نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء السابع والثلاثون

إلى أين: الدولة العربية الموحدة – النظام السياسي المرجو – 4

 

كنت قد انتهيت في الجزء السابق من تلخيص رأيي في فساد الدعوة لتطبيق نظام “الديموقراطية” الأنكلوساكسوني لمنطقتنا. وهو راي لم يتغير بسبب الأحداث كما حدث لعدد من الناس، وإنما هو راي خلصت اليه منذ اطلعت على النظام السياسي والإجتماعي السائد في العالم الأنكلوساكسوني ايام دراستي الثانوية في “كلية بغداد” على أيدي الرهبان الكاثوليك الذين جاؤا من الأرض “المغتصبة” ليعلموا نصارى العراق دينهم!

ووعدت أن أعرض رأيا في النظام السياسي الذي أراه أكثر ملاءمة للعرب وربما لغير العرب.

كنت قد أبديت رأيي في عدم جواز السماح “للهمج الرعاع” في تقرير مصير الأمة في اعطائهم حقا مساويا في الإختيار. وعاتبني من عاتبني في أني أدعو لسلب الناس أبسط حقوقهم. والأمر ليس كذلك. فلست أدعو لسلب حق اي انسان في حياة كريمة ومحفوظة. بل إني ربما من القلة الباقية التي تؤمن بوجوب تأمين تعليم وخدمة صحية ونقل بالمجان لكل الناس مع تحديد حد أدنى للأجور يجب على ولي الأمر تأمينه لكل فرد. كما أؤمن إيمانا راسخا بتساوي الناس أمام القانون حتى ألزم الدولة أن تؤمن حق التقاضي مجانا لكل من لا يقدر ماليا على ذلك. لكن هذا أمر مختلف تماما عن إعطاء كل الناس، والذين تحركهم غرائز مختلفة وعلم متباين، حقا متساويا في تقرير مصير الأمة. “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”؟

فالأمة لا يصح أن يدير أمرها إلا العقلاء والحكماء. وقد يتفق معي الكثيرون في هذا لكنهم يختلفون في طريق انتقاء أولاء العقلاء والحكماء. فمن ذلك أن دعاة الإسلام السياسي عدوا رجال الدين، الذين اتبعوهم بموجب المذهب الذي يؤمنون به، ولاة الأمر من العقلاء والحكماء. وليت الأمر كذلك! لكني وجدت أن الغالب بين رجال الدين من قادة المذاهب الإسلامية انعدام العقل والحكمة.

فما الطريق للوصول الى الصيغة الأفضل للحكم إذن؟

قديما كان الناس لا يجدون صعوبة على مستوى القرية أو القبيلة في اكتشاف الحكيم من بينهم كي يحتكموا له ويعملوا بنصيحته. لكن الحال لم يعد كذلك اليوم ولم يعد حكيم القبيلة موجودا أو نافعا في الزمن المعقد الذي نعيشه. لكن تعقيد الحياة الجديدة أوجد لها أدواتها ووسائلها. لذلك فإن عقلاء الناس وحكماءهم اصبحوا في تجمعات مهنية أو علمية أو وظيفية وأصبح من الممكن الوصول لهم من خلال الجميعات أو النقابات أو المؤسسات التي ينتمون لها. وهذه بدورها تنظم أمورها بموجب ما يتفق عليه أعضاؤها من نظم وقواعد وتختار من بين أعضائها من يصلحون لإدارة أمورها.

فلو إن كلا من هذه الإدارات المهنية أو العلمية اختارت عددا متناسبا مع عضويتها في المجتمع ليمثلها في مجلس للخبراء لأمكن الخروج بمجلس كبير يمثل القدرة والعقل والحكمة المرجوة للإشراف على إدارة البلد. وهذا المجلس ايا كان اسمه، حيث إن استعارة الأسماء الأوربية ليست سوى تقليد أعمى نابع من شعور بالنقص، يقوم بالدور الذي يقوم به مجلس النواب أو مجلس الأمة كما هو الحال في أي بلد. ويكون هذا المجلس متكونا من أناس يمتلكون القدرة على الفهم وتحديد مصلحة الأمة بعيداً الى حد كبير عن الغرائز التي تحرك “الهمج الرعاع” الذين يمكن التحكم بهم في حال اختيار مجلس على اساس الإقتراع بالطريقة المنقولة عن الغرب.

ولا أعتقد أن أحدا يطعن بمقدرة الأطباء والقانونيين والمهندسين والمحاسبين والصيادلة وسائر أصحاب الحرف والمهن (وليس التسلسل هنا حسب الأهمية) على تقرير مصالحهم أو مصلحة الأمة عامة. ولعل من أغرب ما أدخله الفكر الرأسمالي للعقل “النائم” في العالم النامي هو نظرية بائسة مفادها أن الذين ينتمون للأحزاب السياسية أقدر من غيرهم على فهم مصلحة الأمة وإدارتها، لذلك فهم أصلح لعضوية مجلس النواب الذي يقوم بهذه المهمة. ومن توقف قليلا عند هذه النتيجة أدرك عقمها. ذلك لأنه ما من مهنة إلا ويتطلب ممارستها إجتياز مرحلة من الدراسة والتدريب والإعداد، كما إنها تخضع في الغالب لإشراف الكبار ولإداراتهم وحكمتهم. وهكذا فإن الذين يمارسون هذه المهن يأتون عن طريق مجرب ومختبر ومراقب. أما السياسة والتي تتمثل في عضوبة الحزب، اي حزب، فهي لا تتطلب اية كفاءة من اي نوع. فلماذا يا ترى يكون المنتمون لهذه الأحزاب اقدر على فهم وتقدير مصلحة الأمة من العقلاء المتمرسين في المهن والحرف؟

وهذا المجلس الذي اقترحه من أهل الخبرة والعقل والحكمة لا يشارك في الحكومة والتي يجري اختيارها من خارجه حتى لا تتولد عند أعضائه اية مصالح في التشريع أو المنصب. فمن أراد أن يكون في الحكومة فعليه أن يعتذرعن المشاركة في المجلس.

كما أعتقد أنه لا يصح أن يكون لأي شخص عضوية لأكثر من دورتين في ذلك المجلس حتى لا تتجاوز مشاركته أكثر من ثماني سنوات.

لست أدعي أن هذه الفكرة متكاملة ومتقنة وليس فيها مجال للطعن. لكني على يقين أنها أفضل من طريقة اختيار ممثلي الأمة الذين يشرفون على عمل الحكومة ويراقبونها عن طريق الإقتراع العام لقوائم أحزاب لا يعرف أكثر المقترعين الشيء الكثير عن الأشخاص في تلك القوائم، وهي العملية التي يمكن فيها لأي جاهل أن يلغي صوت اي حكيم أو عاقل مما يلحق أكبر ضرر بمستقبل الأمة وينقض قوله تعالى: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”.

 

للحديث صلة…..

عبد الحق العاني

لندن في 20 آب 2023

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image