نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء التاسع

بدعة صراع الحضارات

ما أن تعب الأوربي من تكرار عبارة الثقافة اليهودية – المسيحية وحقها في الهيمنة وحقه في تمثيلها، حتى طلع علينا ببدعة جديدة هي (صراع الحضارات Clash of Civilizations) وقدر ما يهمني ما أراده الأوربي بهذه البدعة يهمني انشغال عدد من العرب (مسلمين وغير مسلمين) وعدد من المسلمين غير العرب بها واندفاعهم في السقوط في فخها مبدين استعدادهم للدخول في حوار مع الأوربي لحل هذا الصراع أو إيجاد مخرج يرضيه. فهذه البدعة الجديدة تحمل في طياتها خرافة لا تقل عن تلك في بدعة الثقافة اليهودية – المسيحية.

فبرغم ان الأوربي حاول أن يصور هذه البدعة الجديدة على أنها تحليله التأريخي لطبيعة الصراع القائم في العالم في هذا الوقت إلا أنها في حقيقة الأمر موجهة لنا ومعنية بتسويغه لرغبته التي لا تتوقف في طلب الهيمنة علينا أو الإبقاء على تلك الهيمنة.

فلو توقفنا قليلاً ونظرنا في عبارة (صراع الحضارات) لوجدناها بدعة في نصها قبل النظر في مضمونها. فأول ما يستوقفنا هو انه اذا ما قلنا إن هناك صراعاً بين حضارات فلا بد أن نتفق أولاً على تعريف المصطلحات. ذلك انه اذا لم يُتفق على المصطلح فإن الحوار يُصبح عبثاً لا جدوى فيه. فاللغة العربية، وهي من امهات اللغات الاشتقاقية، تعرف “الحضارة” و “المدنية” كما تعرف “الثقافة”، وكل من هذه له معنى ومدلول نجده في الأغلب في الجذر الذي جاءت منه كل كلمة. أما اللغة الإنكليزية فهي ليست اشتقاقية وأكثر مفرداتها وعلى الأخص تلك المعنية بالفكر والثقافة والعلم والتقنية مأخوذة عن اللاتينية و/ أو اليونانية. وهذا يعني أنك لا تقدر أن تعرف معنى الكلمة المستعارة في الإنكليزية من البحث عن جذرها لأن المستعير يتخذ للكلمة المستعارة معنى يلصق بها.

فليس في الإنكليزية تمييز، كما في العربية، بين مفهومي “الحضارة” و “المدنية”. ذلك ان كلمة Civilization  دخلت اللغة الإنكليزية لأول مرة في أواسط القرن الثامن عشر لتعني “عملية الخروج من حالة التوحش وانعدام التعليم”. وقد استعارها الناطقون بالإنكليزية من كلمة (سيفيتاس) اللاتينية والتي تعني (مدينة). لذا يقتضي أن الكلمة تعني “مدنية” باللغة العربية وليس “حضارة”. وينتج عن هذا انه لم يكن في الإنكليزية قبل القرن التاسع عشر كلمة كهذه ولا مفهوم بالمعنى الذي أصبحت عليه اليوم. وهذا يعني بالضرورة انه لم تكن هناك حاجة لهذه الكلمة تقتضي إيجادها. بينما العربية تعرف منذ نشأتها فعلي “تحضر” و “تمدن” كي يمكن للعربي أن يفهم عند سماعه أي من كلمتي “الحضارة” أو “المدنية” ما تعنيه دون الحاجة للبحث عن قاموس يشرح له ذلك ويدله على أصلها. وبرغم هذه الحقائق فان من يتصفح كتاب صامويل هنتنغتون يستخلص أن هذا الأوربي يعتقد انهم، اي الأوربيين، اخترعوا كلمة الحضارة واستعملوها قبل القدم حتى جاز له أن يكتب عن مرحلة جديدة في التاريخ تتسم بالصراع بين الحضارات التي شخصها كما يشاء، كما فعل رفيقه “فوكوياما” حين كتب عن “نهاية التأريخ” في انتصار الرأسمالية الأوربية بعد سقوط الإتحاد السوفيتي.

وهذه ليست المرة الأولى التي يراد فيها منا أن نفهم قصور الأوربي في التعبير عما يريده من خلال كلمات وعبارات ليست واضحة المعنى ولا الجذر. وأن نحاول أن نكيف أفكارنا وخطابنا كي تتلاءم مع قصور عبارته. فالمدنية ليست حضارة فليس كل متمدن متحضر. ولو  كان الأمر كذلك لكانت الولايات المتحدة التي سبقت في مدنيتها المجتمعات الأخرى أكثر الناس حضارة في القرن العشرين ولكانت بعض الدول حديثة الانشاء تعد متحضرة لمجرد أنها بنت الآلاف من المنشئات الحديثة. لكن التأريخ الإنساني سوف يكتب بعد زوال سطوة الولايات المتحدة، وهي زائلة لا محالة، بأنها اثبتت، بعد حرق عشرات الآلاف من الأطفال بالسلاح النووي في هيروشيما، بأنها أكثر المجتمعات وحشية وأبعدها عن الحضارة.

أما نحن أهل الهلال الخصيب فليست لدينا مشكلة في فهم “المدنية” أو “الحضارة”.  فقد كانت لدينا مدنية، وما زالت قائمة ومتصلة، منذ سكن السلف في المدن. فأول مدينة في الموصل عثر عليها الباحثون قدر عهدها بما يقرب من عشرة آلاف عام. أما الحضارة التي أدخلت القيم والمثل والنظام للمدينة فقد عرفها أهلنا منذ آلاف السنين ويكفي أن نذكر بان شريعة حمورابي هي من أقدم الشرائع المدونة التي تكشف عن عمق حضارة الإنسان في منطقتنا.

