث بعد التأجيل فقد نعود له في حديث آخر!

وقد أتهم في أني اثبط عزيمة مقاتل أو أضعف ثبات مرابط، ولست أياً من هذا ذلك لأني أكتب بألم وعن خوف… فلست ممن تحملهم العواطف فيتكلمون في عالم غير واقعي. ذلك لأن من أهم قواعد الثورية أن يدرك من فيها كل العقبات بل أن يتوقع أسوأ المشاهد المحتملة.

واليوم وبعد أن تأجل الغزو العسكري تواجه سورية مشروعاً لا يقل خطورة عن الغزو العسكري. ويتلخص في مشروع تحاول الصهيونية فرضه عن طريق مجلس الأمن لتحقق ما عجزت عن تحقيقه من خلال موجة الظلمة التي غطت بها سورية لأكثر من عامين. وهذا المشروع يسعى لنزع سلاح سورية بدون قتال أو حتى مجازفة!

وقد يقول قائل أني أقفز لنتائج دون دراسة لأن القيادة في سورية تدرك ما تفعله وهي لن تسمح بذلك مطلقاً. لكن الأمر في حقيقته لا يبدو كذلك. وربما لا تملك القيادة السورية خياراً أفضل من هذا لأنها وصلت لهذا الوضع بعد فشلها في حسم المعركة قبل أكثر من عامين بل لأنها عجزت، حين كان يجب، أن تحسمها في الأشهر الثلاثة الأولى التي بدأ فيها تنفيذ المؤامرة مهما كانت الخسائر لأن هذا هو عين منطق الأشياء!. أقول إن الأمر ليس كذلك لأن موافقة سورية على وضع سلاحها الكيميائي تحت إشراف دولي هو نزع للسيادة وقد يكون العذر أنه أفضل من تعريض سورية لدمار كبير قد يقود لإنهيارات تسمح للظلمة أن تحكم سورية… لكن هذا لا يغير من حقيقة أن موافقة سورية هو إقرار من الحكومة السورية بإنتقاص سيادتها ذلك لأن سيادة أية دولة على أرضها وسمائها ومائها وبشرها وجيشها واقتصادها ليست أموراً معروضة للمساومة. كما ان المهم في هذا هو أن أية خطوة في هذا الطريق تقود لخطوات أخرى حتى تكتشف الدولة أخيراً أنها لم تعد تمتلك أية سيادة مما يمكن عدوها أن يبتعلها أو يفتت كيانها.

وهذا ما حدث في العراق…. وقد يقول قائل إن سورية ليست العراق وهذا صحيح وإن الوضع الدولي اليوم ليس ما كان عليه عام 1991 و 2003 وهو صحيح وإن سورية لديها حلفاء ولم يكن للعراق حلفاء وهذا صحيح أيضاً…

لكن مقابل كل ذلك يجب أن ندرك حقيقة تقلب هذا الميزان الذي يبدو في صالح سورية إذا ما قيست بالعراق عام 1990. وتلك الحقيقة هي ان العراق عام 1990 لم يكن يشكل خطراً حقيقياً على اسرائيل، والتي من أجلها يجري كل شيء في أرضنا ومن أجلها خربت وتخرب دولنا ومن أجلها يعتدي علينا الغرب مرة واحدة على الأقل في كل عقد (1948، 1956، 1967، 1973، 1982، 1991، 2003، 2006) ويتعامل معنا بطريقة وصفها أحد أصدقائي بأنها لا يمكن حتى أن تشرح فضلاً عن أن تفهم!

وقد نزع سلاح العراق ثم جوع ثم غزي ثم شرد أهله وقسم مذهبياً وترك دولة وهمية بلا جيش ولا سلاح ولا أمن ولا أمان ولا ضمان لمجموعة من اللصوص وشذاذ الأفاق الذين جيء بهم من أنحاء الأرض حيث كان يعملون في سوق السمسرة والعمالة والخيانة…. كل ذلك حدث للعراق لأنه حاول أن يبني جيشاً خشيت الصهونية أن يشكل يوماً ما خطراً عليها فتم ذلك رغم البعد الجغرافي ورغم أن العدو يمتلك من السلاح وأدوات نقله ما يمكنه من دك بغداد دون أن يرسل جندياً واحداً!

