قل ولا تقل / الحلقة الثانية والتسعون

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

 

 قل: أعلن الرئيس ترامب ما أسماه صَفْقَة القرن

ولا تقل: أعلن الرئيس ترامب ما أسماه صَفَقَة القرن

كتب قبل عقود العالم الجليل الذي ضيعه قومه الدكتور مصطفي جواد (غفر الله له ولوالديه) ما يلي: “ومن أشد الرزايا التي أصابت اللغة العربية أن ناساً من الكتاب والشعراء يكتبون وينظمون وينشرون كلماً غير مشكول، واللحن في غير المشكول لا يظهر، فاذا قرؤوا كتابة أنفسهم ونظمهم بان عوارهم. وانكشف لحنهم في أقبح الصور. وقد سمعت شاعراً مبدعاً يحب أن يقرن اسمه بالكبير ينشد قصيدة له فاذا هو لحانة يكسر المفتوح ويفتح المضموم وينون الممنوع من الصرف ويكسر المضموم ويضم المفتوح… ويفعل غير ذلك من الأوهام الصرفية دون النحوية لأن قواعد النحو معروفة محدودة، وأما الضبط الصرفي فيحتاج الى معجم مشكول أو سماع منقول مقبول. وهؤلاء قد حفظوا كلماً ملحوناً فيه من قوم لحانين وبقوا على جهالتهم”.

وحالنا اليوم أسوء من ذلك. فقد نتج عن ثورة المعلومات الرقمية انتشار وسائل الإعلام المسموعة والمرئية. وهذه بدورها يدير أكثرها أميون جيء بهم لإعتبارات سياسية أو دينية أو تجارية، وهم بدورهم استخدموا مذيعين ومراسلين لايقلون أمية عنهم.

فأصبح العربي المحب للغته، والذي كان من سوء حظه أن يوجد في هذا الزمن الرديء، لا خيار له سوى أن يعرض نفسه للأذى وهو يسمع الأخبار والتقارير الإعلامية. مهما حاول أن يستر نفسه وذلك بقراءة الأخبار على مواقع الإعلام غير مشكولة بدل سماعها من أفواه الأميين.

انتشر في الأسابيع الماضية خبر اعلان الرئيس الصهيوني في واشنطون أنه ينقل مقر عمله من مدينة تل أبيب الى القدس، ووصفته أكثر وسائل الإعلام بانه “صَفَقَة القرن”، وذلك بفتح الصاد والفاء والقاف. وهذا من شنيع القول لأن الصحيح هو “صَفْقَة القرن” بتكسين الفاء. وهو لا يختلف كثيرا عن قول مقدمي البرامج “حَلَقَة جديدة”، بفتح اللام.

ويبدو أن معدي الأخبار أو المذيعين أنفسهم يعتقدون أنه ما دام جمع “حلقة” هو “حَلَقَات” وجمع “صفقة” هو “صَفَقَات” فلا بد أن الأصل “صَفَقَة”. وقد سبق أن كتبنا عن هذا في حلقات سابقة من هذا المسلسل فمن أراد المزيد فليكلف نفسه مشقة العودة لها.

وجاء في المقاييس: “الصاد والفاء والقاف أصلٌ صحيح يدلُّ على ملاقاةِ شيءٍ ذي صَفْحةٍ لشيءٍ مثله بقُوَّة. من ذلك صَفَقْتُ الشَّيءَ بيدي، إِذا ضربتَه بباطن يدكِ بقُوّة. والصَّفْقَة ضربُ اليدِ على اليدِ في البَيْعِ والبَيْعةِ، وتلك عادةٌ جاريةٌ للمتبايِعين.”

أما “صَفَقَة” فهي جمع “صافق” كما ان “حَلَقَة” هي جمع “حالق” و “كَفَرَة” هي جمع “كافر”.

فقل: صَفْقَة القرن ولا تقل صَفَقَة القرن.

 

قل: هو رجلٌ نَسَّابَةٌ (إذا مدحته)

ولا تقل: هو رجل نَسَّابٌ

ونأخذ مما كتبه ثعلب في “باب ما أدخلت فيه الهاء في وصف المذكر” ما يلي: ” تقول رجلٌ راويةٌ للشعر ورجل عَلاّمَة، ونَسَّابَة، ومِجذامة (أي قاطع للأمور)، ومِطرابة (كثير الطرب)، ومِعزابة (من طالت عزوبته) وذلك إذا مدحوه، كأنما أرادو به داهية. وكذلك إذا ذمُّوه فقالوا رجلٌ لَحَّانة (أي كثير الخطأ)، وهِلباجة (الأحمق الضخم)، ورجل فَقَّاقَة (أي أحمقٌ هُذَرَة)، وجَخَّابَة (الأحمق الَّلحيم) في حروف كثيرة كأنهم أرادوا به بهيمة.”

