قل ولا تقل / الحلقة السابعة والعشرون بعد المائة

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

قل: كان في القدم قادرا عالماً
ولا تقل: كانَ في الأَزَلِ قادراً عالماً

كتب الحنفي: “قال الزَمَخْشَريّ في الأساس: قولهم: كانَ في الأَزَلِ قادراً عالماً، وعِلمُهُ أَزَليٌّ وله الأَزَليّةُ، مصنوعٌ ليسَ من كلام العرب. ولَحّنَهُ أيضاً الإمام جمال الدين عبد الرحمن بن علي الجوزي وأبو بكر الزبيدي.”

وقد اتفق جامعوا المعاجم على ما لخصه ابن فارس في مقاييس اللغة حين كتب في باب (أزل): ” وأما الهمزة والزاء واللام فأصلان: الضِّيق، والكَذِب. قال الخليل: الأزْل الشدّة، تقول هم في أَزْلٍ من العَيْشِ إذا كانوا في سَنَةٍ أو بَلْوَى….. قال أبو النّجم: وأما الكَذِب فالإزْل، قال ابن دارة:

يقولونَ إزْلٌ حُبُّ لَيْلَى وَوُدُّها      وقد كَذَبُوا ما في مَوَدَّتِها إزْلُ

وانفرد الجوهري في الصحاح في قوله: ” والأَزَلُ بالتحريك: القِدَم. يقال أَزَليٌّ”. فلم يأت بشاهد ولا دليل على أصل هذا الإشتقاق. والصحيح الذي دفع الزمخشري أن ينكره هو أن العرب لم تعرف كلمة أزل أو أزلي أو أزلية حتى جاء الفلاسفة بعد الإسلام فاشتقوا الكلمة.

فكتب ابن منظور في باب (أزل) في لسان العرب: ” قال أَبو منصور: ومنه قولهم هذا شيء أَزَليٌّ أَي قديم، وذكر بعض أَهل العلم أَن أَصل هذه الكلمة قولهم للقديم لم يَزَل، ثم نُسِب إِلى هذا فلم يستقم إِلا بالاختصار فقالوا يَزَليٌّ ثم أُبدلت الياء أَلفاً لأَنها أَخف فقالوا أَزَليٌّ، كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يَزَنَ: أَزَنيٌّ.”

وهكذا شاع استعمال كلمات “أزل” و “ازلي” و”ازلية” وان لم تكن من العربية ولم تقم حاجة لإشتقاقها لأنها لم تأت بجديد.

قل: قَد خَصَيْتُ الفَحْلَ
ولا تقل: قَد أخْصَيْتُ الفَحْلَ

كتب الكسائي: “وتقول قَد خَصَيْتُ الفَحْلَ بغير ألف. وهو الخِصَاءُ ولا يقال الإخْصاءُ.”إنتهى

وكتب ابن فارس في المقاييس في باب (خصي): ” الخاء والصاد والحرف المعتل كلمةٌ واحدةٌ لا يُقاسُ عليها إلاّ مجازاً، وهي قولُهم خَصَيتُ الفَحْل خَصْياً.
و إليك من الخِصاء.

ومعنى خَصَيْت فعلٌ مشتقٌّ من الخُصْي؛ وهو إيقاعٌ به، كما يقال ظَهَرْتُه وبطنته، إذا ضربتَ ظهْرَه وبطنَه. فكذلك خَصَيْته: نزعت خُصْيَيْه.”

وكتب الفيروزأبادي في القاموس: ” وأَخْصَى: تَعَلَّمَ عِلْماً واحِداً.” فيتبين لنا سبب ما كتبه الكسائي مصححا ما شاع من خطأ.

قل: هو الخِوَانُ
ولا تقل: هو الخُوَانُ

كتب الكسائي: ” وتقول هو الخِوَانُ للذي يؤكَلُ عليه بكسر الخاء.”

