يحق لنصارى العراق أن يفخروا بطارق عزيز!

لم أكن لأكتب في هذا وأرد على مقال بائس لعراقي لا أعرفه لولا أن صديقي العزيز المهندس والشاعر المبدع رضا الصخني بعث لي المقال المنسوب لعزيز الدفاعي (*) . وحق الصديق هو الذي قادني لأكتب فلولاه ما كنت لأضيع وقتاً على مقال بهذا البؤس في لغته ومضمونه وهدفه.

وأول ما صدمتني عند قراءة المقال (واستعير لفظة مقال هنا مجازاً لأنه لا يليق بهذا اللغو أن يسمى مقالاً)، فهي اللغة البائسة بفحش القول والتي لا يمكن حتى البدء بإحصاء ما فيها من لحن وخطأ وقبح. ولعل هذا الحال هو من مساوئ ما فعلته ثورة المعلومات التي أدخلها زملائي في المهنة لهذا العالم. فقد أمكنت هذه الثورة بما فيها من جوانب إيجابية كل من هب ودب ويمتلك حاسوباً أن يتصور نفسه كاتباً فينشر جهله بين الناس وهو يحسب أنه يحسن صنعاً. ولم يكن هذا متاحاً قبل عهد شبكة المعلومات حين كان على الإنسان أن يثبت مقدرته على الكتابة من حيث اللغة والمضمون والحقائق التي ما كان أي محرر في صحيفة أو دار نشر ليرتضي أن تعمم قبل التأكد منها. أما اليوم ففي عصر الجهالة والأمية الذي أنتجته ثورة المعلومات (وهو تناقض حال ولا شك) فأي خبر مختلق أو كاذب يمكن أن ينشر على أيدي الجهلة والأميين والمغرضين والمخربين على أنه حقائق لا يأتيها الشك.

فإذا وضعنا اللغة جانباً إكراماً لصديقي، فإن ما يؤخذ على المقال يمكن أن يجمع تحت الأبواب التالية:

  1. لغة الإستعلاء والتنابز الموروثة من جاهلية العرب.
  2. عدم التأكد من الحقائق وترديد حديث الشارع.
  3. إنعدام الموضوعية في التحليل.

أولاً: لغة الإستعلاء

فالعرب أمة كانت في الجاهلية مشغوفة بالتنابز بالألقاب وعيب الآخرين فجاء الإسلام واصفاً لهذا الحال “ويل لكل همزة لمزة” وناهياً عن هذا الخلق السيء “ولا تنابزوا بالألقاب”.

غير أن الجاهلية لم تختف فهي ما زالت بعد أربعة عشر قرناً سائدة في حياة العرب تراها في علاقات الناس وولائهم للقبيلة قبل الدولة وتراها في التعالي غير المسوغ عند الكثيرين منهم، بما في ذلك من تعلموا فأفترض الآخرون أنهم خرجوا بعد ذلك التعلم من جاهليتهم. لكن ذلك لم يكن.

ولنأخذ نماذج من هذا التعالي والتنابز التي وردت في المقال:

  1. إدعى الكاتب أن طارق غير إسمه من ميخائيل إلى طارق وهو، وإن كان ليس حقيقة، ليس إلا غمزاً بعيب إسم ميخائيل رغم أن هذا الإسم هو من أسماء الكتاب المقدس وشأنه في ذلك شأن كل الأسماء المقدسة عند أهل الكتاب والتي يحترمها ويجلها الإسلام الصادق. ثم أليس ميكائيل هومن الملائكة المقربين الذين وردت أسماؤهم نصاً في القرآن الكريم والصحاح من الأحاديث النبوية الشريفة، وهم ((جبرائيل)) و ((ميكائيل)) و((إسرافيل)) عليهم السلام؟
  2. وصف الكاتب طارق عزيز بأنه “تلكيفي” “كلداني” و “كاثوليكي”. فما علاقة هذا التوصيف بالمقال الذي يبحث عن دور طارق عزيز في العمالة للصهيونية؟ أليس الهدف من هذا التوصيف هو تحريك النظرة الفوقية السائدة في عراق البائسين نحو طائفة من أعرق أهل العراق لم تعتد على أحد ولم تتآمر على العراق حين تأمر عليه العرب والمسلمون؟
  3. غمز الكاتب طارق عزيز حين ذكره بانه أبو (زياد وزينب)، وكأنها محاولة من طارق عزيز لإقحام نفسه في العروبة وكأن العروبة حصر على المسلمين…. ولا أعتقد أن الكاتب يفهم معنى المشروع القومي العربي فهو معاد له كما يتضح من بين الجمل والأحكام الكيفية التي يغص بها مقاله.
  4. إفترض الكاتب أن طارق عزيز كان يعاني من “عقدة مسيحيته واصله الكلداني”. ولم يتوسع الكاتب ليقول لنا دليله على أن طارق كان يعاني من عقدة النقص تلك بدل أن تكون هذه عقدة التعالي الفارغة لدى الكاتب ومن هم على شاكلته.
  5. إن الكاتب حين أخذته العزة لم يكتف بشتم طارق فأشرك معه رئيس رومانيا بجملة واحدة واشك أن الكاتب يعرف شيئاً عن ما فعله مناضل شيوعي ضد الإستكبار العالمي مثل شاوشيسكو والذي لم يعمل أجيراً لأية دولة وتمكنت رومانيا في عهده أن تصبح الدولة الأوربية الوحيدة غير المدينة لأحد.

