قل ولا تقل / الحلقة السادسة والثلاثون بعد المائة

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

 

 

قل: إن أمر البحث مَنوطٌ به
ولا تقل: إن أمر البحث مُناطٌ به

كتب عبد الهادي بو  طالب: “ومَنُوط اسم مفعول من ناط ينُوط نَوْطا : إذا علَّق به الشيءَ وعَهِد به إليه. فنقول: “ناطت به الحكومةُ مهمةَ البحث في الحادث”. وفعله الرباعي هو أناط يُنيط إناطةً. واسم الفاعل منه هو مُنيط، واسم المفعول مُناط. وعلى ذلك يمكن أن نقول: مَنوط (من الفعل الثلاثي)، ومُناط (من الفعل الرباعي). وفي المثل العربي: “كُلُّ شاةٍ من رِجْلها سَتُنَاط”. لكن بعض الباحثين اللغويين فضل استعمال الفعل الثلاثي واسم المفعول منه (منوط) وأنا متفق مع هؤلاء.” إنتهى

يبدو من الجملة الأخيرة أن عالم لغة مثل (بو طالب) تأثر بالخطأ الشائع في استعمال “بعض” حين تأتي منفردة في الإشارة للجمع بينما هي ليست في هذه الحالة إلا للفرد كما جاء في قوله تعالى في سورة الشعراء:

“وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ” (26/198-199)

وقوله تعالى في سورة التحريم: “وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ”. (66/3)

فقال تعالى في سورة الشعراء “فقرأه عليهم” إشارة الى أن المقصود بكلمة بعض هو واحد وليس أكثر. كما قال تعالى في سورة التحريم “فلما نبأت به” وهذا يثبت أن المقصود في كلمة “بعض” هو إحدى أزواجه وليس أكثر. لذا فإن قول (بو طالب) “وأنا متفق مع هؤلاء” ليس صحيحا، وفوق كل ذي علم عليم.

 

قل: حتى تنال رِضَى الله
ولا تقل: حتى تنال رضاء الله

 

كتب الصفدي: “العامة تقول: رضاء الله بالمد. والصواب رِضَى بالقصر.
وينشدون قول ابن دريد:

رَضيتُ قَسْراً وعلى القَسْرِ رِضَـىً

مَنْ كان ذا سُخْطٍ على صرْف القَضا

فينونون رِضىً والصواب أنه غير منون، ومَنْ في موضع خفض بالإضافة.”

 

قل: أُدخِلَ اللصُّ السجنَ
ولا تقل: أُدْخِل باللصّ السجن

كتب الصفدي: “ويقولون: أُدْخِل باللصّ السجن. والصواب أن يقولوا: أُدخِلَ اللصُّ السجنَ، لأن الفعل يُعدّى تارة بهمزة النقل كقولك: خرج وأخرجته، وتارة بالباء كقولك: خرج وخرجت به، فأما الجمع بينهما فممتنع. وقد اختلف النحاة هل بين حَرْفَي التعدية فرق أو لا؟ فقال الأكثرون: هما بمعنى حملته على الخروج، وإن قلت: خرجت به، فمعناه أنك استصحبته، والقول الأول أصح، بدلالة قوله تعالى: “ذهبَ اللهُ بنُورِهم”.”

 