قل: هذا خوان لتقديم الطعام
ولا تقل: هذه مائدة لتقديم الطعام

وكتب الحريري “ويقولون لما يتخذ لتقديم الطعام عليه: مائدة، والصحيح أن يقال له خوان إلى أن يحضر عليه الطعام، فيسمى حينئذ مائدة، يدل على ذلك أن الحواريين حين تحدوا عيسى عليه السلام بأن يستنزل لهم طعاما من السماء، قالوا: “هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء”، ثم بينوا معنى المائدة بقولهم: “نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا”.

وحكى الأصمعي قال: غدوت ذات يوم إلى زيارة صديق لي، فلقيني أبو عمرو بن العلاء، فقال لي: إلى أين يا أصمعي فقلت: إلى صديق لي، فقال: إن كان لفائدة، أو عائدة، أو مائدة، وإلا فلا.

وقد اختلف في تسميتها بذلك، فقيل: سميت به لأنها تميد بما عليها، أي تتحرك، مأخوذ من قوله تعالى: “وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم”، وقيل: بل هو من ماد، أي أعطى، ومنه قول رؤبة بن العجاج:

إلى أمير المؤمنين الممتاد

أي المستعطى، فكأنها تميد من حواليها مما أحضر عليها.

وقد أجاز بعضهم أن يقال فيها: ميدة، واستشهد عليه بقول الراجز:

 وميدة كثيرة الألوان ** تصنع للجيران والإخوان

وفي كلام العرب أشياء تختلف أسماؤها باختلاف أوصافها فمن ذلك أنهم لا يقولون للقدح: كأس ألا إذا كان فيها شراب، ولا للبئر: ركية إلا إذا كان فيها ماء، ولا للدلو: سجل إلا وفيها ماء ولو قل، ولا يقال لها: ذنوب إلا إذا كانت ملأى، ولا يقال أيضا للبستان: حديقة، إلا إذا كان عليه حائط، ولا للإناء: كوز إلا إذا كانت له عروة، وإلا فهو كوب، ولا للمجلس: ناد إلا وفيه أهله، ولا للسرير: أريكة إلا إذا كانت عليه حجلة، ولا للمرأة: ظعينة إلا ما دامت راكبة في الهودج، ولا للستر: خدر إلا إذا اشتمل على امرأة، ولا للقدح سهم: إلا إذا كان فيه نصل وريش، ولا للطبق: مهدى إلا ما دامت فيه الهدية، ولا للشجاع: كمي إلا إذا كان شاكي السلاح، ولا للقناة رمح إلا إذا ركب عليها السنان، وعليه قول عبد القيس بن خفاف البرجمي:

وأصبحت أعددت للنائبات         عرضا بريا وعضبا صقيلا

ووقع لسان كحد السنان            ورمحا طويل القناة عسولا

ولو كان الرمح هو القناة لقال: رمحا طويلا، لأن الشيء لا يضاف إلا إلى ذاته.

ومن هذا النمط أيضا أنه لا يقال للصوف: عهن إلا إذا كان مصبوغا، ولا للسرب: نفق إلا إذا كان مخروقا، ولا للخيط: سمط إلا إذا كان فيه نظم، ولا للحطب: وقود إلا إذا اتقدت فيه النار، ولا للثوب: مطرف إلا إذا كان في طرفه علمان، ولا لماء الفم: رضاب إلا ما دام في الفم، ولا للمرأة: عانس ولا عاتق إلا ما دامت في بيت أبويها، ولذلك لا يقال للأنبوبة: قلم إلا إذا بريت.

وأنشدني أحد شيوخنا رحمه الله لأبي الفتح كشاجم:

 لا أحب الدواة تحشى يراعا     تلك عندي من الدوي معيبه

قلم واحد وجودة خط              فإذا شئت فاستزد أنبوبه

هذه قعدة الشجاع عليها           سيره دائبا وتلك جنيبه.”

