قل ولا تقل / الحلقة الخامسة والتسعون

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

 

قل: تَحْرِص عليهم
ولا تقل: تَحْرَص عليهم

كتب الكسائي: “تقول “حَرَصتُ بفلان، بفتح الراء، قال الله عز وجل “وما أكثر الناس ولو حَرَصْتَ بمؤمنين”. ولا تقول “تَحْرَصُ، بفتح الراء، قال الله تعالى: “إن تَحْرِصْ على هداهم فإن اللهَ لا يهدي من يضل”.

وأضاف المحقق في تعليقه على قول الكسائي “حَرَصْتُ بفلان”:

هذا قول أبي ذؤيب الهذلي:

ولقد حَرَصتُ بأن أُدافع عنهمُ           فاذا المنيَة أقبَلَت لا تُدفَعُ

عَدّاه بالباء لأنه في المعنى “همَمْتُ”، والمعروف: حَرَصت عليه. انظر لسان العرب (حرص). وفي المزهر للسيوطي: “قال ابن دستويه في شرح الفصيح: قول العامة: حَرِصْتُ بالكسر أحرص لغة صحيحة إلا انها في كلام الفصحاء قليلة، والفصحاء يقولون بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل.

أما حول ما قاله الكسائي في الفعل المضارع فقد كتب المحقق:

“في العلائي: تقول لا تحرِص بكسر الراء دون فتحها. وفي موضع آخر من “ومضارعه بكسرها” تقول: لا تَحْرِص.  وفي لسان العرب (حرص): واما حَرِصَ يَحْرَصُ فلغة رديئة. قال الأزهري: والقراء مجمعون على: ولو حَرَضْتَ بمؤمنين.”

 

قل: طابَ حَمِيمُكَ للخارج من الحمام
ولا تقل: طابَ حَمَّامُك للخارج من الحمام

وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “يقال للخارج من الحمام طابَ حَميمُكَ أي عَرَقُكَ لأن عَرَقَ الصحيح طّيِّبٌ خلاف المريض، ولا يقال طاب حمامك.” انتهى

وكتب الجوهري في الصحاح: “والحَميمُ الماء الحارّ. وقد اسْتَحْمَمْتُ، إذا اغتسلتَ به. هذا هو الأصلُ ثمَّ صار كلُّ اغتسالٍ استحماماً بأي ماء كان….. والحَميمُ المطر الذي يأتي في شدَّة الحرّ. والحميمُ العَرَقُ. وقد اسْتَحَمَّ، أي عَرِقَ.”

 

قل: أقام بسورية من بلاد الشام
ولا تقل: أقام بسوريّا ولا سُوريَا

كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن سورية هي من بلاد الشام على قول أو هي بلاد الشام على قول آخر. وقد ذكر الزمخشري في كتابه الفائق ما هذا نصه: “قال كعب (رحمه الله) ان الله بارك للمجاهدين في صليات أرض الروم كما بارك لهم في شعير سورّيَة”. قال الزمخشري: “الصليات نبات تجذبه الأبل وتسميه العرب خبزة الإبل…وسورّية هي الشام والكلمة رومية”. وقال ياقوت في معجم البلدان: “سورية موضع بالشام بين خناصرة وسلمية والعامة تسميه سورية”، ثم نقل قول بعض شيوخ الروم لملكهم هرقل “أنشدك الله أن تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولم تعذر”. وقول هرقل “سلام عليك يا سورية سلام مودع لا يرجو أن يرجع اليك أبداً”. فقل سوريّة ولا تقل: سُورّيا ولا سُوريَا.”

 

قل: وَرَقُ الدِّفْلى مُرُّ
ولا تقل: وَرَقُ الدِّفْلةِ مُرُّ

وكتب الزبيدي: “يقولون لضرب من الشجر “دِفْلَة” والصواب “دِفلى” على مثال “فِعلى” والأل للتأنيث. وقال أبو علي: العرب تقول “هو أمرُّ من الدِّفْلى وأحلى من العسل”.

وقال أبو حنيفة الإصبهاني: يقال لشجر الدِّفْلى “الحَبَنُ” وزنادها جيدة فيما زعموا، ولا يأكل الدفلى شيء، وهو للحافر سَمٌّ نَحّار. وقال الأحمر: الدَّفْلى للواحد والجمع.

  

قل: كاد الرجل ينجح
ولا تقل: كاد الرجل أن ينجح

وكتب عبد الهادي بو طالب: “أما بعد فعل كاد (وهو أيضا من أفعال المقاربة) فأنصح ألا تُستَعمَل بعده “أَنْ”. ففي القرآن: “يكاد سَنا بَرْقٍه يذهبُ بالأبصار”. وإن كان ورد استعمالها في المقولة المشهورة: “كاد المُريبُ أن يقول خذوني”.

