من أسقط السوخوي الروسية: تركيا أم الولايات المتحدة؟

أعرف جيداً اني قد أكون من القلة الذين يعتقدون بإمكانية قيام الولايات المتحدة بإسقاط السوخوي الروسية فوق سورية. ولا أدعي، كما يدعي عدد من “المحللين الإستراتيجيين” كما يسمون أنفسهم، بأن لدي معلومات من جهات محددة. لأني بحمد الله بعيد كل البعد عن التعاون مع أي جهاز من أجهزة المخابرات، وإن كان هذا السلوك يعد مفخرة في بلد مثل بريطانيا!

إلا أنى أراقب وأتابع الأحداث وأربط بينها فأخرج بنتيجة كما تعلمت في حياتي العلمية أن أفعل في مراقبة تجاربي في المختبر. وليس الحدث السياسي والإقتصادي ببعيد عن إستقراء كهذا.

فتعالوا معي لنراجع ما حدث خلال الأيام القليلة الماضية.

  1. وقعت روسيا مع الولايات المتحدة إتفاقية تحدد فيها قواعد الطيران فوق سورية لمنع وقوع أي حادث عن طريق الخطأ. ونص الاتفاق على أن يجري ذلك على كل الدول المشتركة في ما يسمى “التحالف الدولي”.
  2. يشمل الاتفاق أن يقوم كل طرف باشعار الآخر بطرق وأوقات طيرانها فوق سورية المستباحة.
  3. أعلنت القيادة العسكرية التركية أن طائراتها المعترضة أسقطت طائرة روسية اخترقت حدود تركيا ولم تستجب لتحذيرات المقاتلات التركية، وذلك على وفق قواعد الإشتباك. لكن إسقاط الطائرة الروسية في واقع الحال لم يتم على وفق قواعد الإشتباك كما يعرفه العسكريون جيداً والتي ليس هذا مكان بحثها.
  4. حيث إن القيادة الروسية لم يكن لها أن تتخيل أن يصل الجنون بأي طرف حد إسقاط طائرة عسكرية روسية مما لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية، فقد كان تعليقها في الساعات الأولى أن طائرتها لا بد قد أسقطت بنيران من الأرض!
  5. نفت روسيا أن تكون طائرة السوخوي قد عبرت أجواء سورية الى روسيا وبينت أن سجل مطار حميميم الذي يتابع، كما يجب، حركة كل طائرة في ساحة العمليات يبين بوضوح أن السوخوي لم تعبر الحدود، وأكد ذلك الطيار الروسي الذي أنقذته القوات الخاصة.
  6. أكدت روسيا ان المقاتلات التي أسقطت السوخوي الروسية، أيا كانت هويتها، كانت في سماء سورية.
  7. لم تقدم الولايات المتحدة، وهي التي ترصد الأجواء السورية كل دقيقة لكونها ساحة عمليات لها أي دليل يدعم الادعاء التركي بخرق أجوائه.
  8. رفضت تركيا تقديم تسجيل الإنذار الذي تدعي أن طائراتها أعطته للسوخوي الروسية. فإذا كان حقاً قد أعطي للسوخوي فإن تقديمه لأي جهة عالمية مستقلة سوف يبرئ تركيا ولو جزئياً من التعمد في الجريمة.
  9. سارعت تركيا لدعوة حلف شمال الأطلسي للإجتماع وكأن الأمر كما وصفه بوتين هو أن روسيا أسقطت طائرة تركية.
  10. ظهر أردوغان كالأبله بعد يوم ليقول إن تركيا لم تكن تعلم هوية الطائرة عند أسقاطها. وليته لم يتكلم فقد كشف عن جهل بالأمور العسكرية والسياسية والعلاقات الدولية. فالدول لا تسقط الطائرات لمجرد الشبهة، خصوصاً وهو يعلم جيداً أن ساحة العمليات فوق الحدود السورية هي لمحاربة الإرهاب كما يدعيه الروس ويدعيه حلفاؤه الأمريكيون. فهل يريد أردوغان أن يقول إنه من الممكن لطائراته أن تسقط طائرة أمريكية لمجرد أن تلك الأخيرة عجزت عن تعريف نفسها؟ أم هل يرضى أن يسقط له العراق واحدة من طائراته التي تجوب سماء شماله كل يوم وهي تقتل الأكراد؟
  1. إدعى أردوغان أن إسقاط الطائرة كان على وفق القانون الدولي في الدفاع عن سيادة تركيا. واشك أن أردوغان يفهم شيئاً عن القانون الدولي أو يهتم به. فلو كان يعرف شيئاً عن القانون الدولي لأمتنع عن قصف الأكراد في العراق وسورية بشكل مستمر، ولتوقف عن الإعلان والتصريح بأنه يدعم الحركات المسلحة في سورية لأن قواعد القانون الدولي تعد هذا عدواناً يعرض مرتكبه للمساءلة أمام محكمة الجنايات الدولية! وهل يرضى أردوغان، الذي قال أن تركيا تحرص على حماية حدودها وحدود جيرانها، أن تسقط له اليونان طائراته التي تخترق مجالها الجوي بشكل يومي؟
  2. إما إذا كان أردوغان يريد القول إن تركيا كانت تحسب الطائرة سورية وأن اسقاط الطائرة الروسية تم خطأً فإن العرف في العلاقات الدولية يقضي بالإعتذار. إن رفض تركيا الإعتذار بعد اكتشاف الخطأ يعني أن تركيا ليست معنية حقاً بمكافحة الإرهاب لأن إسقاط طائرة تحارب الإرهاب يصب في مصلحة الإرهاب مادياً ومعنوياً.
  1. سارع حلف شمال الأطلسي بتبني الموقف الأمريكي في الدعم المطلق لادعاء تركيا عن الحادث دون أن يكلف نفسه مشقة البحث والتدقيق والإطلاع عما لدى روسيا من معلومات وأدلة.
  2. لم يكلف الحلف نفسه حتى أن يشارك روسيا شعورها بالحزن للطريقة الوحشية التي قتل فيها الإرهابيون طيارها، مما يعطي روسيا الحق في القول إن المدعين بمحاربة الإرهاب من أعضاء الحلف ليسوا صادقين فيما يدعون.
  3. عبرت الولايات المتحدة عن صدق نواياها في خبرين. فقد أعلن رئيسها أوباما ان إسقاط الطائرة كان حقاً لتركيا في الدفاع عن سيادتها. ونسي أوباما أو تناسى أن طائراته وطائرات تركيا تخرق سيادة سورية كل يوم، أيحق لسورية إذن، على وفق حق تركيا في حماية سيادتها، أن تسقط الطائرات التركية والأمريكية لو أمكنها ذلك فعلاً؟
  4. أما الخبر الآخر فهو ما قاله المتحدث باسم الخارجية الأمريكية في تغريدة له حول القتل الوحشي للطيار الروسي بانه تم دفاعاً عن النفس. وهو قول إلى جانب كونه متميزاً في العهر السياسي الذي لا يمارسه أحد مثل الأمريكيين، فإنه لا يفسر لنا ماذا يفعل الشيشاني المسلح في شمال سورية حتى يمكن له أن يدافع عن نفسه؟