وعلق أبو الثناء الآلوسي على ما كتبه الحريري فكتب:

“(ويقولون مائدة لما يتخذ لتقديم الطعام عليه والصحيح أن يقال له خوان إلا أن يوضع عليه فحينئذ يسمى مائدة ويدل عليه آيتها) وهي أظهر من أن تذكر، وفي الكلام استخدام لا يخفى على ذوي الأفهام (وسمي بذلك) قيل (لميده أي تحركه بما عليه، وقيل لأنه كان يميد من حواليه مما حضر عليه) فهو من ماد يعني أعطى وعليه قول رؤبة(كما في أعلاه) …  

وبعد ثبوت هذا لا كلام في صحة ما اجازه، وأما ما تقدم ففيه أنه لا مانع من إطلاق ما ذكر على الخوان باعتبار أنه وضع أو سيوضع عليه والأمر في مثله سهل، ثم أنه قد نقل في التقريب عن الأخفش وأبي حاتم أن المائدة نفس الطعام وإن لم يكن معه خوان وهو الشائع اليوم، ومقالة الحواريين ليست نصا فيما تقدم، فـ (من)  فيها تحتمل أن تكون ابتدائية وأن تكون تبعيضية (وفي كلامهم أشياء تختلف اسماؤها باختلاف أوصافها، فمن ذلك الكأس لا يقال للقدح إلا إذا كان فيه شراب) تعقب بأن الكأس يطلق على الإناء وعلى الشراب وعلى مجموعهما وإطلاقه على ما فيها مجاز لعلاقة الحلول وعليها فارغة حقيقية أو مجاز من إطلاق المقيد على المطلق وكذا إطلاق القدح على ما فيه شراب على تسليم اختصاصه بالفارغ مجاز والعلاقة لا تخفى، وكذا قوله (ومنه الركية لا تقال للبئر إلا إذا كان فيها ماء، ومنه السجل لا يقال للدلو إلا إذا كان فيه ماء أيضا وإن قل ومنه الذنوب) بفتح الذال المعجمة (لا يقال لها إلا إذا كانت ملأى) فقد قال الجوهري: الركية البئر من غير تفرقة بين ما فيها ماء وما ليس فيها، وفي المطالع سوّى بين السجل والذنوب وباب المجاز واسع جدا، وكذا قوله (ومنه الحديقة لا تقال للبستان إلا إذا كان عليها حائط) ففي عمدة الحفاظ في تفسير قوله تعالى: “حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا”[النبأ:32] أن الحديقة القطعة من الأرض المستديرة ذات النخل والماء تشبيها بحدقة الإنسان في الهيئة، وفي الصحاح أنها الروضة ذات الشجر من غير تفرقة بين ما أحاط به حائط وغيره. نعم ذهب إلى ذلك بعض اللغويين ولعل ذلك لأن أصله بحسب الاشتقاق يقتضي ذلك لأنه من أحدق به إذا أحاط وطاف به كما قاله ابن دريد وأنشد

المنعمون بنو حرب وقد حدقتبي المنية واستبطأت أنصاري

وكذا قوله (ومنه النادي لا يقال للمجلس إلا إذا كان فيه أهله) فقد قيل أنه ليس بمسلَّم لجواز إطلاقه على المجلس نفسه مجازا كما يطلق على أهله، وقوله تعالى “فَلْيَدْعُ نَادِيَه”[العلق:17] يحتمل ذلك، والمجاز في النقص أي أهل ناديه (ومنه الكوز لا يقال للإناء إلا إذا كان له عروة وإلا فهو كوب، ومنه الأريكة لا تقال للسرير إلا إذا كان عليه حجلة، ومنه الظعينة لا تقال للمرأة إلا إذا كانت راكبة في الهودج) وهو المحمل المعروف وفي النهاية الظعينة المرأة في الهودج، ويقال للمرأة بلا هودج وللهودج بلا امرأة. (ومنه الخدر لا يقال للستر إلا إذا اشتمل على امرأة) وفي الجمهرة الخدر خدر المرأة وهو ثوب يمد في عرض الخباء تستتر به المرأة ثم كثر في كلامهم فصار كل ما آواك خدرا، (ومنه السهم لا يقال للقِدح) بالكسر (إلا إذا كانت فيه نصل وريش ومنه المهدي لا يقال للطبق إلا إذا كانت فيه هدية ومنه الكمي لا يقال للشجاع إلا إذا كان شاكي السلاح) أي تامه، وقيل السلاح مشبه بالشوك، ويقال شاك بكسر الكاف وضمها فمن كسره جعله منقوصا كقاض وفيه قولان، الأول: أن أصله شائك فقلب مثل هار واشتقاقه من الشوك، والثاني: أن أصله شاكك من الشكة مشددة وهي السلاح أبدل ثاني مثليه حرف علة للتخفيف وأعل أعلال قاض، ومن ضمه قال: أصله شوك فانقلب واوه ألفا أو شائك فحذفت همزته كما قيل هار بضم الراء، ويقال فيه شاكّ بتشديد الكاف على أنه من الشكة لا غير كما في شرح أدب الكاتب لابن السيد، ثم فيما ذكر في المتن كلام فقد قيل أن الكمي يطلق على الشجاع مطلقا كما يطلق على لابس السلاح وهو من كمي إذا استتر فاطلاقه على اللابس ظاهر ووجهه على الإطلاق الآخر ما أشار إليه السهبلي، قال: سمي به لأنه من شأنه أن يخفي شجاعته فلا يظهرها إلا في محلها، وقيل لأنه ينزل الحومة متنكرا لينازل، ولو لم يتنكر يحجم عنه لمزيد شجاعته كما وقع ذلك للأمير علي كرم الله وجهه. (ومنه الرمح لا يقال للقناة إلا إذا ركب عليها السنان، وعليه قول عبد القيس بن خفاف) كغراب (البرجمي) بفتح الموحدة وسكون الراء وجيم وميم نسبة للبراجم قوم من تميم (كما في أعلاه)…