إذا كان هذا ما حدث للعراق وهو على هذا البعد فكيف يمكن أن يسمح لسورية وهي على مرمى مدفعية من المدن الإسرائيلية أن تمتلك سلاحاً “سوقياً” يمكن أن يسلب إسرائيل تفوقها في امتلاك السلاح النووي الرادع…

ومن هنا بدأ تنفيذ المؤامرة… ولا نريد الحديث عما هو معروف إذ ان الصهيونية اعتقدت أن أجراءها وحلفاءها كانوا قادرين على السيطرة على السلطة وعندها يصبح نزع السلاح أمراً منتهياً لأنهم كانوا قد اتفقوا على ذلك… وقد كانت الصيهونية، والتي تجهل معنى الثبات بل تجهل معنى الإنتماء لأنها هي حركة هجينة مهما تسلحت ومهما عتت وكيف يمكن للهجين أن يفهم الأصيل؟ كانت على يقين بأنها سوف تنجح وحددت لذلك مواعيد… إلا أن أصالة الشعب السوري وصلابة قواته المسلحة، وهي أكرم ما أنتجته سورية وسط هذا الفساد المخيف، هزمت ذلك اليقين الصهيوني.

ولم يكن من الممكن للصهيونية أن تتراجع ذلك لأن أي تراجع كان سيعني إنتصار سورية على المشروع كله والذي بدأت بتنفيذه في غزو العراق والبدء بنزع سلاحه عام 1991. فبدأت البحث عن أعذار للتدخل الخارجي بعد أن تبين أن الظلمة التي أطلقوها في سورية آيلة للزوال لا محالة. فاخترعوا لعبة الكيميائي …

ولا أدري كيف يمكن للعالم أن يصدق هذه اللعبة التي تقول أن الجيش السوري استعمل هذا السلاح وكل خبراء السلاح يدركون أن الجيش السوري لو استعمل سلاحه الكيميائي لما كان قد بقي هناك أحد ليصور آثار السلاح! بل إن المواد الكيميائية التي استعملها الإرهابيون كانت بدائية لسبب بسيط جداً وهو أن اغلب الذين كانوا يتعاملون مع هذا السلاح لحد من الجهل بحيث لا يفهمون بماذا يتعاملون حتى أنه يمكن أنها انقلبت عليهم. لكن اللعبة انطلت وصدقها الكثيرون….ولا عجب إذا كان الساسة الأوربيون يصدقون كذاباً مثل كيري!

وحين عمل المشهد العاطفي المعد بشكل جيد فقد بدأ الأوربيون الحديث عن غزو سورية ضاربين بذلك قواعد القانون الدولي عرض الحائط… ولا عجب في ذلك إذا كان بعض الخبراء العرب الذين شاهدتهم على قنوات الميادين والمنار خلال الأسبوعين الماضيين لا يفهمون قواعد القانون حقيقة بل كانوا يتكلمون كرجال إعلام سطحيين (و قد أعود لهذا الموضوع لاحقاً)….

ونجح التهديد بالغزو في فرض نزع سلاح سورية حماية لإسرائيل حين اقترح الروس أنه إذا كان سلاح سورية الكيميائي هو  المشكلة فإن وضعه تحت الإشراف الدولي يجب أن يزيل هذا العذر للعدوان وذلك بهدف تدميره بالكامل.. ووافقت سورية..

وهنا مكمن الخطر إذ قد يكون هذا هو العد التنازلي لنزح سلاح سورية بشكل كامل تماماً كما حدث في العراق…. ولا ننسى أن غزو العراق عام 1991 تم بحجة إخراجه من الكويت فكيف انتهى الأمر إلى قرار بنزع سلاحه خلافاً لأبسط قاعدة في القانون الدولي ألا وهي حق كل دولة في تسليح نفسها للدفاع عن أرضها وأهلها؟

ذلك لأن موافقة سورية على وضع سلاحها تحت الإشراف الدولي يعني موافقتها على آلية معينة لتنفيذ ذلك…وليس هناك آلية للإشراف على ذلك غير منظمة حظر إنتشار الأسلحة الكيميائية وهي منظمة أوربية بشكل متميز وأغلب خبرائها أوربيون… ولا أحد يعرف كم منهم مرتبط بأجهزة المخابرات الصهيونية…. وقد تكشف لنا كم من مفتشي العراق كان يرسل تقاريره لواشنطون وتل ابيب قبل إرسالها الى نيويورك!

