حذار يا دمشق من مستنقع العراق!

ليس صحيحاً ما خرج عن دمشق من تصريح رسمي في أنها تقاتل مع بغداد الإرهاب نفسه…. ذلك لأن بغداد هي التي جاءت بالإرهاب للمنطقة حين استقبلت الغزو الصهيوني عام 2003 بالترحاب والتعاون وتسابق الخونة واللصوص من “اللطامة” و”الصحوة” و “البيشمركه” لتأكيد عمالتهم للصهيونية… فوقعوا معها عقود الذل والتبعية وأسموها اتفاقيات أمنية فكيف يمكن للعلاقة بين العبد وسيده أن تسمى إتفاقاً أو عقداً؟

فقبل خمسين عاماً كان العراقي إذا اتهم بالتعاون مع الإستعمار يقسم أغلظ الأيمان أنه لا علاقة له بأية جهة أجنبية لأنها كانت عاراً عليه وعلى أهله. أما اليوم  فقد غدا المتعلمون من العراقيين وخصوصاً حملة شهادات “الدكتاتوراه” التافهين يتفاخرون بأنهم أقدر من اقرانهم في خدمة الصهيونية، كما أصبحت القومية سبة فهم يتندرون بتسمية القوميين العرب بـ “القومجية”  لأن الأصل عندهم هو في التبعية للصهيونية و”اللطمية” وشق الجيوب وبعد ذلك سيستقيم كل شيء لأن ذلك هو ما يريده صاحب الزمان قبل إقامة دولة العدل…  فلا حاجة لإصلاح الكهرباء والماء وبناء المستشفيات وإنشاء تعليم عصري وخلق قاعدة صناعية بمال العراق الوفير وطاقات أبنائه. إذ كل ما يهم هو أن نمشي ساعات وأياماً حفاة عراة لنبكي ونلطم على أئمة أهل بيت النبوة الأطهار، وهم في جنان الخلد براء مما نفعل، ولا نمشي ساعة واحدة لنعترض على نقص الكهرباء أو انعدام الصحة أو سرقة المال العام أو الفساد الذي يخنق الناس..


فها نحن اليوم نشاهد تسابق الخونة في العراق وهم يطلبون من الصهيونية أن تأتي لتنقذهم. فإذا كان الحال كذلك فكيف تقاتل دمشق مع بغداد الإرهاب ذاته؟ إن أمريكا هي راعية الإرهاب العالمي، وبغداد قاعدة أمريكية فلا يمكن لها أن تقاتل الإرهاب العالمي. وعلى دمشق أن تنتبه أين تضع الكلمة وأن تدقق في ما تقوله قبل أن تقوله فالحرب التي تخوضها سورية هي حرب من أجل البقاء وليس من أجل الإعلام!

فخلال السنوات الثلاث من الحرب الصهيونية على سورية والتي رسمت خطوطها الصهيونية ونفذتها أدواتها في المنطقة من إسرائيل وتركيا وسائر الأعراب الذين يعيشون على هامش التأريخ ومن معهم من بهائم غوغاء المسلمين، لم نسمع من حكومة الدولة الفاشلة في العراق سوى موقف واحد يتلخص في أن العراق يقف على مسافة واحدة من حكومة دمشق ومعارضيها من مسلحين يعيثون فيها فساداً. بل إن الموقف الرسمي لحكومة الدولة الفاشلة في بغداد كان دائماً المطالبة بوقف تسليح الطرفين أي بوقف مد سورية بالسلاح مقابل وقف تسليح المعارضة المسلحة… ولا يغيب على المتفرج أن يفهم ما يعنيه هذا المطلب بالمساواة بين حكومة شرعية ومقاتلين مسلحين يهاجمونها.. فهل إن بغداد لم تدرك يومها أن ما يسمى “داعش” و “النصرة” منظمات إرهابية حتى دخلت أولاهما العراق؟ أم لأن أسياد الفاشلين في بغداد كانوا هم خلف الإرهاب في سورية؟ فكانت أوامر واشنطون لخدمها في بغداد بأن تلك حدود الموقف السياسي الذي يمكن لهم التحرك داخله؟ أليس من قبيل المعاملة بالمثل أن يكون موقف دمشق اليوم هو المطالبة بوقف تسليح طرفي الصراع في العراق؟ ولم لا؟

