نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء الثامن

بدعة الثقافة اليهودية – المسيحية

تميز عصر النهضة الأوربية التي بدأت في إيطاليا بحدثين مهمين، سبقت الإشارة لهما، وهما اخراج العرب والمسلمين واليهود من أسبانيا بعد سقوط عرناطة ونزول الأوربيين لأول مرة غزاة ومستوطنين على ساحل القارة التي سميت لاحقاً “أمريكا” عام 1492. ولعل من المفيد التوقف قليلاً عند ما فعله الأوربي في القارة الأمريكية لفهم جزء من سلوكه في العالم عموماً ومعنا خصوصاً.

فالغزو ليس ابتداعاً أوربياً بل هو قديم قدم التأريخ فكلما شعر قوم بالحاجة لما عند غيرهم قاموا بغزوهم واستباحة ما ليس لهم بحق. وهكذا فعل الأوربيون عندما غزو القارة الأمريكية واستباحوها واستوطنوها. لكن غزو الأوربي تميز عن غزو الآخرين في التأريخ في ان الأوربي ميز غزوه بالتطهير العرقي وهو ما لم يفعله قبله أحد من الغزاة. فلم يكتف الأوربي بسرقة الذهب من وسط القارة الأمريكية بل أباد السكان الأصليين بأجمعهم في جزيرة كوبا (كما نعرفها اليوم) على سبيل المثال. أما في شمال القارة (الولايات المتحدة وكندا اليوم) فبرغم قيام مؤسسة (هوليود) الصهيونية بأكبر عملية تزوير للتأريخ عن طريق “السينما”، فإن حقيقة الإبادة العرقية للسكان الأصليين، والذين سماهم الأوربي بالهنود الحمر وهم لم يكونوا لا هنوداً ولا حمراُ، لم يمكن طمسها. ثم فعلوا مثل ذلك في استراليا بعد قرنين من إبادة سكان القارة الأمريكية.

إن من المهم لنا فهم هذه الحقيقة لأن الأوربي في تعامله معنا، كما هو الحال في تعامله مع شعوب العالم الأخرى، يؤمن بحقه أن يفعل ما يشاء ودون أي حدود حتى اذا كان في ذلك إبادة قوم ما دام ذلك العمل يخدم مصلحته. ويجب أن نفهم ذلك حين نتعامل مع الأوربي لأنه ينظر اليك باستغراب إذا أنكرت عليه حق اليهود في اغتصاب فلسطين لأنه يعرف انه هو واسلافه يفعلون ذلك منذ قرون!

دخلت الدولة العثمانية مرحلة عنفوان القوة بعد احتلالها للقسطنطينة (اسطنبول اليوم) عام 1453 م وبذلك منعت أي تجاوز حقيقي على منطقتنا من قبل أي أوربي متطلع للتوسع والغزو خصوصاً إذا كان ذلك في حوض البحر الأبيض المتوسط. لذا فإن اي تقدم أوربي باتجاه منطقتنا جرى في الحدود الجنوبية لبحر العرب عند سواحل عمان ومضيق هرمز والذي كان أكثر تعرضاً للدولة الفارسية منه للدولة العثمانية. وتمكن الأوربي البرتغالي من سواحل عمان وهرمز منذ بدية القرن السادس عشر حتى عام 1650 حين طرده العمانيون من آخر قاعدة له في مسقط. ثم جاء دور الهولنديين الذين توقفوا قليلاً عند الساحل العربي في طريقهم إلى آسيا تحت غطاء شركة شرق الهند الهولندية (التي اسست عام 1602 م). لكن التدخل الحقيقي والخطير كان للأنكلو سكسون الذي بدأ بشكل تدريجي منذ طرد البرتغاليون من عمان وما زال متمكناً من أرضنا. فحيث إن بريطانيا لم تكن قوة مطلة على الأبيض المتوسط وحيث إن قوى أخرى كان لها دور فعال فيه فإنها لم تدخل منطقتنا منه. لكنهم دخلوا الهلال الخصيب من أقصى جنوبه حين كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها وتحركوا ببطء شديد وحذر حسب تبدل ميزان القوى فتمكنوا من ساحل الخليج تدريجياً كلما ضعفت الدولة العثمانية حتى احتلوا العراق بالكامل عام 1918 عند انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط العثمانيين. وحيث إن البريطانيين كانوا قد احتلوا عدن عام 1839 فإنهم كانوا في مطلع القرن العشرين قد تمكنوا من تطويق ساحل جزيرة العرب قبل احتلال العراق.

لكن الأوربي الفرنسي دخل ساحل الأبيض المتوسط لأن فرنسا تطل عليه وان كان ذلك في مرحلة لاحقة للثورة الفرنسية. فالفرنسي الذي ادعى أن ثورته قامت من اجل الحرية والعدالة والاخاء سرعان ما تحول لقوة غازية تحتل الأرض وتهلك الحرث. فقاد نابليون جيوشاً جرارة لغزو روسيا. ثم تدخل الفرنسيون لدى الخليفة العثماني بحجة حماية مسيحيي بلاد الشام فكان لهم قدم مازالت مغروسة في لبنان وإن لم يكونوا يوما حماة للمسيحيين أو غيرهم. ثم تدخلوا في شمال أفريقيا فاحتلوا الجزائر واستوطنوها كجزء من  فرنسا لمائة وثلاثين عاماً.

وحين انتهت الحرب الأولى سارع الفرنسيون الذين كانوا في الساحل الغربي لمنطقتنا والإنكليز الذي كانوا في الساحل الجنوبي لتقاسم الغنيمة. هكذا كان حال منطقتنا في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية.