ثانيا: خلط وتشويه الحقائق

ولعل أبرز ما جاء في المقال هي الأمور التي أطلقها الكاتب على أنها حقائق وهي ليست كذلك، دون أن يقدم دليلاً عليها، مما يمكن أن يؤثر في عقول الناس لأن الغريزة البشرية تجعل الإنسان يصدق ما يسمعه أو يقرأه ظناً منه أن الكاتب لا يكتب إلا عن يقين وإن لم يكن كذلك، وهو ما يجعل الكتابة أمانة ثقيلة. ويبدو أن الكاتب أخذ كثيرا في ما كتبه من ويكيبيديا وهو مصدر لا يعول عليه لأنه من نتاج ثورة المعلومات ويكتب الناس فيه ما يشاؤون دون إلتزام أو أمانة.

ومن هذا الفيض ما يلي:

  1. زعم الكاتب أن طارق عزيز من مدينة “تلكيف” لكي يسميه “تلكيفي” وهذا ليس صحيحاً لأن طارق عزيز كما يعرف أهله هو من قضاء “القوش”.
  2. زعم الكاتب أن طارق عزيز كلداني (نقلاً كما يبدو عن ويكيبيديا)، وهذا غير صحيح إذ انه سرياني. هذا إذا افترضنا أن الكاتب يعرف شيئاً عن أهل الكتاب والفرق بين الكلداني والسرياني.
  3. زعم الكاتب أن العراق وقع منذ عام 1963 “بين فكي الإنقلابات والقمع والحروب..”، وهو التفاف على التأريخ لتصوير المشروع القومي العروبي في العراق على أنه سبب ما وقع فيه. بينما واقع الحال هو أن ثورات العراق ومشاكله الداخلية بدأت في ثورة بكر صدقي عام 1936 ثم ثورة الضباط عام 1941 وتوجت بثورة تموز 1958 وليس أدل على ذلك من أن ثورة الأكراد المسلحة بدأت في أيلول 1961 وليس بعد 1963.
  4. زعم الكاتب أن طارق عزيز كان صديقاً مقرباً لصدام حسين أواخر خمسينات القرن الماضي. وربما أخذ الكاتب هذا من مصدر آخر من مصادر ويكيبيديا المشوهة. ذلك لأن صدام لم يعرف طارق في خمسينات القرن الماضي بل إن صدام لم يكن حتى عضواً في الحزب إلى أن شارك في محاولة إغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1959 فمنحه فؤاد الركابي عضوية الحزب بعد فشل العملية وفرار الإثنين إلى سورية. ولم يلتق صدام بطارق إلا في ستينات القرن الماضي بعد عودة الأول إلى العراق من مصر.
  5. يبدو أن الكاتب سرح به الخيال فخرج من دائرة التأليف والإختلاق بما يخص العراق فانتقل إلى بريطانيا ليخوض في موضوع يبدو واضحاً أنه لا يعرف عنه الكثير فكتب. “وكان براون هو من رسم خطة الإنسحاب البريطاني من الخليج والعراق وترتيب الأوراق لصالح الأمريكيين بعد الإنسحاب البريطاني عام 1968”. فإذا افترضنا ان الكاتب يعرف أن جورج براون (وهو واحد من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في حزب العمال البريطاني في القرن العشرين) شغل منصب وزير خارجية المملكة المتحدة بين آب 1966 و شباط 1968، فعن أي إنسحاب بريطاني من الخليج والعراق يتحدث الكاتب والذي يقول أنه رتب الأوراق للأمريكيين بعد 1968؟ أليس هذا عبث بالتأريخ وبعقول الناس؟
  6. زعم الكاتب أن “جهاز حنين” أسس بهدف قتل قيادات الحزب الشيوعي بتوجيه أمريكي. وليس لي إعتراض على أن الولايات المتحدة عملت كل تأريخها على قتل خصومها إلا أني أعترض أن يقحم “جهاز حنين” في ذلك فلو عرف الكاتب تأريخ تاسيس هذا الجهاز لما وقع في هذا الخلط التأريخي. ذلك لأن جهاز حنين لم يولد إلا بعد 1963 حين لم تعد قيادات للحزب الشيوعي فقد كانوا بين قتيل وهارب ومعتقل.
  7. زعم الكاتب أن “منير روفه” كان عضو قيادة شعبة في حزب البعث، وهذا ليس صحيحاً وهو إفتراء على التأريخ.
  8. زعم الكاتب أن طارق عزيز، قريب منير روفه كما يدعي، ساعد في خروج زوجة منير روفه من العراق بعون غير مباشر من السفارة الأمريكية. وهو خيال خصب في التأليف والإختراع. ذلك لأن طارق عزيز كان عام 1966 مع بقية البعثيين موضع مراقبة ومطاردة من قبل مخابرات عبد السلام عارف والتي تلتها مخابرات عبد الرحمن عارف بعد موت الأول في نيسان 1966 ، بل إن بعضهم لم يكن يمتلك المقدرة على  إعالة نفسه فمن اين تأتت له تلك المقدرة على ترتيب هروب زوجة منير روفه حين كان الأمر ميسراً للمخابرات الأمريكية والتي كانت تسرح وتمرح في العراق؟
  9. زعم الكاتب أن طائرة الميغ 21 التي نقلها روفه إلى اسرائيل مكنت الأمريكيين من إنتاج طائرة إف 14. ولو أن الكاتب كلف نفسه مشقة خمس دقائق من البحث لما كتب هذا لكنه كعادة العرب الذي يعتقدون أن أحدا لا يدقق ما يكتبون فيقولون ما يشاؤون. ذلك لأن الطائرات الحربية لا تصمم وتنتج في عامين أو ثلاثة فبين هروب روفه عام 1966 وأول طيران للطائرة الأمريكية إف 14 في عام 1970 أربع سنوات ما يجعل من المستحيل أن تكون الأولى قد ساهمت في تطوير الثانية لأنه الثانية كانت قد أنتجت في عام 1966.