ومما أخذ يشيع على الألسنة والأقلام استعمال كلمة “الكاد” ويقولون:”وبالْكادِ حصل منه على وعد”. وفي هذا التعبير أدخلت أل التعريفية على الفعل (كاد) وهي لا تدخل إلا على الاسم والأحسن استعمال “بصعوبة” بدلا من بالكاد.

 

قل: اتخذت سِردابا بعشر درج
ولا تقل: اتخذت سَردابا بعشر درج

وكتب الحريري: ويقولون: اتخذت سَردابا بعشر درج، فيفتحون السين من سرداب، وهي مكسورة في كلام العرب، كما يقال: شِمراخ وسِربال وقِنطار وشِملال، وما أشبه ذلك مما جاء على فِعلال بكسر الفاء.

ثم إن العرب فرقت بين ما يرتقى فيه وما يحدر منه، فسمت ما يرتقى فيه إلى العلو درجا وما يتحدر فيه إلى السفل دركا، ومنه قوله تعالى: “إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار” وجاء في الآثار: أن الجنة درجات والنار دركات.” انتهى

وهكذا نرى أن العرب وضعوا قواعد حتى للأعجمي اذا ما دخل الاستعمال في العربية. فكلمة “سرداب” فارسية لكنها ما أن دخلت الإستعمال عند العرب حتى جعلوها على وزن “مِفعال”.

 

قل: أرض يَنْعَبُ فيها الغُرابُ
ولا تقل: أرض يَنْعُبُ فيها الغُرابُ

كتب الحريري: “ويقولون في مضارع ذخر يذخُر بضم الخاء، والصواب فتحها، كما يقال: فخر يفخر وزخر البحر يزخر، ومن أصول العربية أنه إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق التي هي الهمزة والهاء والعين والحاء الغين والخاء، كان الأغلب فتحها في المضارع، نحو سأل يسأل وذهب يذهب ونعب ينعب وسحر يسحر، وفغر فاه يفغر، وفخر يفخر، فإن نطق في بعضها بالكسر أو بالضم فهو مما شذ عن أصله، وندر عن رسمه.”

 

قل: وضع الدجاج في الخُمِّ
ولا تقل: وضع الدجاج في القن

جاء في ملحق مفردات أوهام الخواص: ويقولون لمحبس الدجاج وقفص الدواجن والطير: القن، فيوهمون، والصواب أن يقال له: الخم، لأن القن هو العبد الذي ولد من أب مملوك، والجمع قنان وأقنة، ومنه قول جرير:

إن سليطا في الخسار إنه ** أبناء قوم خلقوا أقنه

ومنه أيضا أنهم يطلقون على الحبل الذي يشد به السروال والمنطق. اسم الدكة، والصواب أن يقال له التكة. ويقولون لموجودات المنزل ومتاعه: عفش والصواب أن يقال لها: شوار أو أثاث. ويقولون للبلعوم: الحُنجُرة (بضم الحاء والجيم)، والصواب الحَنجَرة (بفتحهما)، والجمع حناجر، ومنه قوله تعالى: “وبلغت القلوب الحناجر”. انتهى

وجاء في لسان العرب: “والخُمُّ: قَفَصُ الدجاج؛ قال ابن سيده: أَرى ذلك لخبث رائحته.”

 

قل: جاءني في وَضَحِ النهار
ولا تقل: جاءني في وَضْحِ النهار

وكتب عبد الهادي بوطالب: “وَضَحُ الصُّبحِ هو وقت ظهور الصباح بعد انكشاف ظلام الليل. ووَضَحُ النهار هو وقت ظهور وقت النهار ببزوغ الشمس واضحة للعيان (أي للمعاينة بالبصر). وبعض المتحدثين يخطئون فلا يفتحون الواو والضاد. وتختلف ألسنتهم على تشويه الكلمة فيضع البعض على الواو الضمة أو الكسرة ويسكِّن البعض الضاد والصواب هو الوَضَح. وفعله وضَح يضِح ضَحة (بدون واو كما هو الشأن في سَعة (من وسِع) ودَعَة (من وَدَع). كما أن مصدره هو وُضوح.