لن أكتب عن الفرق بين المدنية والحضارة وكيف لعبت الثقافة دوراً في نقل المدنية الى حضارة فهذا ليس مكانه. لكني أقول إن ما يريده الأوربي في بدعته هو في واقع الحال (صراع مدنيات) وليس (صراع حضارات). ومن أجل صراع حضارات لا بد من تحديد الحضارات التي تتصارع. فما هي الحضارات التي تتصارع في منطقتنا على وفق نظرية هنتنغتون؟ أهناك حضارة إسلامية تتصارع اليوم؟ وهل هناك حضارة أوربية تتصارع معها؟

فليس هناك حضارة اسلامية حتى يعترضها الأوربي. فالإسلام دين كما هو الحال في المسيحية وهو في هذا لا يختلف كثيرا عن المسيحية في تعدد أهواء المنتمين له. فليس بين المسلم في مصر والمسلم في اندونيسا، على سبيل المثال، أي رابط فكري أكثر من اشتراكهما في الصلاة والالتقاء في الحج، وخارج ذلك لا يجمعهما رابط آخر.

ثم ما هي الحضارة الأوربية التي يريدنا هنتنغتون أن نقبل أنها هي التي تمثل الصراع في منطقتنا؟ إن ما يريده الرأسمالي الأوربي الذي لم تنفعه بدعة تفوقه بالفكر اليهودي المسيحي فادعى ان لديه حضارة أوربية تصارعنا، فأخطأ في كل شيء. وأول الخطأ انه يزعم أن هناك مجموعة من الشعوب المسيحية والدول التي تمثل الغرب وهذه في مجموعها تشكل تلك الحضارة. لكن هذا الأوربي يستبعد المسيحي الكاثوليكي من مركز تلك الحضارة وينظر بازدراء للمسيحي الأورثودوكسي إذ هو في حقيقة الأمر يعني بالأوربي الذي يمثل حضارته المزعومة الأوربي الذي يوصف في الولايات المتحدة بانه (WASP) وهي مختصر العبارة الإنكليزية (أبيض أنكلو ساكسوني بروتستانتي). وهؤلاء القوم كانوا وما زالوا قادة الهجمة ضدنا. ولا أريد بهذا القول أني أنفي أن يكون غيرهم من الأوربيين ليسوا مشاركين في الهجمة لكن الأنكلو ساكسون يظلون طليعة الهجمة. وهذه الحقيقة بعبارة أوجز تدلنا على انه ليس هناك صراع بين حضارة مسيحية واخرى اسلامية كما يريد هنتنغتون ومن معه أن تبدو. إن كل ما هناك هو تجديد مسعاه الذي يعود للغزو الصليبي في الهيمنة على منطقتنا لسد عقد النقص التي أوردناها.

ولو افترضنا من باب الجدل أن هناك حضارة أوربية مسيحية، فما هي مظاهر تلك الحضارة؟ أي ما هي القيم التي تجمع مسيحي أوربا إن وجدت؟ والجواب البسيط هو انه ليس هناك اية قيم أخلاقية أو روحية تجمع الأوربيين؟ فقيم المسيحيين السلاف الذين تمثلهم روسيا اليوم لا تمت بصلة لقيم مسيحي بريطانيا على سبيل المثال، وليس بين مسيحي بلغاريا ومسيحي النرويج اي قاسم مشترك. إن خلاصة القول هي انه ليس بين شعوب اوربا روابط حضارية أو ثقافية. فقد يمكن لنا أن نحدد روابط سياسية أو عسكرية أو اقتصادية لكن هذه لا تمثل قواعد حضارة مشتركة. إنما هي روابط المجتمعات المدنية والتي تعيش في واقع الحال صراعاتها داخل النظام الرأسمالي الذي تنتمي له. فلو كانت تمثل نظاماً حضارياً متجانساً كما يدعي أصحاب نظرية (صراع الحضارات) لما دخلت هذه المجتمعات المتجانسة داخل حضارة واحدة في أعنف الحروب وأكثرها دموية لثلاثة قرون توجتها بحربين عالميتين في القرن العشرين حصدت عشرات الملايين من الناس. فأين هي الحضارة الأوربية الموهومة؟

ثم إن دعاة هذه البدعة يغفلون نصارى/مسيحي منطقتنا، فهؤلاء لا يمكن أن يكونوا جزءاً من الحضارة الإسلامية التي يتصدى لها دعاة بدعة الصراع، كما انهم لا يشركونهم في حضارتهم الأوربية المزعومة. وهي معضلة يفضل الأوربي ألا يسأل عنها. فهو غير قادر أن يرد على تركه لنصارى فلسطين والعراق وسورية ضحايا عدوانه ونظرياته البائسة. وهو ليس أقدر اليوم في الرد على هذا مما فعل يوم انسحب من فلسطين بعد الاستيطان الصلببي وترك مسيحييها في فلسطين لأنهم ببساطة لم يكونوا جزءا من الثقافة اليهودية – المسيحية كما انهم ليسوا اليوم جزءاً من حضارته المتصارعة.

كيف تعامل العرب مع كل هذا؟

هذا ما سأحاول بحثه في القادم..

فللحديث صلة…..

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image