قل ولا تقل / الحلقة الأربعون بعد المائة

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

قل: هذه أمور تدبيرية

ولا تقل: هذه أمور لوجستية

هذه إعادة لما سبق وكتبت وذلك عملا بقوله تعالى “وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين”.

فقد شاع في الإعلام العربي خلال العقود القليلة الماضية استعمال كلمة “لوجستية”، حتى انك لا يمكن أن تسمع خبرا أو تحليلا سياسيا أو عسكريا دون أن يستعمل المذيع أو الكاتب أو المحلل هذه الكلمة مرة أو مرات. ولا أغالي إذا قلت أني لست وحدي من يعتقد أن بعض الذين لا يعرفون معنى الكلمة يستعملونها إستعمالات غريبة فكأنها أصبحت غطاءً لعجز في التعبير! وحيث إن الكلمة أعجمية المصدر فلننظر معناها في الأصل وما يمكن أن يعبر عنها في لغة القرآن.

إن لفظة “لوجستك” الإنكليزية والتي دخلت التداول في نهاية القرن التاسع عشر اشتقت من الكلمة الفرنسية “لوجستيك” وهي بدورها مشتقة من الكلمة اليونانية “لوغستكوس” وتعني الحساب. وأول إستعمال لها كان في المجال العسكري حيث دلت على عمليات تجهيز الجيش لنفسه بالسلاح والذخيرة والأرزاق أثناء إنتقاله من قاعدته الى موقع متقدم. إلا أن إستعمال الكلمة توسع حتى أصبح المعنى كما يورده اليوم قاموس أوكسفورد على أنه :”التنظيم والتنفيذ التفصيلي لعملية معقدة”. وحيث إن من المعقول أن نفترض أن المحللين والكتاب العرب، ما داموا قد استعاروا الكلمة من اللغة الإنكليزية، لا بد أنهم يستعملون لفظة “اللوجستية” بالمعنى الذي يحدده قاموس أوكسفورد فلنبحث عن كلمة أو عبارة عربية تعطي هذا المعنى وتغني عن استعمال اللفظ الأعجمي.

ولما كنت أعترف بجهلي بما كتبه المؤرخون العرب السابقون مما يمكنني أن استعير ما استعملوه للدلالة على هذا المعنى، والذي لا اشك أنهم كتبوا عنه حين كتبوا عن حروب المسلمين وما تطلبته من إمداد وتجهيز، لذا فإني أعتمدت كتاب الله للبحث عن كلمة تعطي معنى قريبا من الإستعمال الإنكليزي أعلاه. فاهتديت الى استعماله تعالى للفعل “يُدبِّر” كما في قوله عز من قائل:

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ‌ٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ إِذْنِهِۦ ۚ ذَ‌ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (يونس/3)

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَـٰرَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (يونس/31)

ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَ‌ٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍۢ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ۖ كُلٌّۭ يَجْرِى لِأَجَلٍۢ مُّسَمًّۭى ۚ يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلْءَايَـٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (الرعد/2)

فوجدت أن استعماله تعالى لجملة “يدبر الأمر” مجز لمعنى “اللوجستية” التي عرفها قاموس أوكسفورد في أنها تنظيم وتنفيذ لعملية معقدة.

فإذا قال قائل إن كلمة “تدبيرية” لا تغطي بالكامل معنى “اللوجستية” فإن الرد على هذا يأتي في بابين. أولاهما ان اي لفظ عربي يوقع في الأذن العربية أثراً أكبر مما يوقعه أي لفظ أعجمي. وثانيهما ان إشتقاق أو إستعارة كلمة جديدة لا يشترط فيه أن يغطي بالكامل المعنى المراد ما دام يدل على المطلوب حيث يكفل الإستعمال المتواتر بعد ذلك تحقق المعنى المطلوب.

فقل هذا عمل تدبيري ولا تقل هذا عمل لوجستي!