ولا بد قبل عرض سبب تحذير دمشق أن نعرض شيئاً عن حقيقة الصراع في العراق حتى يتبين في خضم التهويل والتشويه الإعلامي ما يحدث في العراق حقاً…

فالصراع في العراق ليس بالتبسيط الذي يحاول الإعلام الصهيوني إظهاره، والذي انساق خلفه الإعلام المقاوم، في أنه صراع بين حركة القاعدة السلفية السنية وبين حكومة اللصوص الشيعية. فليس من شك أن هناك صراعاً بين هذين الإثنين لكنه ليس الصورة الكاملة لحقيقة الصراع. فقد نجحت الصهيونية، خلاف ما يقوله أكثر السذج من المحللين في أنها فشلت، منذ عام 2003 في هدم الدولة العراقية وخلق بؤر من المنتفعين واللصوص في شبه دولة فاشلة. وهكذا أريد للعراق منذ غزو 1991 وهذا تحققق بعد 2003. وهو بالضبط ما تريده الصهيونية اليوم لسورية. وقد اعتمدت الصهيونية في تحقيق ذلك على الأكراد وأنصاف السياسيين من الشيعة وهي تدرك أن ذلك سيؤلب السنة العرب في العراق الذين تعودوا أن يكونوا في قيادة السلطة السياسية منذ العصر العباسي مما يصب في مصلحة الصهيونية، لأن الطبقة السياسية الشيعية التي جاءت للحكم سوف تحرص على إرضاء الصهيونية للبقاء في السلطة كما إن الطبقة السياسية السنية سوف تحاول المستحيل لإرضاء الصهيونية في عرض عمالتها عن طريق حلفائها من حكام الجزيرة والخليج من أخلص اهل السنة صداقة وخدمة للصهيونية العالمية. وبهذا تكون الصهيونية قد أمنت هيمنتها على الجميع في تسابقهم لإرضائها دون أن تطلق طلقة أو تخسر جندياً.

وقد عزز هذا الفرز المذهبي في العراق سياسات الطبقة الشيعية الحاكمة في بغداد والتي يطول شرحها لكنه يكفي أن نعرف حقيقتها من التعاطف والدعم الذي حصلت عليه القاعدة وغيرها من الحركات المعارضة لبغداد من بين جماهير أهل السنة في مناطقهم ومحافظاتهم. وهذه الحقيقة ليست من صنع الخيال بل هي واقع وعلى كل عاقل أن ينظر للواقع ويحاول أن يفهمه فليس من قبيل الرد على ذلك الإدعاء بأن أهل السنة معادين لأهل الشيعة تماماً كما لا يصح القول بأن شيعة  العراق معادين للسنة.

فليس هناك من عمل عسكري يقوم به أناس من خارج منطقة ما وينجحون فيه دون أن تكون لهم حاضنة شعبية في تلك المنطقة. فالذي وجده المسلحون من حاضنة شعبية في نينوى لا تختلف عن الحاضنة الشعبية التي مكنت القاعدة من السيطرة على الرقة، ومن لا يفهم أو لا يريد أن يفهم هذه الحقيقة فلا علاقة له لا بالسياسة ولا بالتأريخ!

إلا أن العراق ليس مبنياً فقط على هذا الإنقسام المذهبي والعرقي وإن كان هذا قد تعزز خلال العقد الماضي. فقد نشط المشروع القومي العربي في العراق لعقود وحكم عدداً منها. وهذه الحقيقة لا يمكن إلغاؤها بقرار سياسي ولا إزالة أثرها بين الناس بقرار إجتثاث البعث الذي اصدره الصهيوني بول بريمر بتهليل وترحيب عدد من متعلمي ومعممي أهل العراق المعادين للعروبة أصلاً كما أثبتت ذلك سياسة العراق خلال العقد الماضي والتي لم ترد فيها عروبة العراق على فم أي مسؤول عراقي ولو مرة واحدة!