ثالثا: إنعدام الموضوعية

لا بد لي بعد هذا العرض الموجز للكثير مما يمكن أن يقال عن التعالي وتشويه الحقائق أن أوجز في الرد على جوهر المقال حتى لا نضيع في الثانويات. فالهدف من المقال هو تصوير طارق عزيز على أنه “كوهين” آخر! وليس غائباً على من يقرأ هذا أن يستنتج بانه إذا كان طارق عزيز صهيونياً فلا بد أن حزب البعث كان في ركاب الصهيونية لما لطارق من تأثير مباشر على صدام حسين وفكره وقراراته.

ليس صعباً فهم حقيقة أن العملاء والخونة ليس لهم سجل تدون فيه حقيقة الخيانة ولعل أكبر الخونة في التأريخ ماتوا دون أن يعرف أحد حقيقة خيانتهم. لذا فإن الحكم على السياسي ووطنيته يجب أن تبنى على سلوكه ومواقفه التي يختبر فيها لا التي يتقول فيها.

وطارق عزيز لا يختلف في هذا عن الآخرين…. فإذا أردنا الحكم عليه حتى قبل أن يكتب هو سيرة حياته فلا بد أن يكون ذلك من خلال ما بين ايدينا من سلوك وعمل ومواقف.

وأول ما لا جدال فيه هو أن طارق عزيز اليوم هو واحد من الرعيل الأول من البعثيين الأحياء في العراق…. والرجل لم ينتم لحزب البعث إلا لأنه عروبي في ذاته فالتحق بالحزب لأنه كان يعتقد أن وجود الأمة العربية قومي أولاً وأخيراً وأن دين الإنسان لنفسه أياً كان اختياره. فليس في النصرانية ما يخرج الإنسان عن عروبته فقد ساهم نصارى بلاد الشام بشكل خاص في نهضة الأمة العربية الفكرية والسياسية في القرن التاسع عشر مما أنتج المشروع القومي العربي والذي كان وما زال أمل الأمة الوحيد في التحرر والتقدم والعدالة الإجتماعية.

وبقي طارق مرتبطاً بالحزب أكثر حياته فحتى حين انقسم الحزب بين أجنحة سميت اعتباطاً باليمين واليسار رغم عدم إنطباق تلك الصفة على أي من الجناحين فإنه ظل على ارتباط بما اعتقده هو شرعية الحزب، وإن اختلفت معه في تعريف ذلك، لكن ذلك حقه الذي لا يمكن لأحد أن يسلبه منه. أي ان طارق عزيز ظل طيلة حياته ملتزماً بما يعتقده فكر حزب البعث القومي.

