مسائل من القرآن: ما هو النسخ في القرآن

إنه حديث قديم، لكنه كذلك حديث وطويل ذلك الذي يتعلق بالنسخ في القرآن وما يعنيه. فقد مضت قرون والناس يحومون حول آية في الكتاب اتخذها عدد من الشراح ومن يسمون فقهاء حجة لتفسير ما استعصى عليهم فهمه. فكلما أشكل على المسؤول شرح آية في الكتاب لما يبدو تعارضا مع آية أخرى فإنه يعمد الى قوله تعالى “ما ننسخ من آية او ننسها نات بخير منها او مثلها الم تعلم ان الله على كل شيء قدير” (البقرة 2:106) ليؤكد ان الآية موضع السؤال قد نسختها، بمعنى أبطلتها أو أزالتها، آية أخرى. وقد سودت الصفحات وألفت الكتب حول الناسخ والمنسوخ في القرآن حتى ليوشك جزء كبير من القرآن أن يصبح غير عامل. وقد توسع عدد من الكتاب في الحديث عن النسخ حتى لتكاد تحسب مؤلف هذا الكتاب عن الناسخ والمنسوخ في القرآن شريكاً في التنزيل!

وهذا كله ليس سوى لغو وجهل مما ساد في الإسلام لقرون. فالقرآن قول الله، وقول الله قديم وهو، سواء أكان مخلوقاً أم غير مخلوق من حيث نحن لا من حيث هو، لا يقع عليه الحدوث بعد النطق ولا يبطل منه شيء لا في النص ولا في الفعل. وهذا ما يقتضيه العقل وليس الغيب وحده. ذلك لأن ما جاز أن يبطل بعضه جاز أن يبطل كله. فإذا كان عدد من آيات الكتاب قد أبطل فعلها عدد آخر من الآيات فإنه يصبح من الجائز أن يبطل أمر الله عدداً آخر من الآيات في وقت لاحق. وهذا كله مستحيل لأنه يوقع العجز عليه تعالى وهذا لا يصح القول به لا عقلاً ولا شرعاً.

وهذا الحديث طويل ومتشعب اكتفيت هنا بهذا الموجز منه!

وقد يسأل سائل إذن ما هو الذي أراده تعالى في هذه الآية الكريمة؟ وجواب هذا ممكن في بابين.

أولهما هو ان كلمة “آية” في العربية تعني، كما كتب صاحب القاموس، العلامة والشخص لذا تقول: “وتآيَيْتُه وتأَيَّيْتُه: قَصَدْتُ شَخْصَهُ، وتَعَمَّدْتُه…… والآية من القُرْآنِ: كلامٌ مُتَّصِلٌ إلى انْقِطَاعِهِ”. وهذا يعني أن استعمال كلمة الآية في القرآن يجب أن يعني العلامة إلا إذا ثبت أن المراد بها الكلام لأن الأساس في الإفتراض هو العودة للأصل لا للفرع. وشواهد ذلك في القرآن كثيرة فقد جاءت كلمة “آية” في القرآن أكثر من سبعين مرة منها اثنتا عشرة مرة في سورة الشعراء وحدها تكاد كلها تعني “العلامة”. ونأخذ منها على سبيل المثال:

“قال رب اجعل لي آية قال آيتك الا تكلم الناس ثلاثة ايام الا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والابكار.” (آل عمران 3:41)

“ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تاكل في ارض الله ولا تمسوها بسوء فياخذكم عذاب قريب.” (هود 11:64)

“ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ان في ذلك لآية لقوم يتفكرون.” (النحل: 16:69)

“وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا.” (الإسراء 17:2)

“وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما الى ربوة ذات قرار ومعين”. (المؤمنون 23:50)

“اتبنون بكل ريع آية تعبثون” (الشعراء 26:182)

فلو أخذنا هذه الشواهد حجة لقلنا إن المراد في آية النسخ موضع السؤال والتنازع هو “العلامة” وليس الكلام. وهذا يعني أنه تعالى أراد بأن يؤجل إظهار “علامة” من علاماته أو يحل علامة محل علامة. وليس في هذا الشرح ما يصعب فهمه ولا ما يرفضه العقل والمنطق.

 أما الباب الثاني فهو في افتراض أنه تعالى أراد في الآية الكريمة الحديث عن “الآية” بمعنى الكلام وليس العلامة. وهنا يكون المطلوب شرح معنى النسخ والنسيء.

فكتب ابن فارس في مقاييس اللغة: ” وَالنَّسيء في كتاب الله: التَّأخِير……. فقال الله تعالى: إنَّما النَّسِيءُ زِيَادَةٌ في الكُفْرِ…… ونَسأَ الله في أجلِك وأنسأ أجلَك: أخَّره وأبعده”. فيكون معنى قوله للآية “ننسها” أي نؤجل إظهارها.

لكن المشكلة تبقى في معنى “ننسخ” والتي شكلت لقرون عدة معضلة للشراح. فقال الققهاء والشراح إن الفعل “نسخ” يعني “أزال”. وأخذ جامعو المعاجم ذلك عن الشراح والفقهاء فجاء في لسان العرب “ونسخ الشيء بالشيء ينسَخه وانتسخه: أَزاله به وأَداله….. الفرّاء: النسخ أَن تعمل بالآية ثم تنزل آية أُخرى فتعمل بها وتترك الأُولى.” وهكذا أصبح “النسخ”عندهم يعني الإزالة وليس لديهم بذلك من علم إلا اتباع الظن. فما أظن قول الفراء وغيره من أهل العربية الذين قالوا مقالته سوى نقل عن شراح القرآن ذلك لأنه، أي الفراء، لم يأت على معنى الإزالة هذا بشاهد من شعر العرب كما يجب في حال معنى مرتبك كهذا. وقد حدث أمر مشابه أكثر من مرة حين أدخل الفقهاء تعاريف جديدة لعدد من مفردات العربية بما يتفق مع شرحهم وفهمهم للقرآن ولم يفعل علماء العربية شيئاً سوى قبول تلك التعريف وادخالها على أنها أصيلة رغم أنها لم تكن يوماً أصيلة.

وغاب عنهم أن أصل النسخ في العربية غير هذا. فقد كتب ابن منظور في اللسان “النَّسْخ اكتتابك كتاباً عن كتاب حرفاً بحرف، والأَصل نُسخةٌ، والمكتوب عنه نُسخة لأَنه قام مقامه، والكاتب ناسخ ومنتسخ…. والاستنساخ: كتب كتاب من كتاب؛ وفي التنزيل: “إِنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون”؛ أَي نستنسخ ما تكتب الحفظة فيثبت عند الله؛ وفي التهذيب: أَي نأْمر بنسخه وإِثباته.”

فيتضح من هذا أن النسخ لا يقتضي إزالة “آية” بإحلال آية اخرى محلها كما يزعمون بل هو نقل الآية بالكامل واثباتها في مكان آخر. فأين هي الإزالة وأين هي المشكلة.

فأياً أخذت به سواء أكان ذلك بأخذك كلمة “آية” على أنها “علامة” أم بأخذك إياها على أنها “كلام” فإنه ليس هناك من إشكال في شرح الآية الكريمة “ما ننسخ من آية أو ننسها..”

فليس هناك إزالة أو تغيير فيما أنزل تعالى.

وفوق كل ذي علم عليم.

عبد الحق العاني

19 أيار 2016

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image