وعلق أبو الثناء الآلوسي على ما كتبه الصفدي فكتب:” ويقولون ادخل (بصيغة الماضي المعلوم) باللص السجن، والصواب أدخل اللص السجن بإسقاط الباء (أو دخل باللص السجن) بترك الهمزة لامتناع الجمع بين حرفي التعدية الهمزة والباء كالجمع بين حرفي استفهام إن كانت الباء فيما ذكر للتعدية فالأمر كما قال، وإن كانت زائدة كما قيل في نظيره وسيأتي إن شاء الله تعالى فالأمر سهل (واختلفوا: أهل بين الحرفين فرق أم لا فقال الأكثر ومنهم سيبويه لا وهما بمعنى وقال المبرد نعم والفرق أنك إذا قلت مثلًا: أخرجت زيدًا كان بمعنى حملته على الخروج، وإذا قلت خرجت بهِ فمعناه أنك خرجت واستصحبته معك، والأول أصح لقوله تعالى: “ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ” [البقرة:17] لامتناع الذهاب والاستصحاب عليهِ سبحانه وتعالى، وقيل الهمزة أعمّ ففي المثل السائر كل من ذهب بشيء فقد أذهبه وليس كل من أذهب شيئًا فقد ذهب بهِ، ووافق المبرد جماعة منهم السهيلي ورده ابن هشام بالآية المذكورة، وبأن الهمزة والباء متعاقبان ولذا لم يجز أقمت بزيد، ولو أفادت الباء ما تفيده الهمزة مع زيادة لجاز الجمع لعدم استنكار اجتماع حرفين في أحدهما زيادة كلقد مع عدم الجواز هنا، وقيل الحق الفرق لورود الباء في مواطن الأخذ والاستصحاب والظاهر أنهُ معنى حقيقي فإذا تعذر كما في الآية وجب المصير إلى التجوز، ولذا قال نجم الأئمة الرضي: الباء فيها للتأكيد كأنهُ تعالى لما أذهبه ذهابًا لا يرد كان كمن استصحبه، فإن من استصحب شيئًا لا يفارقه، فأتى بالباء إشارة إلى عدم الرد فهو كما قيل مجاز متفرع عن الكناية ولم يجز جمع التعديتين؛ لأن استعمال كل منهما في مقام غير مقام الآخر صيرهما كالمتنافيين، وإلى اعتبار الاستصحاب والأخذ مع الباء، ذهب صاحب الكشاف أيضًا حيث قال فيهِ: معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبًا، ويقال ذهب به إذا استصحبه ومضى معهُ، وذهب السلطان بماله: أخذه ونحوه، إذًا لذهب كل إله بما خلق، ومنهُ ذهبت بهِ الخيلاء، ومعنى ذهب الله بنورهم: اخذ الله تعالى نورهم وأمسكه، وما يمسكه الله عزَّ وجلَّ فلا مرسل لهُ، وفيهِ إشارة إلى الجواب عن الآية، وإن معنى آخر لذهب مع الباء لا محذور في نسبته إليهِ تعالى وفيهِ كلام فصله الشهاب في العناية، وأجاب بعض العارفين عنها بأنهُ تعالى وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق بهِ سبحانه، كما وصف جل شأنه نفسه بالمجيء في: “وَجَاءَ رَبُّكَ” [الفجر:22] كذلك وحاصله جعلهُ متشابهًا، واختيار أحد قولي السلف فيهِ وتعقبه في الجني الداني بأنهُ ظاهر البعد فإن قيل كيف يمتنع الجمع وقد قرئ تُنبت بالدهن بضم تاء المضارعة، فالجواب أن في ذلك عدة أقوال أحدها أن أنبت بمعنى نبت والهمزة فيها من بناء الكلمة لا عارضة للنقل والتعدية كما في قول زهير بن أبي سلمى من قصيدة طويلة يمدح بها سفيان ابن أبي حارثة:

رأيت ذوي الحاجات حول  بيوتهم

قطينًا لهم حتى إذا أنبت البقل

وهذه إحدى روايتين في البيت، قال السرقسطي في أفعالهِ: نبت البقل نباتًا وأنبت، وأنشد بيت زهير (نبت) بلا همزة، وقال: روي (أنبت) بالهمزة وأنكره الأصمعي، ورأيتَ بفتح تاء الخطاب على تصحيح الصاغاني وهو ظاهر، وقال الطيبي: كثيرًا ما ينشد بضم التاء، والأول ما ترى أبلغ، وعلى هذا القول تكون قراءَة الضم بمعنى قراءَة الفتح أعني أن الدهن ينبتها، لا يخفى أن الاتحاد على ما اختاره، أما إذا قيل أن الباء المتعدية على الفتح ومتعلقة بمحذوف هو حال على الضم فلا اتحاد، وعلى الحالية يكون ما ذكر كخرج بسلاحه أي متسلحًا، ومعناه على التعدية: أخرج السلاح، ثم إن المعنى الذي ذكره ليس بصحيح وكان عليهِ أن يقول: أنها تنبت الدهن، إذ الدهن لا ينبتها وإنما ينبتها الماء، والقلب بعيد عند من لهُ قلب، وثانيها: أن الباء زائدة، مثلها في قوله تعالى: “وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ” [البقرة:195]، وقول الراجز) لم يعرف من هو:

نحن بنو ضبَّة أصحاب الفلج

نضرب بالسيف ونرجوا بالفرج

فإنه أراد ونرجوا الفرج، وضُبَّة بفتح الضاد وتشديد الباء علم رجل وهو ابن أدَّ عم تميم بن مرة، والفلج هنا بمعنى الظفر، وفتح اللام لغة كالسكون، حكاهما الزمخشري في شرح مقاماته، ومثله الرَشَد والرَشْد، ولم يحك الجوهري فيهِ غير السكون، فزعم الدماميني في شرح المغني أن الفتح إتباع لفتح الفاء دعت إليهِ الضرورة، وهو مما دعتهُ إليهِ ضرورة عدم الاطلاع، وقد أجيب بهذا الجواب أيضًا عن القراءَة بضم الياء التحتية في قولهِ تعالى: “يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ” [النور:43]. وثالثها: وهو أحسنها أنهُ إنما جيء بالباء؛ لأن إنباتها الدهن بعد إنباتها الثمر الذي يخرج هو منهُ، فلما كان الفعل في المعنى قد تعلق بمفعولين يكونان في حال بعد حال وهما الثمرة والدهن احتيج إلى تقويته في التعدي، هذا من كلام الجوهري، وقد قال ابن بري عليها أنه غلط؛ لأن الباء ليست للتعدية هنا عند أحد من النحويين على قراءَة الضم وإنما هي على أن المفعول محذوف والجار والمجرور في موضع الحال، أي تنبت ثمرتها ودهنها فيها، فليس هناك مفعولان يكون التعدي إلى ثانيهما بالباء بل مفعول وحال. واعلم أن صاحب اللباب قال باء المصاحبة لا تكون إلَّا ظرفًا مستقرًا، وقال الشهاب: لا مانع من الإلغاء عندي كما في باء الاستعانة، فإذا قلت اشترى الفرس بسرجهِ جاز تعلَّق الباء باشترى على جهة المصاحبة كما في كتبت بالقلم، فإنَّ وجوه التعلق مختلفة فصح لنا أن نقول الباء متعلقة بتنبت معدية لهُ؛ لأن التعلَّق والتعدي يكونان بمعنى فلا يرد عليهِ ما ذكر ولا يبعد أن يتعدَّى أنبت بالباء لمفعول ثان، وإسناد النبت إلى الدهن مجاز. وعندي أن الأظهر على تقدير المفعول حالية الجار والمجرور، وبالجملة عدَّ المصنف ما ذكر وهما خارج عن دائرة الإنصاف.”

قل: للإثنين رُدّا
ولا تقل: للإثنين ارْدُدا

كتب الصفدي: “ويقولون للاثنينِ: ارْدُدا، وهو من مفاحش اللحن، ووجه الكلام أن يقال لهما: رُدّا، كما يقال للجميع: رُدّوا، والعلة فيه أن الألف التي هي ضمير المثنى والواو التي هي ضمير الجمع يقتضيان لسكونهما تحريك آخر ما قبلهما، ومتى تحرك آخر الفعل حركة صحيحة وجب الإدغام، وهذه العلة مرتفعة في قولك ذلك للواحد ارْدُدْ، فلهذا امتنع القياس عليه.”

 

قل: أصبحت في حَيرة من أمري
ولا تقل: أصبحت في حِيرة من أمري

وجاء في ملحق مفردات أوهام الخواص: “ومما يقع في هذا الإطار أيضا أنهم لا يفرقون بين الحَيرة (بفتح الحاء) والحيرة (بخفضها). فالأولى مشتقة من الفعل حار يحار حيرة، فهو حائر وحيران، أي لم يهتد لسبيله، والأنثى حيرى، والجمع حيارى، ومنه قول الطرماح:

يطوي البعيد كطي الثوب هزته ** كما تردد بالديمومة الحار

أراد الحائر، فحذف الهمزة.

أما الحِيرة (بخفض الحاء) فهي بلدة قرب الكوفة، والنسبة إليها حيري على القياس، وحاري على غير قياس، ومنه قول الشاعر:

فلما دخلناه أضفنا ظهورنا ** إلى كل حاري قشيب مشطب

يقول: إنهم احتبوا بالسيوف.”

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image