 

قل: هو رجلٌ ذَميِمٌ تعني سيِّء الخُلُق

ولا تقل: هو رجلٌ دَميمٌ تعني سيِّء الخُلُق

وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “الذَّميمُ معجماً (أي بالذال) السَّيِّء الخُلُقِ، وغير المعجم (بالدال) (هو) القميء.” إنتهى

وكتب ابن فارس في باب (ذم) في المقاييس: “الذال والميم في المضاعف أصلٌ واحد يدلُّ كلُّه على خلافِ الحمد. يقال ذَمَمْتُ فلاناً أذُمُّه، فهو ذميمٌ ومذموم، إذا كان غير حميد. ومن هذا الباب الذَّمَّة، وهي البئر القليلةُ الماء.”

وكتب في باب (دم): “الدال والميم أصلٌ واحد يدلُّ على غِشْيان الشَّيء، مِن ناحيةِ أنْ يُطْلَى به…. فأمَّا قولهم رجلٌ دميمُ الوجه فهو من الباب، كأنّ وجهَه قد طلِيَ بسوادٍ أو قُبْحٍ. يقال دَمَّ وجههُ يَدِمُّ دَمامةً، فهو دميم”.

 

قل: تكلم على مختلِف الشؤون (بكسر اللام من مختلِف)

ولا تقل: مختلَف الشؤون (بفتح اللام)

كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن “المختلِف” اسم فاعل منقول الى الصفة المشبهة لدوام الصفة فيه، اي صفة الإختلاف وهو مشتق من الفعل “اختلف يختلف” وهو فعل لازم مشترك أيضاً، مثل “اطّرد”. يقال “اختلفت الشؤون تختلف فهي مختلِفة أي خالف بعضها بعضاً فتنوعت فهي مختلِفة اي متنوعة ” واصل العبارة “تكلم على الشؤون المختلِفة” فالمختلفة صفة من الإشتقاق والإعراب. ثم قدمت الصفة على الموصوف فصارت مضافة الى ما بعدها فقيل “مختَلِف الشؤون”، وهكذا الحال في كل صفة تقدم على موصوفها، فإنها تفقد تأنيثها، تقول: ليس في هذا الأمر كبير فائدة ولا جليل عائدة. وكذلك الأمر إذا عملت الصفة في جمع التكسير المؤخر، كقوله تعالى في سورة النحل: “يخرج من بطونها شراب مختلِف ألوانه فيه شفاء للناس”، وكقوله عز من قائل: “ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءاً فأخرجنا به ثمرات مختلِفاً ألوانها ومن الجبال جُدد بيض وحُمر مختلف ألوانها وغرابيب سود”. ويجوز اشتقاق اسم مكان من اختلف وهو “المُختلَف”، تقول: هذا مختلَف طلاب العلم أي الطريق الذي يختلفون فيه لطلب العلم كطريق المعاهد العلمية.”

وكتب عبد الهادي بوطالب: لا يفرق الكثيرون بين مختلِف (بكسر اللام) ومختلَف (بفتح اللام) ويضعون كل واحد منهما موضع الآخر.
والصواب كسر اللام حين يكون اللفظ دلالة على اسم فاعل وفتحها حين يكون دالا على اسم مفعول.

والأصل في ذلك أن فعل اختلف لازم ويمكن تعديته بحرف من حروف الجر. والتعدية بحرف الجر (من) أو (على) مثلا قاعدة لغوية. وقد وضحنا هذا في حرف الخاء عندما تحدثنا عن اختلف فيه واختلف عنه، ونعود إلى ذلك فيما يلي:

نقول: “اختلف الأمرُ”. فالأمر مختلِفٌ. ونقول: “يختلِف النهارُ عن الليل والليلُ عن النهار”. ونقول :”كلٌّ منهما مُختلِفٌ عن الآخر”. لكن عندما نقول :” اختُلِف في صحة هذا الخبر” نقول :” الخبر مختلَف في صحته أو عدمها”.

