قل ولا تقل / الحلقة الثالثة والأربعون بعد المائة 

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

قل: نشير أخيراً إلى معلومات فرنسية تتحدث عن إرسال روسيا عدة آلاف من الجنود

ولا تقل: نشير أخيرا الى معطيات فرنسية تتحدث عن إرسال  روسيا  عدة آلاف من الجنود 

وشاع في الإعلام العربي في السنوات الأخيرة، ضمن ما شاع من فحش الكلام، إستعمال كلمة “معطيات” في كل مناسبة. فاصبحت لازمة كلامية تستعملها المذيعة كلما نفدت مفرداتها، وهي المحدودة أصلا، وهي تسأل سؤالاً أو تنقل خبراً. فتستعمل “معطيات” لتعني بها في كل مرة شيئاً آخر، كما في الأمثلة التالية، وكلها منقولة من مصادرها.

“وأوضح بأنّ جميع المعطيات المستحصلة من منظومات الرصد.”

وهي تريد “البيانات“.

“غير ان ديبلوماسياً مخضرماً اوضح ان ما حصل عليه من معطيات يفيد بأن…”

وهي تريد “المعلومات“.

“رئيس الجمهورية يطلب من وزير الخارجية جمع كافة المعطيات عن العدوان الأخير.”

وهي تريد “التفاصيل“.

“المعطيات الراهنة تشير الى أن سيناريو اشتعال المواجهة بين النصرة والحر.”

وهي تريد “الحقائق“..

ولم يكن هذا الإستعمال البائس معروفاً حتى في نهاية القرن العشرين إلا أنه يبدو أن أحد الإعلاميين الجهلة بلسان العرب، لأنهم متغربون فكراً ولساناً، أدخله في الإعلام اللبناني أو المصري، على الأغلب، فانتشر كالنار في الهشيم بين شاكلته من الإعلاميين الجهلة ثم اصبح على كل لسان حتى اني أسمعه بين العاملين في الوزارات والمؤسسات الرسمية وهو الأمر المخيف لأنه يكشف أثر الإعلام في تجهيل الناس وتضييع لغتهم وتسفيه عقولهم بالبائس من القول كأنه ليس كافياً ما يأتون به من ضلال القول في التحليل السياسي.

فمتى كانت “معطيات” تعني كل هذا؟ وهل العربية الثرية أمست، بجهل هؤلاء، بهذا الفقر حتى لم نعد نجد غير “معطيات” لنعبر عن  كل ما نريد؟

فما معنى “معطيات” إذن؟

فاسم الفاعل من الفعل الرباعي “أعطى” أي مَنْ يعطي فهو “مُعطِي” أما إسم المفعول أي الشيء الذي يُعطى فهو “مُعْطَى”.

و “معطيات” هي جمع “مُعْطَى” أي هي الأشياء التي تعطى. وقد استعملت في الرياضيات والمنطق لتعني الأمور التي قبلت على أنها حقائق من أجل الوصول لحل أمور مجهولة. فمن ذلك على سبيل المثال إن القول بأن مجموع زوايا اي مثلث هو 180 درجة سيكون في أية مسئلة هندسية من “المعطيات”، لأنه أمر مسلم به ومعطى للباحث مما يمكنه لاحقاً المساعدة في حل مسألة هندسية مجهولة. 

ويتضح من هذا أن “معطيات” لا تعني بيانات لأن البيانات لا يقتضي وجودها أن تكون من الأمور المسلم بها. كما ان معطيات لا تعني “معلومات” ولا تعني “تفاصيل”، حتى تستعمل في كل مناسبة يعجز فيها المتحدث عن إيجاد الكلمة فتكون “معطيات” معبرة عن عجز المتحدث.إن السؤال الذي يجب أن يسأله المتحدث قبل استعمال الكلمة هو: من “أعطى” ماذا ولمن؟ وما دامت العربية غنية بمفرداتها حيث تشير كل منها لمعنى دقيق يتعلق بالمطلوب فإن من سليم القول العدول عن إستعمال “معطيات” إلى إستعمال اللفظ المطلوب في سياق تلك الجملة. 

قل: ما تأثير ذلك على سوق الأسهم

ولا تقل: ما تداعيات ذلك على سوق الأسهم

شاع في الإعلام العربي الأمي استعمال كلمة “تداعيات” في مناسبة وغير مناسبة حتى ان المذيعة حين لا تجد كلمة لتنقذها من محدودية مفرداتها  فإنها لا بد أن تسأل المراسل أو المسؤول “ما هي تداعيات هذا….”. وهي لا بد تعتقد أنها تستعمل كلمات براقة جميلة وإن كانت لا تعني شيئاً.

فمن أين جاءت هذه الكلمة البائسة وكيف دخلت الإستعمال وهل من سبيل للحد من استعمالها؟

ولا شك عندي ان كلمة تداعيات دخلت الإعلام العربي ترجمة للكلمة الإنكليزية“Consequences” . والتي تعني بالإنكليزية ما الذي يترتب على شيء ما من تأثير شيء آخر. لكن كلمة “تداعيات” لا تعني هذا في اللغة العربية.