فالقوميون في العراق من بعثيين وغير بعثيين ضعفوا بعد الغزو وانهار منهم من انهار وانحاز للصهيونية من انحاز وهذا ليس غريباً في أية حركة سياسية تخسر حرباً. إلا أن قوميين آخرين بقوا على قناعاتهم وإيمانهم بالمشروع القومي العربي. وهؤلاء شاركوا ويشاركون في الصراع مع الحكومة الصهيونية الفاشلة في بغداد. وهذا ما حصل في معركة نينوى والتي وإن بدت على أنها معركة بين “داعش” وبغداد إلا أنها في الواقع غير ذلك….. فقد ساهم البعثيون من حزبيين وضباط سابقين من  الجيش العراقي الوطني في معركة نينوى مع “داعش”. ولا أدعي أن لي علماً بطبيعة العلاقة بين الطرفين لكن عندي من الدليل ما يقنعني أن ضباطاً بعثيين ساهموا في أخذ نينوى. فمن أين جاءت داعش بالطيارين الذين تمكنوا من وضع أيديهم على السمتيات التي تركها جيش الدولة الفاشلة حين هرب؟

كما ان هناك إلى جانب البعثيين أكثر من تنظيم يقاتل مع داعش ضد حكومة بغداد. وخلاصة ذلك هي أنه لا يمكن تبسيط المعركة في أنها ضد إرهاب القاعدة، لأنها أعقد من ذلك بكثير.

إن هناك معركة ضد حكومة بغداد الفاشلة يخوضها أكثر من طرف قد لا يجتمعون على عقيدة واحدة لكنهم متفقون على مواجهة بغداد وإنهاء الدولة الفاشلة.

فما هي نتيجة المعركة حتى الآن؟

إن أول مؤشر على فشل الدولة هو الإنهيار التام لجيش حكومة بغداد. ولم يسبق في تأريخ الجيش العراقي أن انهزم هكذا. فرغم حصار دام أثني عشر عاماً حرم فيه الجيش العراقي من كل سلاح أو تموين، فإن جيش العراق البطل قاتل إسبوعين في أم قصر عام 2003 ضد أعتى جيوش العالم الأمريكية والبريطانية. أما أمس فإن جيش الدولة الفاشلة هرب أمام ما يصفه هو بمئات من “داعش” الذي تجمعوا من أطراف الأرض لا تربطهم عقيدة قتالية ولا رفقة حياة ولا تدريب مشترك! فكيف حدث هذا؟ إن التفسير الوحيد هو أن جيش العراق اليوم  هو جيش دولة فاشلة لا يمتلك سبباً للقتال لأنه لا يؤمن بقضية. فأفراده لا يعتقدون أنهم يقاتلون من أجل حماية دولة وهم ليسوا مستعدين للموت من أجل حماية لصوص بغداد. ولعل من المضحك أن يخرج علينا عدد من الساسة التافهين في بغداد وهم يدعون لتأسيس جيش رديف أو تطوع أبناء العشائر. ألستم أنتم الذين كنتم تعيبون على البعث أنه جند نصف مليون عراقي ثم جندتم مليون عراقي فانهزموا كالجرذان؟ فمن أين ستأتون بالبديل ولماذا سيكونون أفضل ممن لديكم؟

ثم تتابعت الإنهيارات في الجيش العراقي في كل الجبهات. وحدث تطور في غاية الخطورة، فقد دخلت القوات الكردية “البيشمركة”، لتحل محل الجيش العراقي المهزوم فاحتلت كركوك وبدأت تقاتل “الثوار” في مناطق متعددة من محافظة صلاح الدين وكركوك وديالى. وهذا يعني أنه أيا كانت نتيجة معركة “الثوار” مع بغداد فإن قواعد اللعبة قد تغيرت بين بغداد والأكراد فلن تكون هناك عودة عما احتله الأكراد من أرض جديدة في كركوك أو ديالى، فكل حرب لها حقوق وقد أخذ الأكراد حقهم في السيطرة على كركوك!