ويطلق الوَضَح أيضا على الطريق المستقيم الذي يسهل السير عليه. ويُعبَّر عن هذا النوع من الطريق بالمَحَجَّة. وفي الحديث: “عليكم بالْمَحَجَّة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك”. وعلى ذلك نقول: “حُجَّة فلان واضحة كوَضَح الصبح أو وَضَح النهار”. كما يُطلق الوَضَح على البياض الناصع فهو بذلك لا يشوبه لون آخر يفقد به وضوحه. وفي معنى الجلاء والوضوح يقال أيضا وضَح الوجهُ أي بان حسنه.”

 

قل: ملكتهم بِلقِيس
ولا تقل: ملكتهم بَلْقِيس

كتب الحنفي: “قال الصقلي: يقولون: بَلْقيس، بفتح الباء. والصواب كسرها.”

 

قل: كانت حرفته الحِجَامَة
ولا تقل: كانت حرفته الحَجَامَة

كتب الحنفي: “أقول: يقولون للحِرْفَةِ المعروفة: الحَجامة، بفتح الحاء، وهو بكسرها في القاموس: وحِرْفَتُهُ الحِجامة ككِتابة. وفي المختار: الأسم الحِجامة، بالكسر. وكذلك لا يتحقّقون معناه فإنّهُ المصُّ، وإنّما سُمي بها لأنّه يمصُّ الدم بعد القطع، كذا في القاموس.”

وجاء في لسان العرب: ” وأَصل الحَجْمِ المصّ….. قال ابن دريد: الحِجامةُ من الحَجْمِ الذي هو البَداءُ لأَن اللحم يَنْتَبِرُ أَي يرتفع.” وكتب الفيروزأبادي في القاموس عن معنى “حجم” الذي كتب عنه ابن دريد: “الحَجْمُ من الشيءِ: مَلْمَسُه الناتِئُ تَحْتَ يَدِكَ.”

 

قل: هذه مسابقة حسنة وظاهرة حسنة وعلامة حسنة وإمارة حسنة وطالعة حسنة
ولا تقل: بادرة حسنة

كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن “البادرة” عند إطلاقها عند العرب تدل على غير الحسن، وغير المستحسن، إذا كانت بادرة إنسان وكانت معنوية لا مادية. جاء في لسان العرب: “والبادِرَةُ الحِدَّةُ، وهو ما يَبْدُرُ من حِدَّةِ الرجل عند غضبه من قول أَو فعل. وبادِرَةُ الشَّرِّ: ما يَبْدُرُكَ منه؛ يقال: أَخشى عليك بادِرَتَهُ.”

وبَدَرَتْ منه بَوادِرُ غضَبٍ أَي خَطَأٌ وسَقَطاتٌ عندما احْتَدَّ.
والبادِرَةُ البَدِيهةُ. والبادِرَةُ من الكلام: التي تَسْبِقُ من الإِنسان في الغضب؛ ومنه قول النابغة: ولا خَيْرَ في حِلْمٍ إِذا لم تَكُنْ له / بَوادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا”.

وهذا من التعابير البلاغية وذلك أن الشاعر نفى الخوف من بوادره وأراد أنه ليس له بوادر فتخاف وتخشى، والذي أشعرنا بذلك هو أن البوادر مخشية مخوفة سواءاً أكانت منه أم كانت من غيره.

وقد اتصفت بادرة الإنسان المعنوية بالسوء في كتب اللغة كما ذكرت وفي اللغة الأدبية كما ذكرت في البيت “سهل الخليقة لا تخشى بوادره” وكقول الفرزدق:

إذا مالك ألقى العمامة فاحذروا         بوادر كفّي مالك حين يغضب

قال الشريف الرضي أراد الفرزدق أن مالكاً إذا ألقى العمامة طار حلمه وخيف سطوه وما دام معتماً فهو مأمون الهفوة أو مغمود السطوة، وعلى مجرى عادتهم وعُرف طريقتهم.

وجاء في تأريخ الطبري ذكر بادرة الجهل، وورد في مادة فرط من أساس البلاغة للزمخشري “ونخاف أن تفرط علينا بادرة” وورد في تأريخ الوزراء “أو بادرة تندم عليها”، فالبادرة مفروضة بالسوء أبداً حتى بادرة الدمع. إلا أن البادرة وردت كما نقلنا من لسان العرب بمعنى البديهة وهو القول المفاجئ ولا يشترط فيه الخير والحسن، وإنما يجوز فيه الإعجاب لبراعتها وإن كانت بذيئة في بعض الأحيان. قال أبو حيان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة “ومتى لم تغفر لي الذنب البكر والجناية العذراء والبادرة الصادرة فقد أعنتني على ما كان مني”، فلو كانت البادرة حسنة لم يحتج صاحبها الى الغفران.”

 

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني
15 نيسان 2018

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image