وقد يقول قائل إني أرفعه عن العيوب، لكن ذلك ليس صحيحاً إذ أني لا أكتب دراسة عن حياة الرجل فلو أردت أن أفعل ذلك لوجب علي مجالسته لساعات ومجالسة من يعرفونه ثم قراءة كل قرار ساهم فيه وكل مقال افتتاحي كتبه في جريدة الثورة أثناء رئاسته تحريرها وكل قرار في المكتب الثقافي للحزب، وهذا ليس متاحاً لي الآن وليس هدف ما أكتبه إذ أني أرد على تهمة موجهة له أجدها غير منصفة.

وقد كان دور طارق عزيز الأساس في الحزب خلال حكمه العراق هو الثقافة والعلاقات الدولية، فهو لم يشترك في محكمة حزبية ولم يساهم في الصراع الداخلي الذي تفجر أكثر من مرة خلال الأعوام الخمس والثلاثين.  فقد وجد صدام حسين ضالته في طارق عزيز في الأمرين ذلك لأن تمكن طارق من الإنكليزية في حكومات يسودها الجهل بالعربية وليس اللغات الأخرى جعله أصلح رجل للعلاقات الدولية. أما ثقافته العامة فكانت كفيلة بإعطائه موقعاً متميزاً في المكتب الثقافي للحزب.

ولم يخطئ صدام في إختيار طارق، ذلك لأنه عرف فيه بعثياً غير مغامر مما يشكل سنداً لا خطراً..

فما حكم التأريخ على وطنية طارق والتي هي موضع هذا الرد؟

لقد إحتلت الصهيونية العالمية العراق وحلت جيشه وأخرجته من الصراع العربي الصهيوني لعقود وحولته إلى مزرعة وسوق استهلاكي يتقاسمه اللصوص على وفق نظام مذهبي وعرقي بل وحتى داخل المذهب الواحد…

وانتهى دور البعث في العراق…. ورتب البعثيون أوضاعهم مع الحال الجديد فمنهم من التحق بالمشروع الصيهوني لأنه لم يكن يؤمن بالبعث أساساً ومنهم من عقد صفقات مع الصهيونية فنال حريته لقاء ذلك فسكت وسكتت عنه الناس، ومنهم من اختار أن يبقى على قناعته القومية فانتهى بين حالين إما في المنفى وإما في السجن.

وطارق عزيز أمسى من الذين اختاروا أن يبقوا على قناعتهم القومية وربما اعتقد أنه إذا سلم نفسه طوعاً للمحتل، كما فعل، فإنهم كانوا سيعفون عنه لأنه ليس له سجل في جريمة أو عدوان…. لكنه أخطأ في فهم الصهيونية في ذلك القرار كما أخطأ هو وسيده من قبل. لكن هناك فرقاً بين الخطأً في فهم العدو وبين التعاون مع العدو!

فلو أن طارق عزيز كان كوهينا ثانياً أو عميلاً كما يوحي كاتب المقال، فلماذا يقبع في السجن منذ أكثرمن عشر سنوات؟ أي ما هي اللعبة التي يلعبها هو وأسياده إذا كان حقاً عميلاً؟ فهل سيقدم لهم خدمة أخرى وهو في آخر عقد من حياته؟ وما هي الخدمة التي يمكن أن يقدمها بعثي قديم في عراق اللطامة والصحوة والبيشمركة اليوم؟

إن العقل يقضي بأن السبب الوحيد الذي أبقى طارق عزيز في السجن هو رفضه، برغم كل الضغوط الي مورست عليه حتى من عائلته، التخلي عن البعث والذي بدأت برفضه أن يكون شاهداً ضد صدام حسين حين عرض عليه أن يطلق سراحه لقاء ذلك….

وقد يقول قائل إن موقفه ذلك كان بسبب احترامه لصدام وصداقته التي دامت ثلاثة عقود، فإذا كان ذلك حقاً فهو العربي الوفي الذي يخجل في وفائه الكثيرين من رفاقه الذين لم يفعلوا ذلك.

أما إذا كان موقفه الصلب هذا بسبب إيمانه بالمشروع القومي ويقينه أن أي خروج عليه اليوم سوف يكون خيانة لنفسه قبل الآخرين فهو يكون بهذا من أكثر القوميين العرب في العراق إلتزاما بالمشروع القومي العربي…

لكنه في كلا الحالين لا يمكن أن يكون كوهيناً إذ لو كان كذلك لقضى الأعوام العشرة الماضية في الفاتيكان وليس في السجن الأمريكي في العراق…

وفي كلتا الحالتين يحق لنصارى العراق أن يفخروا أن ابنهم تجاوز في عروبته عدداً من رفاقه المسلمين في العراق بل وتجاوز في مواقفه حتى قيادات من الصف الأول في الحزب.

عبد الحق العاني

31 أيار 2014

من أراد الإطلاع على المقال موضع هذا الرد فيمكنه ذلك في:

 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=389043

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image