وقد جاء في القرآن الكريم: “وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه”. والفعل هنا لازم فنقول: “الذين أوتوه مختلِفون فيه”، وجاء لفظ مختلِف بكسر اللام في آيات عديدة من القرآن عندما يكون لازما. وذلك مثلا في قوله تعالى :”يخرج من بطونها شرابٌ مختلِف ألوانُه”، وقوله: ” والسماء ذات الحُبُك إنكم لفي قول مختلِف”. وورد في القرآن استعمال مختلِف في صيغة الجمع كقوله: “يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلِفون”.
وكثيرا ما يقع الخطأ عندما يأتي لفظ مختلِف مضافا إلى ما بعده كمختلِف الأمور، ومختلِف الحاجات، ومختلِف  الأدوار، ومختلِف المذاهب. وفي جميع هذه الأمثلة وأمثالِها يُكسَر اللام لأن فعلها (اختلف) لازم.

 

قل: حط طائرٌ على الشجرة

ولا تقل: حط طيرٌ على الشجرة

وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “الطائرُ للواحد أمّا الطير فهو اسم الجنس ولا يقال للواحد طير.”

 

قل: أشلت الشيء

ولا تقل: شلت الشيء

كتب الحريري: “ويقولون: شلت الشيء، فيعدون اللازم بغير حرف التعدية، ووجه الكلام أن يقال: أشلت الشيء، أو شلت به، فيتعدى بهمزة النقل أو بالباء كما تقول العرب: شالت الناقة بذنبها، وأشالت ذنبها، والشائل عندهم هو المرتفع، ومنه قول الشاعر:

يا قوم من يعذر في عجرد ** القاتل المرء على الدانق

لما رأى ميزاته شائلا ** وجاه بين الأذن والعاتق

وذكر بعض مشايخ أهل اللغة أن من أفحش ما تلحن فيه العامة قولهم: شال الطير ذنبه لأنهم يلحنون فيه ثلاث لحنات، إذ وجه القول: أشال الطائر ذناباه.

ذكر أبو عمر الزاهد أن أصحاب الحديث يخطئون في لفظة ثلاثية في ثلاثة مواضع، فيقولون في حراء ( اسم الجبل ) حري فيفتحون الحاء وهي مكسورة، ويكسرون الراء وهي مفتوحة ويقصرون الالف وهي ممدودة وحراء مما صرفته العرب ولم تصرفه.”

 

قل: الأوراق الخضر والأعلام الصفر

ولا تقل: الأوراق الخضراء والأعلام الصفراء

كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن المطابقة بين الصفة والموصوف واجبة في اللغة العربية بعد أن تطورت واكتملت وقد التزم العرب هذه المطابقة وخصوصاً في أفعل ومؤنثه فعلاء للأحوال والألوان. قال تعالى “ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف الوانها وغرابيب سود”. وقال عز من قائل: “عاليهم ثياب سندس خضر”، وقال “وسبع سنبلات خضر”، وقال “متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان”، وقال “ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق”.

وقال عنترة:

فيها اثنتان وأربعون حلوبة              سوداً كخافية الغراب الأسحم

قال أبو عباس المبرد في أوائل كتابه الكامل في الأدب: “فإن أردت نعتاً محضاً يتبع المنعوت قلت مررت بثياب سود ونخيل دعم وكل ما أشبه هذا فهذا مجراه”

أما دعوى معاملة جمع غير العاقل كمعاملة المؤنث المفرد فغير صحيحة، لأن قولنا “أيام معدودة” تدل التاء فيها على الجمع كتاء المارة والسابلة والناقلة والمعتزلة والنظارة والجالية، وما يطول ذكره.”