قل: إن السلطنة تتصدر الرُّوّاد في الخدمات “التدبيرية”

ولا تقل: إن السلطنة على طريق الريادة اللوجستية

فقد نشرت جريدة الوطن العمانية يوم 30 كانون الثاني 2014 وعلى صفحتها الأولى خبراً تحت هذا العنوان: “السلطنة على طريق الريادة اللوجستية”. ولا بد للقارئ العربي أن يتوقف عند هذه العجمة فلا “اللوجستية” عربية ولا “الريادة” مما عرفه العرب. والوطن ليست أسوأ الصحف لغة في سلطنة عمان فبعض ما ينشر في غيرها يخجلك حتى أن تقرأه. ولعل من المحزن أن البلد الذي أعطى العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي وابن دريد والذي لم يخضع لإحتلال أجنبي مباشر كما هو حال عرب شمال أفريقيا، إنتهى الى هذا المستوى المتدني في إستعمال لغة العرب.

وقد يقول قائل ان الجملة التي اقترحتها بديلاً عن النص الذي جاء في الصحيفة بعيدة عن الأصل. والجواب على ذلك هو أن ما أقترحه عربي وما جاء في النص الأصلي أعجمي والعربي أفضل للأذن العربية من الأعجمي وإن طالت العبارة ما دام وقعها في الأذن العربية يعطي المعنى المقصود دون حاجة القارئ أن يستعين بقاموسين: أحدهما إنكليزي – عربي ليعرف معنى اللوجستية والآخر عربي – عربي كي يعرف معنى الريادة فيكتشف أنها لا وجود لها في العربية.

وحيث إني سبق واقترحت (كما في أعلاه) تعريباً للفظة “لوجستية” فاستبدلت لفظة “تدبيرية” بلفظة “لوجستية”.

لكني ابحث هنا في إستعمال كلمة “الريادة”. وهي ولا شك إقحام جديد أوجده أنصاف المتعلمين في القرن العشرين يريدون مصدراً بديلاً لكلمة “رود” العربية. ولم يسبق للعرب أن عرفت أو استعملت “ريادة” فما هي الحاجة لإختلاق هذا اللفظ؟ ذلك لأن العرب استعملوا “رود” والفعل “راد” وما اشتق منهما دون حاجة لجديد، فما هو الجديد الذي يلجئنا لهذا الإختراع؟

فقد عرفت العرب على سبيل المثال “السيادة” من ساد القوم يسودهم فجاء في لسان العرب: “وسادَ قومَه يَسُودُهم سيادَةً وسُوْدَداً وسَيْدُودَةً، فهو سيِّدٌ، وهم سادَةٌ.” وعرفت العرب لفظة “القيادة” فجاء في لسان العرب عن التهذيب ” والقِيادَةُ مصدر القائدِ.” لكن معاجم العربية المعتمدة لم تأت على ذكر “الريادة”.

أما “الرود” فقد ورد في معاجم العربية، فمن ذلك ما جاء في لسان العرب:

“الرَّوْدُ: مصدر فعل الرائد، والرائد: الذي يُرْسَل في التماس النُّجْعَة وطلب الكلإِ، والجمع رُوَّاد مثل زائر وزُوَّار.

وفي حديث عليّ، عليه السلام، في صفة الصحابة، رضوان الله عليهم أَجمعين: يدخلون رُوَّاداً ويخرجون أَدلة أَي يدخلون طالبين للعلم ملتمسين للحلم من عنده ويخرجون أَدلة هُداة للناس.”

فلما لم تستعمل العرب “الريادة” وحيث إنه لم تقم ضرورة أوحاجة تلجئنا لإشتقاق جديد لأن الموجود والمستعمل يغني عن ذلك، فلا سبب لهذا الإشتقاق الجديد ويعدل عنه الى العربي المسموع.

قل: أرَضون في جمع أرض

ولا تقل: أراض في جمع أرض

كتب الصفدي نقلا عما كتبه الحريري: “ويقولون في جمع أرض: أراضٍ، فيخطئون فيه، لأن الأرض ثلاثية، والثلاثي لا يجمع على أفاعل. والصواب أن يقال في جمعها أرَضُون. ويقولون: أرْضون بسكون الراء. والصواب فتحها.”