وحتى لو كان كل مفتشي هذه المنظمة أمناء في عملهم، فإنهم لا بد أن يعملوا بقرار من مجلس الأمن…

وهنا تبدأ الكارثة حيث إن أي قرار بحق سورية من مجلس الأمن يتعلق بسلاحها سوف يكون بداية قرارات تنتج عنه بحجة عدم إلتزام سورية وما يمكن أن يفسر على أنه فشل سورية في الإلتزام بقرارات مجلس الأمن ويقود للعدوان تماماً كما حدث في العراق قبل عشرة أعوام فقط…

إن اي قرار بحق سلاح سورية لا يعالج سلاح إسرائيل هو نصر لإسرائيل لم تكن تحلم به تماماً كما حدث في حل الجيش العراقي دون أن يكلف ذلك إسرائيل جنديا أو طلقة واحدة…

ولا بد أن ندرك أن السلاح الكيميائي هو السلاح “السوقي” الرادع للدول الناشئة في مقابل السلاح النووي الذي تمتلكه الدول الكبرى… ونزعه في سورية يعني أن سورية تفقد بذلك سلاحها السوقي الرادع للسلاح النووي الصهيوني. ولا بد أن نتذكر أن إسرائيل لم تنف يوماً أو تتعهد بعدم إستعمال أي من اسلحة الدمار الشامل لديها وهي تملك ترسانة نووية وكيميائية وحيوية تفوق أية دولة أوربية… وقد أوشكت أن تستعمل سلاحها النووي حين انهارت في أول حرب 1973 فأعدت صواريخها النووية لضرب دمشق والقاهرة إلى أن جاءها كيسنجر بالصواريخ والطيارين الأمريكيين الذين غيروا المعركة… فما هو السلاح الذي سيعود بيد سورية الذي تواجه به الإبتزاز النووي الصهيوني إذا دمرت سلاحها الكيميائي؟

وقد يقول قائل إن روسيا سوف تمنع ذلك باشتراطها أن يرتبط ذلك بسلاح إسرائيل “السوقي”، وهذا ليس وارد في العقل الروسي ذلك لأن روسيا صرحت أنها تريد من سورية نزع سلاحها “السوقي” كما صرح بذلك لافروف…. كما ان روسيا لم تقترح يوماً حتى في أيام الإتحاد السوفيتي نزع سلاح إسرائيل النووي وذلك لأسباب عدة ليس هذا وقت بسطها لكن يكفي التذكير بأنه يعيش في إسرائيل أكثر من مليون يهودي من أصل روسي!

كما أن روسيا ليست مستعدة كما أعلنت للدخول في حرب من أجل سوريا أو أي حليف خارج أراضيها. وهي ليست مستعدة لتعريض علاقاتها التجارية ومصالحها الرأسمالية مع الغرب ودول الخليج للخطر حتى من أجل أقرب حلفائها في المنطقة والبلد الوحيد الذي يمنحها قاعدة في البحر الأبيض المتوسط.

أما قول بوتين بأنه ضد إنتشار اي سلاح للدمار الشامل فهو قول عام ليس فيه تحديد للسلاح النووي أو الكيميائي الإسرائيلي… فإذا كانت روسيا جادة حقاً فإن بمقدورها أن تحصل على تعهد صهيوني بعدم إستعمال أي سلاح للدمار الشامل ضد سورية في اي وقت كان وأن ينص على ذلك في قرار مجلس الأمن نفسه الذي يتعامل مع السلاح الكيميائي السوري….. وقد فعلت روسيا السوفيتية ذلك حين حمت كوبا عام 1961 وحصلت على تعهد أمريكي بعدم غزوها وهكذا كان…وخلاف ذلك لا يعدو أن يكون أحلاماً!

أترى ستقود موافقة سورية اليوم إلى سلسلة تنازلات تنتهي بتفتيت الدولة التي جاع شعبها وعانى ما عانى خمسين عاماً من أجل الإعداد لحرب الصهيونية كي ينتهى بخسارة كل ذلك حتى دون أن يمتلك مجد القتال والموت بشرف وهو يدافع عن أسوار دمشق تماماً كما فعل البعثيون في العراق الذين لم يقاتلوا ويموتوا على أسوار بغداد…. وا أسفاه على هذه الأمة إذا وقع هذاَ!

والسلام

عبد الحق العاني

10 أيلول 2013

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image