فقد كتب ابن منظور في اللسان: ” وتَداعى القومُ: دعا بعضُهم بعضاً حتى يَجتمعوا؛ عن اللحياني، وهو التَّداعي…….. وفي الحديث: كَمَثَلِ الجَسدَ إذا اشْتَكَى بعضهُ تَداعَى سائرهُ بالسَّهَر والحُمَّى كأَن بعضه دعا بعضاً من قولهم تَداعَت الحيطان أَي تساقطت أَو كادت، وتَداعَى عليه العدوّ من كل جانب: أَقْبَلَ، من ذلك. وتَداعَت القبائلُ على بني فلان إذا تأَلَّبوا ودعا بعضهم بعضاً إلى التَّناصُر عليهم. وفي الحديث: تَداعَتْ عليكم الأُمَم أَي اجتمعوا ودعا بعضهم بعضاً.” 

ولم يرد عن العرب أي استعمال لكلمة “تداعيات” بمعني الآثار أو النتائج كما يستعملها الإعلام العربي اليوم، وليس هناك من سبب يدفع لهذا الإستعمال فإذا اراد السائل أن يسأل ما هي آثار هذا على ذلك أو ما هي نتائج هذا الحدث فليقل ذلك ولكن ليكف المذيعون عن استعمال “تداعيات” بمعنى الأثر أو النتيجة.

قل: خَاصَمْتُ فُلانَاً فكان ضَلْعُكَ عَلَيّ

ولا تقل: خَاصَمْتُ فُلانَاً فكان ضِلَعُكَ عَلَيّ

كتب الكسائي: “وتقول خَاصَمْتُ فُلانَاً فكان ضَلْعُكَ عَلَيّ. والضَّلْع: الميل. والضِّلَعُ بكسر الضاد وفتح اللام هي ضِلَعُ الإنسان. وأنشد  قول (حاحب بن ضبيان):

هي الضِّلَعُ العَوْجاءُ أنتَ تُقِيمُها        ألا إن تَقْوِيِمَ الضلُوُعِ انكِسَارُها”

قل: هو رجل أذريّ

ولا تقل: هو رجل آذريّ 

وكتب الصفدي: “يقولون: الآذَرَيّ. والصواب أذَريّ بالقصر، وأذْرَبيّ، على غير قياس، لأنه منسوب الى أذَرْبيجان، بفتح الذال وسكون الراء.”

قل: اشتريت كمية من النارنج

ولا تقل: اشتريت كمية من اللارنج أو الآرنج

وكتب الصفدي: “يقولون آرَنج ولارَنج. والصواب نارَنج، ولا يجوز لارَنج ولا آرَنج. قلت: وسمعت أنا مَنْ يقول يارَنج بالياء آخر الحروف.”

قل: فلان شَرُّ من فلان

ولا تقل: فلان أشَرُّ من فلان

كتب الصفدي: “ويقولون: فلان أشَرُّ من فلان. والصواب أن يقال: هو شَرٌ من فلان، بغير ألف، كما قال تعالى: “إنّ شَرَّ الدّوابِّ عندَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ…”، وكذا فلان خير من فلان، بحذف الهمزة، لأن هاتين اللفظتين كثُرَ استعمالهما في الكلام، فحذفت الهمزة تخفيفاً ولم يلفظوا بها إلا في أفعل التعجب خاصةً، كما صححوا فيه المعتل فقالوا: ما أخيرَ زيداً، وما أشرَّ عَمْراً، كما قالوا: ما أقولَ زيداً. وكذلك قالوا في الأمر: أخْيرْ بزيدٍ، وأشرِرْ بعَمْرو.”

وعلق أبو الثناء الآلوسي على ذلك فكتب: “ويقولون أشرَّ بهمزة أوله في التفضيل، نحو: فلان أشر من فلان، والصواب شَرّ بدون الهمزة، كما قال تعالى: “إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ” [الأنفال:22] وعليه قول الراجز: وهو كهمس أعشى بني الحِرماز: إن بنيّ ليس فيهم بر، وأمهم مثلهمُ أو شر. وكذا يقال خير في التفضيل، نحو فلان خير من فلان، دون أخير، بالهمزة كما قال تعالى: “وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى” [الضحى:4]، وعليه قول الفرزدق يمدح أبا عمارة حمزة بن عبد الله ابن الزبير:

أصبحت قد نزلت بحمزة حاجتي

إن المنوه باسمه الموثوق

بأبي عمارة خير من وطأ الحصى

وجرت له في الصالحين عروق

وسبب الحذف في اللفظين كثرة استعمالهما، فقصد التخفيف بهِ وجيء بالهمزة مع فعلي التعجب، فقيل: ما أخير زيدًا وأخير بهِ، وأشر عمرًا وأشرر بهِ مع أن التعجب والتفضيل من باب واحد لقلة استعمال ذينك اللفظين فعلًا فأبقيا على الأصل فيهما، ولم تحذف منهما الهمزة تخفيفًا وإن كانت غير تلك الهمزة إذ هي فيهما المتعدية اللازمة لكل فعل متعجب منهُ، وفي أفعل التفضيل ليست كذلك. (وأما قراءَة أبي قلابة) ككتابة وهو عبد الملك ابن أبي عبد الله محمد تابعي سكن بغداد وعمي قبل موته “سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُّ” [القمر:26] فقد لَحنَ فيها ولم يوافقهُ أحد عليها، فلا ترد على ما ذكر. هذا والحق أنهُ ورد في الفصيح كثيرًا أشرَّ بالهمزة، وإن كان شَرّ بدونها أكثر وقد سمعت القراءَة بذلك وهي بالرواية لا بالدراية، كما هو محقق في موضعهِ، فالقول بأنها لحن بعد رواية العدل خطأ وكذلك ورد في خير أخير وعليهِ قول رؤبة:

بلالُ خير الناس وابن الأخيرِ

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

15 آب 2022

www.haqalani.com

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image