أي متحركا مضطربا (فإنه لو كان الرمح هو القناة لقال رمحا طويلا لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه)، وتعقب بأنه من إضافة العام إلى الخاص كشجر الأراك، ولو كان قال: رمح القناة لتم له ما أراد، والبيت أظهر في أن البرجمي أطلق القناة على نفس السنان فتأمل. (ومنه القلم لا يقال للأنبوبة إلا إذا بريت) لأنه مأخوذ من القلم وهو القطع، وقيل لأعرابي: ما القلم؟ فقال: لا أدري، فقيل: توهمه، فقال: عود قلم من جانبيه كتقليم الظفر فسمى قلما وأنت تعلم أن التجوز في مثله مما جرى به قلم القادة (ولأبي الفتح كشاجم) بفتح الكاف على ما في توضيح ابن هشام وبضمها على ما في القاموس وهو علم شاعر مشهور قيل أنه مأخوذ من صفاته وصناعاته فالكاف من كاتب والشين من شاعر والألف من أديب والجيم من جميل والميم من منجم (كما في أعلاه)…. أراد لا أحب كثرة الأقلام في الدواة وتحشى من الحشو المعروف ودوي بضم الدال وكسرها للاتباع وكسر الواو وتشديد الياء جمع دواة بل يكفي قلمان يكون أحدهما كالفرس مركب للسير عليه والآخر جنيب للحاجة إذا اقتضته. (ومن هذا النظم أنه لا يقال للصوف عهن إلا إذا كان مصبوغا)، وفي القاموس أنه الصوف أو المصبوغ ألوانا. (ولا للسرب نفق إلا إذا كان مصنوعا مخروقا) وفي القاموس النفق محركة سَرَب في الأرض له مخلص إلى مكان. (ولا للخيط سِمْط إلا إذا كان فيه نظم، ولا للحطب وَقود إلا إذا اتقدت فيه النار) وفي القاموس الوقود كصبور الحطب فأطلق ولعل السياق يقيده. (ولا للثوب مطرف إلا إذا كان فيه عَلَمان) وفي القاموس المطرف كمكرم رداء من خز مربع ذو أعلام فزاد في القيود. (ولا لماء الفم رُضاب إلا إذا كان في الفم) وفي القاموس الرضاب كغراب الريق المرشوف أو قطع الريق في الفم. (ولا للمرأة عانس ولا عاتق إلا  إذا دامت في بيت أبويها) ولم تتزوج قط، وفي القاموس العاتق الجارية أول ما أدركت والتي لم تتزوج أو التي بين الإدراك والتعنيس، وبالجملة ما ذكر في هذا الفصل برمته من فقه اللغة وأكثره مدخول كما لا يخفى على ذي الفضل والله تعالى أعلم.”

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image