 

قل: هن بيض وسود وخضر

ولا تقل: هن بيضاوات وسوداوات وخضراوات

كتب الحريري: “ويقولون في جمع بيضاء وسوداء وخضراء: بيضاوات وسوداوات وخضراوات، وهو لحن فاحش، لأن العرب لم تجمع فعلاء التي هي مؤنث أفعل بالألف والتاء، بل جمعته على فُعْل، نحو خضر وسود وصفر وبيض، كما جاء في القرآن: “ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود” والعلة فيه أنه لما كان هذا النوع من المؤنث على غير لفظ المذكر ومبنيا على صيغة أخرى قل تمكنه، وامتنع من الجمع بالألف والتاء، كما امتنع مذكره من الجمع بالواو والنون. فأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس في الخضروات صدقة) فالخضروات هنا ليست بصفة بل هي اسم جنس للبقلة، وفعلاء في الأجناس تجمع بالألف والتاء، نحو: بيداء وبيداوات وصحراء وصحراوات، وكذلك إذا كانت صفة خارجة عن مؤنث أفعل نحو: نفساء ونفساوات.”انتهى

وهذا مثال جيد على ما عانى منه علماء العربية في ايجاد تفسيرات للكثير من الأحاديث المختلقة التي نسبها الأميون للرسول الأكرم (ص).

 

قل: لبست بِذْلّةً من ثيابي

ولا تقل: لبست بَدْلّةً من ثيابي

كتب الزبيدي: ” يقولون لبست بَدْلَةً من ثيابي والصواب “بِذْلَةً” بالذال المعجمة وكسر الباء.”

وكتب الجوهري في الصحاح: “بَذَلْتُ الشيءَ أَبْذُلُهُ بَذْلاً، أي أعطيته وجُدْتُ به. والبِذْلَةُ والمِبْذَلَةُ: ما يُمْتَهَنُ من الثياب، يقال: جاءنا فلان في مَباذِلِهِ، أي في ثياب بِذْلَتِهِ.”

 

قل: تطبق الحكومة المخطط على حسب ترتيب أولويّاته.

ولا تقل: تطبق الحكومة المخطط على حسب ترتيب أوليّاته.

كتب عبد الهادي بو طالب في التمييز بين الأوليات والأولويات: “الأوَّلي ومؤنثه الأوّلية. يعنيان الأصلي والأصلية، أي السابق على غيره وما جاء بعده متفرع عنه. وهو البداية. ونقول طلب أوَّلي، بمعنى أنه البداية وسيتلوه طلب آخر. ويقول المحامي للقاضي : “نتقدم لهذه المحكمة بدَفْع أوَّلي، لحجة الخصم”. بدلا من دفع أوَّل. وإذا كان للإعلامي من تعاليق على الحدث ينوي تقديمها أَوّلا بأول فإنه يعلن عن تقديمه الأوَّل بأنه تقديم أوَّلي.

والأوَّليات تعني المعطيات الأولى التي يتضمنها بحث أو تعليق ويتفرع عنها ويضاف إليها غيرها.

والأوَّليات هي غير الأوْلويّات التي تعني الأسبقيات التي تتقدم في الترتيب وتسبق في الخيارات، وتعلو على غيرها. فنقول مثلا حدد المخطط الاقتصادي أولويّات جاهزةً للتنفيذ. والحكومة تطبق المخطط على حسب ترتيب أولويّاته.

ولفظ الأولويَّات يأتي من لفظ أَوْلَى التي تعني الأفضل والأَجدر. ويقال: “كان الأَوْلى أن يفعل كذا”. ولا يقال كان الأولى لو فعل كذا. وفي القرآن: “فأولى لهم طاعة وقول معروف”.

 

قل: تغشمر السيل

ولا تقل: تغشرم السيل

كتب الحريري: “ويقولون لمن يأخذ الشيء بقوة وغلظة: قد تغشرم، وهو متغشرم. والصواب أن يقال فيه: تغشمر، وهو متغشمر، بتقديم الميم على الراء، كما قال الراجز:

إن لها لسائقا عشنزرا ** إذا ونين ساعة تغشمرا

ويروى: إن لها لسائقا غشوزرا، وكلاهما بمعنى الشديد. ومن كلام العرب: قد تغشمر السيل، إذا أقبل بشدة وجرى بحدة.” انتهى

وقد يقول القارئ ما الفائدة في الإتيان بهذا حيث لا يستعمل أحد اليوم الفعل “تغشرم”. لكني أتيت بهذا لأبين أن عدداً من الأفعال التي يعتقد أنها عامية هي عربية سليمة ومنها الفعل “تغشمر” أو “تقشمر” كما يستعمله الناس اليوم فمن معانيه ما جاء في الصحاح:

” الغَشمَرَة: إتيان الأمر من غير تثبّتٍ.”

وهذا يبين أن المعنى الذي يراد منه في استعمال اليوم لا يختلف كثيرا عن المعنى الذي جاءت به معاجم العربية.

 

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

 

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image