لا يمكنني بعد هذا العرض السريع لأهم مجريات الأحداث في العدوان على روسيا إلا أن أستنتج أحد أمرين. فإذا تبين لاحقاً أن تركيا قامت فعلاً بالعدوان على روسيا فإني سوف أكتشف أن قادة تركيا أكثر حماقة بكثير مما كنت أعتقد. إذ كيف يمكن لشخص غيرأحمق أن يصدق أن بامكانه الإعتداء على روسيا ثم ينجو بفعلته، حتى إذا كانت روسيا قد خرقت سيادة تركيا فعلا هذا من دون الدخول في الخلاف على مفهوم السيادة على وفق القانون الدولي! ترى ما الذي ستفعله الولايات المتحدة لو أن سورية اسقطت لها طائرة في سماء تركيا؟ ويمكن بالإجابة على هذا السؤال تصور رد فعل روسيا والتي تحسب نفسها ليس أقل أهمية أو خطورة من الولايات المتحدة في عالمنا اليوم.

وحيث إني لا أصدق أن يكون قادة تركيا بهذه الحماقة فلابد أن الخيار الثاني هو أن تركيا لم تسقط السوخوي الروسية وإنما اسقطتها الولايات المتحدة التي كانت على علم تام بمسار الطائرة وموعده بكل تفصيل. لقد أرادت الولايات المتحدة جس نبض رد فعل روسيا على استفزاز كهذا فأوعزت لقادة تركيا بالإدعاء بتنفيذ العمل ووعدتهم بالحماية من تبعاتها. وهكذا فعلت. وهذا ما يفسر تخبط الأتراك الذين أعلنوا فور سقوط الطائرة أنها روسية ثم عادوا ليقولوا إنهم كانوا يجهلون هويتها. كما يفسر تناقض الإدعاء بعشر إنذارات للسوخوي ثم العودة للإعلان عن عدم إمكانية نشر أي من الإنذارات العشر. وكيف يمكن لهم نشر ما لا يمتلكونه. فإذا كانت الطائرات الأمريكية قد أنذرت السوخوي فعلاً فإن نشر الإنذار سوف يكشف الطائرة التي صدر عنها والطيار الذي أصدره وموعد مما يكشف اللعبة بالكامل!

