لِمَ فَضَّلَ تعالى اسحاق على اسماعيل في القرآن؟

مسائل من القرآن

لِمَ فَضَّلَ تعالى اسحاق على اسماعيل في القرآن؟

لا يختلف المسلمون عن بقية أهل الكتاب في القول بأن إبراهيم خّلَّفَ اسماعيل واسحاق. وقد حسمها القرآن للمسلمين في قوله عز من قائل على لسان إبراهيم: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء” (14/39). واختلف المسلمون في سرد التفصيل لحياة إبراهيم وابنائه ذلك لأن القرآن كتاب إشارات ورمز بينما الكتب المقدسة عند أهل الكتاب هي كتب روايات وتأريخ. فمن ذلك الإختلاف أن اليهود يقولون بأن الذبيح من أبناء إبراهيم هو إسحاق بينما اتفق المسلمون على انه اسماعيل راوين عن نبينا الأكرم (ص) قوله (أنا ابن الذبيحين)، وإن خالف محي الدين بن عربي وهو شيخ الصوفية المسلمين فقال بما قالت به اليهود في هذا، وربما كان بين المسلمين غيره ممن يقول بمقالة أهل الكتاب.

ليس من شك عندي انه تعالى أمر المؤمنين ألا يفاضلوا بين رسله فأوجب عليهم ذلك في قوله: “آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ” (2/285)، لكنه فاضل هو بينهم فقال عز من قائل: ” تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ” (2/253). لكن الأمر لنا بعدم المفاضلة لا يمنعني من السؤال عن علة تفضيل اسحاق على إسماعيل في القرآن. فبرغم أن القرآن جاء للعرب، بلسان عربي مبين، وهم قوم اسماعيل وبنيه ولم يأت لقوم اسحاق وبنيه من بني اسرائيل، إلا أن ذلك لم يمنع من أن يذكر إسحق بالتعظيم في 16 مرة وذكر يعقوب في 16 مرة. أما (اسرائيل) فقد جاء في القرآن 43 مرة بينما ذكر اسماعيل 12 مرة!

لكن المهم في ذكر اسحاق في القرآن أنه لم يأت إلا معطوفا على إبراهيم، إي ان اسحاق عُظِّمَ بتعظيم ابراهيم في كل موضع جاء فيه في القرآن، أما اسماعيل فقد جاء اسمه معطوفا على إبراهيم في 8 آيات.

وقد يقول من يقول إن هذا ليس الدليل الكافي على تفضيله تعالى لإسحاق على اسماعيل. فيأتي الدليل السند من باب آخر.

ذلك أنه تعالى يخبرنا في سورة (مريم) قصة ابراهيم مع قومه واعتراضه على عبادتهم واعتزاله قومه وما يعبدون قائلا: ” فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا” (19/48).

وأعاد تعالى هذا التأكيد في سورة الأنعام فقال عز من قائل: “وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ” (6/84).

وكرر تلك الهبة في سورة الأنبياء في قول العزيز الحكيم: “وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ” (21/72)

وأعادها العزيز الوهاب في سورة العنكبوت فقال: “وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ” (29/27).

وهكذا يؤكد تعالى أكثر من مرة أنه جعل جزاء اعتزال ابراهيم قومه وما يعبدون في هبته اسحاق له. وحيث إن اسماعيل ولد قبل اسحاق فلو كانت ولادة اسماعيل هي جزاء ابراهيم لكان اسماعيل الهبة قبل أخيه. وهذا عندي دليل التفضيل القاطع عنده تعالى متمما لقوله “تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض”.

وقول إيراهيم: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء” (14/39)، ليس كافيا. حيث إن حمد ابراهيم لهبة الله له لا يلغي حقيقة أنه تعالى لم يشر للهبة إلا في اسحاق، بل انه تعالى حصر الهبة في اسحاق ولم يشرك اسماعيل فيها.

ولا يغيب عن القارئ المتابع في أنه تعالى حين مَنَّ على إبراهيم بفضله فجعل في ذريته النبوة والكتاب والحكمة كما أعلمنا في أكثر من آية فإنه كذلك قص علينا قصص عدد من الأنبياء والرسل. وحين يفحص القارئ ما قصه تعالى من الأنبياء والرسل يجد أنهم جميعا، من إبراهيم حتى عيسى بن مريم، هم من ذرية اسحاق. فلم يقص علينا تعالى قصة نبي أو رسول من ذرية اسماعيل، وهكذا تكون النبوة والرسالة والكتاب والحكمة في ذرية اسحاق واسرائيل.

إن ظهور الدعوة في البيت الهاشمي الطاهر على لسان نبينا الأكرم (ص) ليست نفيا لهذا الإستنتاج.

فلماذا فَضَّلَ تعالى اسحاق على اسماعيل ومنعنا من التفضيل؟

وأحسب ان جواب هذا هو عند من عرف الله حق معرفته ممن قال فيهم عز من قائل: “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ” (2/121). وقال فيهم العزيز الحكيم: ” الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (2/146).

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ” (50/37).”

والحمد لله رب العالمين.

عبد الحق العاني

28 تشرين الثاني 2022

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image