وعلق ابو الثناء الآلوسي على ما كتبه الحريري فكتب:

“(ومن خطأهم قولهم في جمع أرض أراضي؛ لأن الأرض ثلاثية والثلاثي لا يجمع على أفاعل، والصواب في جمعها أرضون بفتح الراء) التخطئة خطأ، قال أبو سعيد السيرافي يقال أرض وأراضي كأهل وأهالي، كما قالوا ليلة وليالي كأن الواحد ليلات وأرضات، وقال أنهُ كذا في كتاب سيبويه في أصح الروايتين، وهذا لأنهُ روي فيهِ أهال وأراض على وزن أفعال يعني أنهُ جمع لمفرد مقدر غير ثلاثي، كما قالوا في ليال وبهِ علم الجواب عن قولهِ؛ لأن الأرض إلخ، وفي القاموس جمع أرض أرضات وأرضون وأروض وأراض والأراضي غير قياسي، وأرضون بفتح الراء على غير القياس أيضًا؛ لأنهُ مع تغيير مفرده لا يعقل، ومثلهُ لا يجمع على هذا الجمع وبيَّن المصنف وجه الجمع بقوله (وذلك لأن الهاء في أرض مقدرة فكان أصلها أرضة، وإن لم ينطق بهِ ولأجل تقديرها فيها جمعت بالواو والنون على وجه التعويض لها عما حذف منها، كما قالوا في عضة) كعنب هي الكذب والبهتان والسحر (عضون وفي عزة) كعدة وهي العصبة من الناس (عزون) وهو إشارة إلى ما حقق في العربية وشروح الكتاب من أن هذا الجمع للمذكر وسمع في غيره شذوذًا، إلَّا أنهُ شاع في أسماء الدواهي لتهويلها وتنزيلها منزلة من يعقل وفيما حذفُ منهُ حرف كعضة تعويضًا عما حذف وجبرًا لهُ، لكن المذكور في كتب العربية أنهُ فيما حذف أحد حروفه الأصول المعتد بها على كلام فيهِ شروح التسهيل وتاء التأنيث ليست كذلك، ففي كلامه بحث، (وفتح الراء) فيما نحن فيهِ، (لتؤذن الفتحة بأن أصل الجمع أرضات كنخلة ونخلات)، يعني لما كان مؤنثًا والتاء مقدرة فيهِ جعلوها كالموجودة، وما فيهِ التاء يفتح في جمع المؤنث كما مثل، وكجفنة وجَفَنات فحملوا عليهِ جمع المذكر إشارة إلى أنهُ الأصل، كما في شرح الكتاب (وقيل فتحت ليدخلها ضرب من التغيير) أي: فتفارق جمع المذكر المطّرد خطا لهذا الجمع عنهُ، (كما كسرت السين في جمع سنة فقيل سنون)، ولا يخفى أن هذه نكتة غير مطّردة لظهور أن لا تغيير في عزة وعزين وعضة وعضين، وأما قول الشهاب أن هذا كلام لا محصل لهُ وتركهُ خير من ذكره ففيهِ غفلة عما شرحناه بهِ، فتأمل.”

قل: ما أذفرَ هذا اللحم

ولا تقل: ما أزفرَ هذا اللحم

كتب الصفدي: “ومن ذلك قولهم للشيء إذا كرهوا ريحَه: ما أزفَرَه! وإنما الكلام أن يقال: أذفَره، بالذال المعجمة، والذَّفَرُ حِدّةُ رِيحِ الشيء الطيب والشيء الخبيث الريح، قال الشاعر:

ومُأَوْلَقٍ أنضجتُ كَيّةَ رأسِـه

وتركتُه ذَفِراً كريح الجَوْرَبِ”

(ملاحظة: ورجُلٌ مُؤَوْلَق على مُعَوْلقٍ: به جُنون، كما جاء في مقاييس اللغة أصلها من الولق وهو الخفة والسرعة. والبيت ينسب لنافع بن لَقِيط الأَسدي. ولا بد من التنبيه لإستعماله كلمة “الجورب” مما يشير الى انه كان مدنيا وليس أعرابيا.)

قل: عزلت من الغنم أمَّات الأولاد

ولا تقل: عزلت من الغنم أمَّهات الأولاد

كتب الصفدي: “ويقولون: عزلت من الغنم أمَّهات الأولاد. وذلك غلط، إنما يقال: أمّهات لبنات آدم خاصةً، فأما البهائم فإنه يقال فيها: أُمّات بغير هاء. قال الشاعر:

كانتْ هَجائِنُ مالِكٍ ومُحَرَّق

أُمّاتهنَّ وطَرْقُهنّ فَحـيلا”

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

15 شباط 2022

www.haqalani.com

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image