إن غضب بوتين الواضح في وجهه وكلامه يجب أن يفهم جيداً وأن يؤخذ بكل جدية. فهو اليوم أمام خيارين: فإما الإقتناع بأن العدوان كان تركياً وأن الأتراك تجاوزوا الحدود المسموح بها ضمن ضبط النفس الروسي الغريب، والذي تغاضى عن دعم تركيا العلني للإرهاب واشتراك عائلة أردوغان مع داعش في سرقة نفط العراق وسورية، وهو ما يقتضي منه وبضغط شعبي روسي عارم بالرد ليس فقط لإستعادة كرامة روسيا ولكن لمنع الإرهابيين من الإعتقاد ان بامكانهم التمدد في دول الإتحاد وان بامكانهم التمثيل بالجندي الروسي كما فعلوا في أفغانستان أيام الشلل “البريجنيفي” في ثمانينييات القرن الماضي.

أما إذا اقتنع بوتين بأن الولايات المتحدة هي التي اعتدت على روسيا، لأسباب تتجاوز ساحة العمليات في سورية مما سأشرحه لاحقاً، فإن عليه أن يحسب بدقة حجم رد الفعل ضد تركيا، التي ادعت العدوان، والذي ستقبله الولايات المتحدة دون أن يؤدي إلى مواجهة فورية مع حلف شمال الأطلسي. لكن أيا كان خيار بوتين فهو لا بد الآن قد:

  1. أعلم من يسميهم شركاءه، وإن لم يكونوا حقاً شركاء، من دول حلف الأطلسي أن أي عدوان ثان من قبل تركيا أو تدعي تركيا القيام به سيؤدي لرد فعل روسي لم تشهده تركيا منذ انهيار الخلافة العثمانية. إن إسقاط طائرة روسية ثانية سواء أكانت فوق سورية أم فوق تركيا ستتبعه ضربة روسية يقال بعدها أنه كان في تركيا سابقاً قوة جوية. ولن تتعاطف دول حلف الأطلسي الأوربية مع تركيا ولن تدخل الولايات المتحدة حرباً عالمية من أجل الأتراك.
  2. طلب من أعضاء حلف الأطلسي نصح تركيا بوقف طيرانها على الحدود مع سورية لأن منظومة الدفاع الجوي في مطار حميميم والمقاتلات الروسية لديها أوامر بضرب أي هدف يشكل خطرا عليها، وهذا قرار ذاتي يتخذه الطيار في ثوان وهو يقود طائرته بسرعة الصوت.
  3. أمر رئيس وزرائه، وخلافاً لرغبة وزير خارجيته لافروف بعدم رغبة روسيا في الضرر بالمواطن التركي، دراسة إمكانية قطع الغاز الروسي عن تركيا والغاء الإتفاقات المشتركة من تجارية ومصرفية ومنع المليون سائح روسي سنوياً من الذهاب لتركيا مما يمكن أن يلحق أكثر ضرر باقتصاد تركيا. فاذا قال قائل إن هذا سوف يضر بمصالح روسيا كذلك فهو صحيح لكن الإقتصاد الروسي الذي امتص هبوط أسعار النفط بنسبة 60% والحصار الإقتصادي الأوربي قادر على أن يمتص الضرر من قطع العلاقات الإقتصادية مع تركيا، أما هي فلن تقدر.
  4. أمر قادته العسكريين بوضع الخطط العاجلة لتقوم القوات الخاصة الروسية بدباباتها ومدفعيتها وباسناد جوي بتطهير جبل التركمان واستعادة “سلمة” معقل الجيش الإسلامي التركستاني الذي يشارك فيه ضباط وجنود الجيش مباشرة، مؤكدأ منع أي من الإرهابيين العبور الى تركيا ذلك لأنه قد ينتهي في روسيا أو جاراتها.

لا بد بعد هذا أن يسأل السائل: لماذ اعتدت أمريكا على روسيا الآن؟ والجواب هو موضوع مقالي القادم: “الحرب العالمية القادمة – من أوكرانيا الى سورية”.

عبد الحق العاني

27 تشرين الثاني

 

 

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image