فأين تقف دمشق من كل هذا؟

إن دمشق لا بد أن تكون مدركة قبلي لمعنى التصريح الأمريكي بأن تهديد بغداد يشكل خطراً على الأمن القومي الأمريكي وهذا ليس مقالاً صحفياً ولكنه موقف رسمي. فهل تريد دمشق أن تبدو في ربط مصيرها بمصير بغداد على أنها تحاول حماية الأمن القومي الأمريكي والذي هو بإيجاز العبارة هيمنة صهيونية على العراق؟
إن دمشق لا بد أنها مدركة قبلي أن موقف حليفها في طهران يتقاطع اليوم مع موقفها القومي، وهو التناقض الذي سبق أن كتبت أنه سيقع يوماً ما. ذلك لأن طهران دولة دينية مذهبية وهي في ذلك لديها مشكلتان في العراق أولاهما هي وجوب دفاعها عن الحكومة الشيعية في بغداد أياً كان لونها السياسي لأن التشيع له أسبقية على السياسة. وثانيتهما هي أن طهران ترفض أي احتمال لعودة البعث في العراق بأي شكل كان وهو ما أكده عدد من رجال طهران في بغداد هذا الأسبوع.

ودمشق في ربط موقفها بموقف طهران تدخل مستنقع العراق دون حاجة لأن تفعل ذلك. إذ يكفيها ان تسكت وتتفرج على الصهيونية وهي تسقط ورقة التوت عن عورتها. ذلك لأن دفاعها عن حكومة بغداد المذهبية يعطي أعداءها الحجة في دعم إدعائهم بأن بعث سورية يقوده أعداء السلفية من العلويين بدليل أنهم انحازوا للحكومة الشيعية العميلة في بغداد ضد أهل السنة. وهذه تهمة لا تحتاج سورية أن تواجهها لو أنها لم تقف موقف الدفاع عن بغداد تناغماً مع طهران. كما انها لا يمكن أن تقف ضد بعثيي العراق وهم يتصدون لحكومة بغداد العميلة. فمهما كان الخلاف بين بعث العراق وبعث سورية فإن جوهر العقيدة المشتركة أعمق من ذلك الخلاف فالذي يجمع بين بعثي ستيني من صلاح الدين وبعثي ستيني من اللاذقية أكبر بكثير مما يجمع بين بعثي دمشقي ومعمم نجفي.

إن دمشق لا بد أنها تدرك قبلي سبب مسارعة الصهيونية لاستنكار ما يجري في نينوى فأمرت الكوري المتخلف ليعلن عن قلقه وجمعت مجلس الأمن في ساعات وأدانت الإرهاب في العراق. لكن هذه الصهيونية لم ترغب في أن تبحث في ما فعله الإرهاب في سورية لأكثر من ثلاثة أعوام. أليس في هذا ما يكفي دليلاً على أن لا مصلحة لسورية أن تبدو ضعيفة بهذا الشكل وهي تستجدي عطف الصهيونية في القول بانها هي أيضاً ضحية إرهاب مماثل. ذلك لأن الصهيونية التي تحكم مجلس الأمن ليست معنية بمكافحة الإرهاب الذي صنعته هي وإنما هي معنية بحماية مصالحها أينما كانت، فلمذا تريد سورية أن تدخل هذه اللعبة القذرة وتتلوث بها؟

لقد وقفت دمشق وقفة بطل متميز لخمسين عاماً وهي تدافع عن المشروع القومي العربي وثبتت ثلاثة أعوام في أكبر ملحمة للثبات سطرها شعب معاصر ضد الإستكبار العالمي وتوشك أن تجتاز ذلك…. فلا يصح أن تلوث ذلك بالدخول في مستنقع العراق والدفاع عن الدولة الفاشلة التي أقامتها الصهيونية في بغداد وهي  أي الصهيونية تعرف أنها فاشلة وتريدها أن تكون فاشلة..

فحذار حذار يا دمشق! فلا تخيبي آمال القلة الباقية من التقدميين العرب بموقف كهذا… دعي الصهاينة في أرض العرب يسقطون بأية وسيلة كانت وكوني أنت فوق الجراح!

عبد الحق العاني
13حزيران 2014

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image