وحيث إن التدخل والتفوق العسكري لا يكفيان وحدهما مسوغاً للهيمنة والاستعمار، فقد كان على الأوربي أن يأتي بسند قانوني أو فكري لطلبه الهيمنة والسيادة، فطلع على الناس ببدعة ظل يكررها حتى أعتقد أنه بات يصدقها، ألا وهي أنه يمثل الثقافة اليهودية – المسيحية! وهذه تعني أن له حق الوصاية على العالم وخصوصاً منطقنا إذ انه ما دامت هاتان الديانتان قد ولدتا عندنا فإن له حق الوصاية على منطقتنا وعلينا ما دام هو يمثل صفوة الفكر الذي أنتجتاه. ولعمري لا أدري كيف مرت هذه البدعة وسكت عنها أهل المنطقة كل الوقت وأخص منهم اخوتنا النصارى في مصر وبلاد الشام لأنها كانت تعنيهم قبل المسلمين فهي إدعاء من الأوربي أنه يمثلهم أفضل من تمثيلهم لأنفسهم.

فما هي الثقافة أو المثل اليهودية – المسيحية التي يتحدث عنها الأوربي؟ أهي مثل دينية أم أخلاقية أم سياسية أم اقتصادية؟ أم هي مزيج من كل هذا؟ وكيف قامت وما هي القواعد التي تستند لها؟

فلست أرى أيا منها. فإذا كان المدعي يشير لقاعدة دينية مشتركة فهو ادعاء باطل، فاليهود لا يعترفون بالمسيح ويقولون إن من جاء كان رجلاً دجالاً لأنهم وحدهم الذين يعرفون المسيح حين يأتي. أما المسيحيون فإنهم ليسوا على قناعة بصدق اليهود الذين صلبوا ربهم أو أسلموه للجلاد. وليست هناك علاقة حقيقية بين العهد القديم من الكتاب المقدس (مجموعة كتب اليهود) وبين الأناجيل الأربعة لا في اللغة ولا في المضمون. فالعهد القديم كتاب حروب ودماء وصراع والأناجيل تتحدث عن رب محب ومسامح. والرابط الوحيد هو أن السيد المسيح ظهر بين اليهود، ولم يكن يهودياً فلا أبوه يهودي ولا كانت مريم يهودية!

أما في الرابط الفكري والاجتماعي فليس بين المسيحيين واليهود فكر مشترك فإذا كان المسيحيون الأوربيون قد تأثروا بالفكر اليوناني الوثني الجذر، المستمد من وثنية وادي الرافدين ومصر، فإن الفكر اليهودي أبعد ما يكون عن ذلك وهذا ما يفسر عدم انتشار اليهودية في اليونان في الفترة التي سبقت ولادة الفكر الفلسفي اليوناني. ومما يدعم القول بانعدام الترابط الفكري والاجتماعي بين اليهودي والمسيحي في أوربا هو ان اليهود عاشوا قروناً في أوربا في احياء كادت تكون مغلقة عليهم. وهم يدعون أن سبب ذلك كان اضطهاد المسيحي الأوربي لهم، وفي هذا بعض الصحة لكنه ليس السبب الأساس إذ أن السبب الأساس هو شعور اليهودي بالتميز عن المسيحي الأوربي وتفوقه عليه كشعب الله المختار ورغبته في العيش في اطار فكري واجتماعي منفصل. فكيف والحال هذا يمكن للمسيحي الأوربي ان يدعي وجود ثقافة يهودية مسيحية مشتركة يمثلها هو؟

ولن أدخل في تحليل جوانب استحالة وجود فكر يقوم على مثل مشتركة لليهودية والمسيحية حيث أجده عبثاً لأن المسيحية وحدها لا تمتلك مثلاً مشتركة يتفق عليها المسيحيون حتى تكون هناك أرضية يمكن الثبات عليها، فما بالك بالاشتراك مع اليهودية في ذلك! ولي عودة لذلك حين أكتب عن بدعة صراع الحضارات التي أضافها الأوربي الى مشروعه المستمر في تزوير التأريخ.

وقد يقول قائل إن المقصود بالثقافة اليهودية – المسيحية هو المبادئ العامة التي حاءت بها الديانتان. لكن من يريد أنه يقيم ادعاءه على هذا لا بد له أن يبين لنا ما هي تلك المبادئ العامة وكيف اهتدى لها، لكن أحداً لم يفعل هذا في اي وقت.

إن الهدف الذي دفع الأوربي لاختلاق هذه البدعة هو تغطية عقدتي النقص، التي تحدثت عنها، في أخذه الدين والفكر من عندنا. فاذا ادعى أنه يمثل الفكر اليهودي – المسيحي وتم قبول ذلك فقد اكتسب الشرعية في الوصاية الفكرية على الدين والفكر معاً، لكن الأهم من كل ذلك انه يسحب البساط من تحت نصارى منطقتنا باقناعهم أنه هو الذي يمثل فكرهم لأنهم لم يكونوا أهلاً له. وهو في هذا يهين نصارى المشرق في تصويرهم على انهم خذلوا المسيحية الحقة وانه هو الوحيد القادر على حمايتها وبالتالي حمايتهم بعد أن أعاد لها اعتبارها.

ولا يختلف إدعاء الأوربي هذا كثيراً عن ادعاء الأتراك والفرس أن العرب ليسوا أهلاً لدين محمد وأنهم أي الترك والفرس اقدر على فهمه وتمثيله!

 

كيف سارت الأمور بعد ذلك وماذا حل بنا وكيف يجب علينا أن نتعامل معه؟

هذا ما سأحاول بحثه في القادم..

فللحديث صلة…..

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image